القراءة المجيزة

حجم الخط
3

لا يخفى على أحد أن قراءة النص الأدبي متعددة بتعدد القراء والاتجاهات التي يمثلونها في القراءة، ولذلك يمكننا الحديث عن عدة قراءات للنص الواحد.
إن قراءة رواية مثلا مع التلاميذ في الإعدادي أو الثانوي، ليست هي القراءة نفسها التي أقوم بها مع طلبة الماجستير أو الدكتوراه، لكل قراءة أهداف ومقاصد محددة، لكن تقديم قراءة في ندوة ستختلف عن أخرى تقدم في محاضرة، وأحرى أن نتحدث، أيضا، عن قراءة أكتبها في جريدة أو مجلة سيارة، أو محكمة، أو أعدها لتكون في كتاب، قد تكون الخلفية النظرية التي أنطلق منها في أي قراءة واحدة، لكن تصريف تلك الخلفية يختلف بحسب المقام والسياق والتلقي، ومن بين هذه القراءات ما أسميها: القراءة المجيزة.
استعملت مفهوم «القراءة المجيزة» أول مرة، حينما دعيت من لدن المركز الثقافي السعودي في الرباط لتقديم محاضرة، بعد ظهور نتائج أعمال لجنة جائزة البوكر للرواية التي راحت إلى محمد الأشعري ورجاء عالم، للحديث عن ملابسات أعمال اللجنة، ولماذا كان الاتفاق حول الروايتين، فكرت في هذا النوع من القراءة منذ مدة، لكن التجارب التي عرفتها في العديد من اللجان، وآخرها جائزة «كتارا للرواية العربية»، دعتني إلى اعتبار هذه القراءة ذات خصوصية، وبدون الانتباه إليها ستظل كل الأحاديث عقب نتائج أي جائزة تثير تحفظات ونقاشات لا طائل وراءها.
أعني بالقراءة المجيزة نوعا من القراءة يتصل بأعمال لجان الجوائز الأدبية عامة، التي تنتهي بمنح جائزة ما لعمل من بين عدة أعمال مترشحة، لقد تبين لي أن هناك عدة عوامل تتدخل في جعلها تؤشر على ترجيحها لفائدة عمل دون آخر، ومجموع هذه العوامل التي تكمن وراءها هي التي تحدد هذه القراءة، وقد تميزها عن غيرها.
إن أهم سمة تختلف بها القراءة المجيزة هي أنها أولا: جماعية (لجنة القراءة) لعدة أعمال بهدف فرز عمل متميز بمنحه الجائزة، قد تكون هناك مبادئ خاصة تحددها الأمانة العامة للجائزة «كتارا» مثلا، إما على شكل شبكة تقويمية تتحدد من خلالها عناصر معينة وتعطى لكل منها علامة، ومجموع العلامات هو الذي يحدد النص والفائز (ة) بحسب الترتيب، أو اعتماد مبادئ عامة تدققها لجنة الجائزة حسب أعضائها، وبما أن الأعضاء عادة ما يكونون متعددي المشارب والاتجاهات، فإن القراء سيختلفون بالضرورة في التقويم حسب الحساسيات النقدية والثقافية المتعددة، وهذه هي السمة الثانية، وتبعا للقدرة على الإقناع أو الدفاع عن وجهة نظر ما، من خلال النقاش الذي يكون بين أعضاء اللجان، يحصل التوافق عبر الإجماع أحيانا، أو التصويت أحيانا أخرى، فتذهب الجائزة إلى طرف دون آخر، وقد يؤدي التوافق إلى الحجب، السمة الثالثة.
تكشف هذه السمات الثلاث أننا أمام مفارقة: قراءة جماعية، مختلفة الحساسيات، تسعى إلى التوافق، قد يكون هذا الاختلاف إيجابيا حينا، وسلبيا حينا آخر، وهنا تكمن المفارقة: حصول التوافق بين المتخالفين والمختلفين، فلو كانت الجائزة يمنحها قارئ واحد لكان لردود الفعل «السلبية» ما يبررها؟ لكن القراءة الجماعية لا يمكن إلا أن تعكس آراء الجماعة، حسب رجحان كفة أصحابها، لذلك فالمعول عليه، ليس هو البحث عن لجنة لا تقوم على الاختلاف، ولكن على لجنة ذات مصداقية، وهذه هي المعضلة الكبرى التي تعترض الأمانات العامة المنظمة للجوائز.
لا تبرز مصداقية اللجنة فقط في ضوء أسماء أعضائها أو تخصصهم، ولكن أيضا، في مدى الالتزام بخصوصية القراءة المجيزة وملاءمتها لأهداف الإجازة، وعندما لا تكون المصداقية مرتبطة بقيمة العمل في ذاته، بغض النظر عن صاحبه، تتدخل الحساسيات المختلفة والمتناقضة، التي يخطئها العد، في التقويم: بعضهم يريد الجائزة لعضو من قطره، وآخر لا يريدها لأي كان ينتمي إلى قطره، كما أن بعضهم يستبعد آخر لأسباب شخصية أو سياسية أو ثقافية، وآخر ينطلق من الأسباب نفسها لجعلها لفائدة أحدهم، وهكذا دواليك، تتعدد الأسباب والفوز واحد؟
من الصعوبة بمكان الحديث عن «موضوعية» القراءة المجيزة، سواء كانت غربية أو عربية، غير أنه متى تم تغليب الموضوعية على الذاتية كان عمل اللجنة موفقا، وقد يحظى بالقبول على المستوى العام، لكن متى غلبت الذاتية كان ذلك مضرا بالجائزة، وكانت القراءة المجيزة موجهة لأسباب خاصة لا تخدم أغراضها النبيلة.
إن الارتقاء بالقراءة المجيزة، وتدقيق مبادئها لتتلاءم مع أهدافها البعيدة (ترجمة، تحويل إلى عمل درامي) من لدن ممارسيها، إلى المستوى المنشود مطلب حيوي، لأنه يبين بالملموس أن المكافأة ترصد للأعمال الجادة والجيدة، لأنها تسهم في تطوير الإنتاج العربي وتقدمِه خدمةً للمستقبل العربي، وحين يبرز من خلال نتائج لجان الجوائز ما يبرهن على مصداقيتها يرفع ذلك من مستوى الجائزة بين المترشحين، ويحد ذلك في الوقت نفسه من الترشح لأي كان لأنه سيدرك، من تلقاء نفسه، أنه دون المنافسة، وعليه بذل المزيد من الجهد قبل أن يترشح، وإلا فإنها ستتحول إلى «ضربة حظ» يرى كل واحد نفسه، مهما كان إنتاجه، مؤهلا لمصادفتها، وقد تصادفه؟

ناقد مغربي

سعيد يقطين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الحبيب / المغرب:

    ممتع كعادتك دوما

  2. يقول رامي .. الأردن:

    التساؤل المطروح حول ثقافة أعضاء القراءة المجيزة ..
    هل كل الأعضاء متخصصون في علم الرواية؟ ..
    ذهبت جائزة كتارا لأردني عام 2015 فهل يمكن أن ينالها أردني أيضا عام 2016 ؟
    هل اطلع كتاب الرواية على شروط الفوز قبل التفكير بالتقدم للجائزة ؟
    ما فلسفة أن يتقدم الروائي بروايته فيقول هاؤم اقرأوا روايتي لعلها تفوز ؟ ماذا لو امتنعت ادارة الجائزة عن استقبال أي رواية وقامت بالتنقيب عن أفضل رواية متكاملة عام 2015 ثم فاجأت الروائي بفوزه أليس ذلك أوقع في نفس المبدع وأكثر مصداقية ؟

  3. يقول S.S.Abdullah:

    يا سعيد يقطين كان هناك في نفس العدد والصفحة مقال آخر يتطرق لنفس الموضوع عن القراءة المُجيزة للمسابقات، في الأول كان الطرح تحت مفهوم نظرية المؤامرة (الشياطين والملائكة) فكل من يكون من ضمن ثقافة الـ أنا فهو يمثل اللون الأبيض أو الملائكة وكل ما عدا ذلك هو الشياطين أو اللون الأسود.

    في حين حكمة العرب تقول “لكل مقام مقال” وأضفت لها “ولكل سياق معنى أو دلالة” وأظن مقالك هو شرح ومثال عملي على ذلك، ومن وجهة نظري من لا يستطيع التمييز ما بين المقام والسياق لا يجوز أن يكون له كرسي في الإدارة أو التسويق فكيف الحال بمعيار التقييم أو النقد من أجل تشخيص إشكالياتنا بشكل صحيح، حتى يكون هناك إمكانية لوضع خطط تعالج الإشكاليات وتدعم الإيجابيات في تكوين مناهج تعليمية تساعد المجتمع في أن يتقدم ويتطور ويستطيع المنافسة في الأجواء الحرّة لأي وسط عولمي يتجاوز حدود سايكس وبيكو لدولة “الحداثة”.

    هناك حكمة عربية تقول “القانون لا يحمي المغفلين” فكيف بمن لا يُطيع الله حسب ما ورد في القرآن الكريم والسنّة، بحجة أنَّ فلان أو علان أفتى له؟! فإشكالية المذاهب التي تعتمد اسلوب “التقليد”، هو من سيتحمل الذنب في تلك الحالة، وصاحب الفتوى لا يحتمل عقوبة إجابة سائل السؤال، بحجة أنّه لو أصاب فله أجران، أمّا لو أخطأ فله أجر واحد، أي لا عقاب له على الإطلاق حسب مفهومهم للإيمان والعقيدة.

    أنا لاحظت وكأنَّ لغة الاستقراء والاستنباط (الحِكْمَة) تتعامل وفق مبدأ لا يعلم بالنيّات إلاّ الله، في حين لاحظت لغة التأويل (الفلسفة) تتعامل وفق مبدأ ليس أنها تعرف بالنيّات بالنسبة لجميع البشر فقط من خلال التأويل، لا بل وحتى الله ولا حول ولا قوة إلاّ بالله عندما تتكلم عن المقاصد الشرعية أو الإسلام الوسطي/الفلسفي، أي جعل هناك أكثر من إسلام تطبيقا لتقسيمات أرسطو وأفلاطون وغيرهم من فلاسفة الإغريق والفرس والهنود وغيرهم، فهل هناك تعدي على الله وحقوقه أكثر من ذلك؟! ولذلك أنا لا أظن يجب تكريم أي ثقافة وأي ابداع حصر نفسه في الـ أنا (البلطجيّة/الشبّيحة/المستعربين/المخزن) بعيدا عن الـ نحن (مقاومة الجهل والظلم والاستعباد والذل)، المشكلة ليست في الاسلام مع الإبداع، ولكن كل المشاكل تظهر ممن يقوم بفلسفة الإسلام ليُرضي بها النخب الحاكمة من أجل سد حاجات الـ أنا وهذا بالتأكيد على حساب الـ نحن.

    حيث هناك فرق ما بين البلاغة وما بين الإسلوبيّة، والإسلوبيّة هو علم له علاقة بلغات التأويل، بينما البلاغة هو علم له علاقة بلغات الاستقراء والاستنباط، والفرق بينهما من وجهة نظري على الأقل هو أنَّ الأسلوبيّة لا شأن لها بأي شيء له علاقة بالمصداقيّة إن كان من حيث معنى المعاني أو هيكل اللغة المستخدمة في التعبير عن أي فكرة، بينما البلاغة تمثل معيار المصداقيّة لتطابق معنى المعاني وهيكل اللغة عند التعبير عن أي فكرة.

    الفلسفة تقول الفكر أولا، بينما الحكمة تقول أنَّ اللغة أولا، ومن يرغب أن يتطور، يجب أن يتجاوز الفلسفة ويعتمد الحكمة، مشروع “صالح” سيكون باللغة الأم لكل من سيحضر دوراته، لأننا نعتمد كل لغات العالم، العولمة والتقنية وأدواتها فرضت تحديات حقيقية على دولة “الحداثة” إلى درجة وكأنّها تعاني أزمة وجود، والدليل على ذلك “اليونان” مهد الفلسفة لأرسطو وأفلاطون والتي عليها تم بناء فلسفة دولة “الحداثة” أو النظام البيروقراطي، خصوصا بعد انهيار الديون ما بين المصارف والبنوك عام 2008، وفي نفس العام رمى منتظر الزيدي حذاءه على ممثلي النظام الفاسد، وكأنَّ العولمة والتقنية وأدواتها تقول لنا أنَّ الشعب يُريد اسقاط النظام الذي يُنتج مثقف وسياسي وتاجر فاسد.

    ما لم ينتبه له المثقف والسياسي والتاجر لدولة “الحداثة” هو أنَّ العولمة وأدواتها التقنية بسبب الآلة لكونها آخر منتجات الحكمة الإنسانيّة، فرضت تحديات حقيقية ولذلك تعاني الآن دولة “الحداثة” للنظام البيروقراطي لنظام الأمم المتحدة أزمة وجود، دخول الآلة كحقيقة، وأصبحت جزء لا يمكن الاستغناء عنه من حياتنا اليومية، واعتماد موظف الدولة في النظام البيروقراطي على الآلة والعولمة وأدواتها التقنية، في أداء وظيفته بطريقة لا يمكن الاستغناء عنها، إن كان في الجانب المالي أو الإداري في زمن السلم والحرب، خصوصا بعد فرض مفاهيم الحوكمة الرشيدة من قبل البنك الدولي.

    هذه فرضت حقوق للآلة على المثقف والسياسي والتاجر ما زال كل منهم لم يستوعبها حتى الآن، فما لم ينتبه له المثقف والسياسي والتاجر في دولة “الحداثة”، بشكل مباشر أو غير مباشر، هو أنَّ العولمة أعطت أهمية للـ (الوقت واللغة والترجمة) إلى مستويات لم تصلها قبل عصر الآلة وتقنياتها من أدوات العولمة، وخير دليل على ذلك “اليونان” مهد فلسفة أرسطو وأفلاطون وبقية من تم بناء فلسفة دولة “الحداثة” عليها، بعد انهيار نظام الديون الربوي بين البنوك والمصارف عام 2008، والذي تصادف كان نفس العام الذي رمى منتظر الزيدي حذاءه على ممثلي النظام الفاسد لدولة “الحداثة” في تاريخ 17/12/2008 في أرض وادي الرافدين مهد الحكمة والحضارات الإنسانية على مر العصور، وكأنَّ الإنسانية استخدمت التقنية وأدوات العولمة لتقول أنَّ الشعب يُريد اسقاط النظام، الذي يُنتج مثقف وسياسي وتاجر فاسد بلا أخلاق ولا إنسانية في بث حي مباشر من بغداد وعلى آخر أدوات العولمة والتقنية في حينها.

    ولكي يكون هناك تكامل وتعايش إنساني ما بين أي مجموعة من البشر في أرض محددة المعالم، يجب أن تكون أي دولة تمثل اللُّغة لذلك المجتمع، وعلى جميع من وافق على الإقامة في أرض الدولة، أن يلتزم بمعنى المعاني الموجودة في قواميس لغة البلد، ويلتزم في محادثاته للتواصل مع الـ آخر وتعاملاته اليومية بهيكل اللغة العام، ولكن الإشكالية لقد تم تداخل أكثر من لغة، وهذا زاد من اشكالية الضبابيّة اللغوية، إن كان من ناحية لغة الدولة أو لغة الـ أنا ولغة الـ آخر داخل نفس الدولة.

    ولذلك من يرغب أن يجنّب الجيل القادم ما يواجه أهل “اليونان” الآن، من شبح الإفلاس، بالرغم من كونها عضو في الاتحاد الأوربي كما هو حال البرتغال واسبانيا وإيطاليا وفرنسا بل وحتى بريطانيا، أو الإنهيار كما إنهار الاتحاد السوفيتي في نفس توقيت تكوين الاتحاد الأوربي، يجب التفكير في تغيير جميع مناهج التعليم في دولة “الحداثة”، فالمناهج الحالية تنتج لنا “مفاوض جيد” ولكن في عصر العولمة وما فرضته من أهمية للـ (الوقت واللغة والترجمة) أصبح لزاما على مناهج التعليم أن تُنتج “مُنجز اتفاقيات جيد” أسرع من غيره، هذا إن أراد المنافسة في أجواء العولمة لتغطية مصاريفه والدولة من بعد ذلك، وقد جمعت الكثير لتشخيص هذه الإشكالية تحت عنوان (لماذا الحكمة تبني بينما الفلسفة تهدم؟!) ومن يرغب بحلول فليبحث على يوتيوب عن (مشروع صالح لتطوير الحوكمة الرشيدة بإضافة بُعد اللغات).

    ما رأيكم دام فضلكم؟

إشترك في قائمتنا البريدية