لم يعد ثمة شك أن نظام دمشق، وبعد أربع سنوات من الثورة، يعاني انكساراً عسكرياً حقيقياً. دفع النظام، باستخدامه أقصى درجات القمع والعنف الدموي، ثورة الشعب السوري إلى العسكرة، ظاناً أن المواجهة العسكرية ستنتهي لصالحه وإلى تلقين الشعب درساً يفوق درس مطلع الثمانينات. ما غاب عن النظام أن ثورة الشعب السوري هذه المرة شأن مختلف، وأنها جزء من حركة تحول تاريخي، يطال المجال العربي كله. الدور الكبير الذي لعبه الدعم الإيراني والروسي، والتدخل واسع النطاق الذي قام به حزب الله، وما تعهده من حشد طائفي، عراقي وأفغاني وباكستاني، لدعم النظام، ما كان له أن يغير من نتيجة المعركة. ما فعله الدعم والتدخل الخارجيان كان أن أطال زمن المعركة وفاقم من حجم الدمار والمعاناة. الصراع على سوريا ومستقبلها، كما الصراع على مصر وليبيا واليمن وتونس والعراق، ومهما بلغت الآلام والدمار، لا يمكن له أن ينتهي إلا إلى نتيجة واحدة، طال زمن المعركة أو قصر. وهذا ما أصبح واضحاً في سوريا اليوم. ولكن هذا لا يعني أن ثمة طريقاً واحداً للوصول إلى هذه النتيجة. وربما كان هذه هو التحدي الأكبر أمام أطراف الصراع اليوم.
خسارة النظام وتراجعه الحثيث في جبهتي الشمال والجنوب، وأمام تنظيم الدولة في الشرق، لم تعرفها مجريات المواجهة منذ أربع سنوات. تتخلى قوات النظام، وبصورة غير مخططة، عن بعض من أهم مواقعها، بعد خسائر فادحة في المعارك مع الثوار السوريين. وليس ثمة من مؤشر أن بإمكان قوات النظام استرداد هذه المواقع، بالرغم من ادعاءات أنصار النظام بأن ما يجري ليس سوى حرب طويلة من الكر والفر، وأن التراجعات ليست سوى إعادة انتشار تكتيكي. هناك من يرى أن القوة الرئيسية خلف هذا المتغير في الوضع يعود إلى الدعم المتزايد التي تقدمه دول مؤيدة للثورة، مثل تركيا والسعودية وقطر، وإلى الضغوط التي مارستها هذه الدول على الثوار لتوحيد جهودهم في ساحة الحرب. وهناك من يرى أن السبب يعود إلى الإنهاك المستمر للقوات الموالية للنظام، بشرياً ومعنوياً، وتراجع قدرة النظام على الحشد، سيما بعد الخسائر الفادحة التي أوقعت بالمناطق العلوية، الخزان البشري لجيش النظام وأجهزته الأمنية. آخرون يرون أن أربع سنوات من الحرب تسببت في استنزاف فادح لمقدرات إيران المالية والعسكرية، واستزاف بشري مؤلم لحزب الله، وأن الأخير بصورة خاصة لم تعد لدية القدرة على الدفع بقوات كبيرة لمساندة النظام في جبهات القتال المختلفة.
مهما كان الأمر، والأرجح أن متغيرات الحرب تعود إلى كل هذه الأسباب مجتمعة، فالواضح أن النظام لم يعد قادراً على الحفاظ على مواقعه، وأن قواته في حالة انسحاب بطيء، ولكنه مستمر. فأي طريق يمكن أن تنتهجه سوريا في المرحلة المقبلة؟
إحدى الطرق أن تدرك الأطراف المعنية، التي وقفت ولم تزل إلى جانب النظام، سيما روسيا وإيران، أن ميزان القوى على أرض المعركة قد تغير، وأن نهاية نظام دمشق، وشيكة كانت أو لا، أصبحت مؤكدة. بعد سنوات من الموت والدمار واسع النطاق للمدن والبلدات السورية، بات من الضروري بدء مفاوضات جادة وذات معنى، تضع نهاية للصراع، وتنقل السلطة بأسرع صورة ممكنة من المجموعة الحاكمة، التي ارتكبت كل هذه الجرائم الفادحة بحق سورية والسوريين، ولم يعد ثمة شك في خسارتها المعركة، إلى ممثلين لكافة طوائف وفئات الشعب السوري، بما في ذلك البعثيون غير الملوثين والعلويون. هذا طريق تقليل الخسائر، والحفاظ على ما تبقى من الآلة البيروقراطية للدولة السورية، ومساعدة السوريين على الانتقال من مناخ الحرب الأهلية إلى مناخ إعادة بناء اللحمة الوطنية، ومواجهة تحديات الحرية، سواء على مستوى انقسام الوطن والشعب، مساعدة ملايين المهجرين السوريين على بناء حياتهم من جديد، ومواجهة التهديد الذي تمثله القوى المسلحة المتطرفة. في سياق هذا الانتقال التفاوضي، يمكن بالتأكيد التعامل مع متطلبات الإقليم من سوريا الجديدة، كما مع متطلبات سوريا من الإقليم، ومقابلة التوازنات الاستراتيجية لكافة الأطراف مع ما يمكن أن تقدمه هذه الأطراف لمساعدة السوريين على استئناف حياتهم ومعالجة جراحهم.
الطريق الثاني، أن يستمر النظام في عناده وحربه على شعبه، وأن يستمر داعموه في مساعدته على استمرار الحرب. المآل المحتمل لهذا الخيار هو تدمير ما تبقى من سوريا، بما في ذلك عاصمتها، بذات الصورة الانتقامية التي دمرت بها حمص وحلب ومدن درعا وإدلب، في تعبير أقصى لما قاله أحد أركان النظام في بداية الثورة: «إن اضطررنا إلى ترك الحكم والسلطة، فسنترك سوريا خلفنا بدون أن يتبقى فيها حجر على حجر.» لن يغير هذا الخيار من مصير النظام النهائي، وإن كان سيطيل مدى سقوطه واقتلاعه؛ وفي هذه الأثناء، ستتراكم الأحقاد الطائفية والمذهبية بين فئات الشعب، وتتسع الفجوة الدموية بين السوريين وكل من ساعد النظام في حربه على شعبه، وتتعمق حالة الانقسام السياسي والجهوي داخل البلاد، وتصبح عملية إعادة بناء سوريا مسألة بالغة التعقيد والتكاليف. ولن ينعكس هذا الوضع على سوريا والسوريين وحسب، ولكنه أيضاً سيطال الأقليم في كافة الاتجاهات، سيما إن تعززت قدرة تنظيم الدولة على السيطرة على المناطق التي تقع الآن تحت سيطرته، وقدرة القوى الكردية على السيطرة على ما تسيطر عليه، وأصبح من الصعب التحكم في حدود سوريا الطويلة مع جوارها.
أما الطريق الثالث، وهو ما باتت تدندن به بعض الدوائر القريبة من النظام وحلفائه، فهو التحصن في دمشق بصورة ثانوية، ومناطق الساحل ذات الأغلبية العلوية بصورة أساسية، والمراهنة على بروز ظروف إقليمية ودولية مواتية لتقسيم البلاد وولادة دولة علوية. وسيكون للخط الواصل بين حمص والحدود مع لبنان، عبر القلمون، المحدد الرئيسي لما إن كان النظام سيستطيع الصمود في دمشق طويلاً والحفاظ على الاتصال الجغرافي بين دمشق والساحل. مشروع تقسيم سوريا إلى كيانات مذهبية ليس جديداً، ويعود إلى بداية الانتداب الفرنسي. وبالرغم من أن الحركة الوطنية السورية نجحت في هزيمة المشروع خلال الأربعينات، فليس من المستبعد، على الأقل في ضوء الصعود القومي الكردي، وتعبيرات القلق الغربية على مصير الأقليات، أن يتصور البعض اليوم أن الدولة العلوية خيار ممكن للتخلص مما يطلق عليه أحياناً بالهيمنة السنية في المشرق. وإن أخذ العامل الطائفي في الحشد الذي اصطف خلف النظام خلال السنوات الأربع الماضية في الاعتبار، فالأرجح أن هناك في بعض الدوائر الطائفية الإقليمية من يرى أن دولة علوية أفضل بكثير من سوريا موحدة، تسيطر عليها الأغلبية السنية.
الحقيقة، أن هذا خيار وهمي، وهو مثل سابقه، لن يؤدي إلا إلى المزيد من الخسائر والآلام، ويؤول في النهاية إلى الفشل. لم يكن ثمة ركيزة جغرافية أو سياسية – اقتصادية واحدة لبروز دولة علوية في سوريا، لا في عهد الانتداب، ولا اليوم. إن كان نظام ما بعد الحرب العالمية الأولى جعل من سوريا نفسها كياناً إشكالياً، فكيف إن قسمت سوريا إلى كيانات أصغر؟ الدول الإقليمية الرئيسية، مثل السعودية وتركيا، وحتى الأردن، لن تقبل بتقسيم سوريا. من جهة أخرى، لن يستطيع العراق، الذي يعاني من انهيار داخلي، ولا حزب الله، الذي يواجه معارضة جمة داخل لبنان، توفير دعم كاف لبقاء الدويلة العلوية. إن سقط النظام في دمشق وواصل التحصن في منطقة الساحل ذات الأغلبية العلوية، فسينتهي إلى جر كارثة تاريخية كبرى على وجود العلويين في سوريا ومصيرهم. مهما كانت الأوهام المؤسسة لمثل هكذا خيار، فإن الحقيقة المجردة أن ليس ثمة حصن علوية في سوريا.
تفاوض سريع لانتقال السلطة هو الخيار الأفضل لكل الأطراف، وهو الخيار الذي تفرضه حسابات العقل والقيم الإنسانية، على السواء.
كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
د. بشير موسى نافع
تفاوض سريع لانتقال السلطة هو الخيار الأفضل لكل الأطراف،
– انتهى الاقتباس –
بيان جنيف الصادر في 30 يونيو 2012 (“الحكومة الانتقالية”)، لإنهاء الحرب، ولبدأ العمل حول تأسيس الجمهورية السورية الجديدة.
الآن مرت 3 سنوات على هذا المؤتمر والنظام رافض انتقال السلطة
فمن هو الطرف المعطل يا دكتور بشير ؟
الأسد أو نحرق البلد – وها هي البلد احترقت ولم يزل الأسد
ولا حول ولا قوة الا بالله
مقال غني و يتكلم عن حال سوريا بطريقة واعية و ذكية. ستذكر أجيالنا السورية الدكتور بشير نافع أطال في عمره ، كأحد النبلاء الذين دافعوا بقوة عن حق الشعب السوري في العيش بحرية و كرامة و عن تضحياته العظيمة للإنتصار على أحد أبشع الأنظمة الهمجية و الطائفية الدموية التي مرت في التاريخ البشري و الذاكرة الإنسانية. شكرا و لك كل التحية دكتور بشير.