رسالة برلين: بين الانصياع لإسرائيل وتنامي الوجود العربي الإسلامي

هذه هي المرة الأولى التي أزور فيها ألمانيا. جئت للمشاركة في المؤتمر الأوروبي الثاني لمناصرة أسرى فلسطين. وسأعود للحديث عن موضوع الأسرى والمؤتمر في مقال لاحق. لكني سأقصر ملاحظاتي على برلين العاصمة التاريخية لألمانيا والتي توحدت بطريقة خلاقة بعد إنقسام دام نحو 45 سنة.
كنت في الماضي أتجنب حط الرحال في هذا البلد عن عمد، لأن ما أنتجته من فكر فاشي عنصري فوقي قد ساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في ضياع فلسطين. الأوروبيون إضطهدوا اليهود والألمان أبادوا منهم الملايين والعرب الفلسطينيون دفعوا الثمن. فما عرف بالمسألة اليهودية لم تكن على الإطلاق مشكلة عربية بل أوروبية بامتياز للطرفين المضطهَـد والمضطهـِـد. وللتكفير عن ذنوبها إعتمدت ألمانيا سياسة التذلل والانصياع والتدليل والتعويض والدعم اللامحدود للكيان الصهيوني بل وفي أحيان كثيرة يزايد سياسيو الألمان في دعم إسرائيل على الولايات المتحدة وعلى بعض الأحزاب الصهيونية. لقد أطلقت رئيسة الوزراء أنجيلا ماركيل تصريحا مؤخرا أثار إستهجان حتى بعض اليمينيين من المناصرين لإسرائيل عندما إعتبرت أن أمن إسرائيل جزء من الأمن القومي الألماني وأن أي إعتداء على إسرائيل يعني اعتداء على ألمانيا. إلى هذا الحد وصل الانصياع لإسرائيل من النخب الحاكمة الألمانية. بالإضافة إلى ذلك فألمانيا ما زالت تدفع تعويضات لإسرائيل عن جرائم النازية. وهو أمر غريب من الناحية القانونية لأن إسرائيل أصلا لم تكن موجودة وأصبحت حسب القانون الدولي دولة في 11 أيار/مايو 1949 بعد أن صوت مجلس الأمن بقبولها عضوا في المنظمة الدولية باعتبارها «دولة محبة للسلام» كما نص على ذلك القرار. توصلت ألمانيا الاتحادية (الغربية سابقا) إلى إتفاق حول التعويضات وقع عليه عام 1953 تقدم للأفراد وللدولة. وهناك تعويض عن الموت وعن الأحياء الذي تعرضوا للاضطهاد أو المضايقة أو التمييز، وتعويض عن الممتلكات وعن الحسابات البنكية والودائع وغيرها. لا أحد يعرف بالضبط قيمة التعويضات لكنها بالمليارات «والحسابة بتحسب» على رأي عادل إمام. فقد ذكرت دراسة صادرة عن مركز المعلومات الألماني أن مجموع ما قدمته ألمانيا لإسرائيل منذ إنشائها وحتى عام 1995 فقط يزيد عن 95.6 مليار دولار منها 26 مليار قدمت لأفراد في إسرائيل وخارج إسرائيل كتعويضات عن أقارب قتلوا أو ممتلكات دمرت. هذا غير المساعدات العينية والعسكرية والتعاون الاستخباراتي وتبادل الخبرات والتكنولوجيا وتسهيل جميع أنواع المعاملات وإعتبار إسرائيل فوق كل إعتبار، لا يجوز نقدها أو التعرض لتاريخها أو إنكار أو التقليل من حجم المحرقة. ويتربع في وسط برلين تذكار خاص بالمحرقة بني على شكل مقبرة كبيرة تضم أجساما على شكل قبور مرتبة بعناية لتشير إلى أن المحرقة كانت عملا منظما لا مجال فيع للرمزية أو الايحاء لإبقاء ذكرى المحرقة حية ويقال إن رئيس بلدية برلين إعترض على موقع النصب الكبيرالذي يحتل 19,000 متر مربع لكنه لم ينجح في مسعاه. وقد افتتح المكان عام 2005 في الذكرى ال 65 لانتهاء الحرب العالمية الثانية ويقع تحت المكان مركز معلومات يوثق كل ما يتعلق بالمحرقة. ولقد قررت ألمانيا أخيرا أن تبيع إسرائيل ثلاث غواصات حربية قادرة على حمل رؤوس نووية بتخفيضات تحمل دافعي الضرائب الألمان ثلث التكلفة وذلك لتعزيز قدرات إسرائيل الدفاعية ضد الخطر الإيراني المزعوم والذي تضخمه إسرائيل عمدا لابتزاز الدول الغربية كما إبتزتهم في الماضي مرة بسبب الهولوكوست ومرة بسبب صواريخ صدام حسين ومرات بسبب صواريخ حزب الله وحماس. لتلك الأسباب لم أزر ألمانيا ولم أكن مضطرا لذلك كما هو الحال في كثير من الرحلات التي لم أمكن أملك حق الإعتراض فيها حتى لو كانت أفغانستان أو إثيوبيا أو بوتسوانا أو عراق ما بعد الاحتلال.
أنصار فلسطين داخل الحكومة الألمانية والبرلمان نادرو الوجود لأن من يجاهر بتأييده للقضية الفلسطينية يدفع الثمن باهظا كما قالت لي أنيت غروث عضوة البرلمان اليسارية التي رافقت أسطول مافي مرمرة عام 2010 وأدلت لي بحديث مطول سأحاول نشره لاحقا.
«تأييد فلسطين يعني عند البرلمانيين أنك معاد لإسرائيل أي معاد للسامية وهي تهمة لا يتحملها أحد في هذه البلاد»، قالت لي في حديثها على هامش مؤتمر التضامن مع الأسرى.

برلين مدينة موحدة رغم ذكريات الانقسام

الشيء المدهش أنك لا تشعر بأن برلين كانت مقسومة بين شرقية وغربية لولا المعالم السياحية التي يستفيد منها الألمان وتدر دخلا كبيرا. في هذه النقطة التي تدعى شيك بوينت شارلي، يقف جنديان واحد أمريكي وآخر ألماني يرفعان علمي البلدين ليشيرا إلى البوابة التي كانت تقسم الشرقية عن الغربية. وقرب هذه النقطة توجد معالم سياحية تشير إلى الجدار وسينما ثلاثية الأبعاد تعيد لك ذكريات الجدار كأنه قائم الآن وقطعة صغيرة أبقيت من الجدار لأخذ الصور التذكارية. وعلى الأرض يوجد صفان طويلان من البلاط المتساوي في الطول والعرض يشيران إلى مكان الجدار الذي فكك وأصبح جزءا من التاريخ بتاريخ 9 نوفمبر 1989 لينهي بذلك لا قسمة البلدين فحسب بل ليبدأ تفكك وانهيار كتلة الدول الإشتراكية وليعطي الولايات المتحدة فرصة التفرد بمركز الدولة العظمى حيث بسطت ذراعيها طويلا إلى أن تغيرشيء من موازين القوى في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين بعد نهوض مجموعة من القوى ليتحول العالم إلى التعددية القطبية التي يعيشها اليوم. وعلى مقربة من هذه النقطة توجد السفارة الأمريكية. أما السفارة السوفيتية فتبتعد قليلا إلى الشرق حيث كانت أكبر سفارة في العالم لموسكو وتحتل مربعا كاملا تتقاطع فيه أربعة شوارع عريضة. جيل جديد ولد أو نضج في عهد وحدة الألمانيتين يقرأ عن الانقسام في كتب التاريخ. أما الجيل الأكبر سنا فما زال يروي الكثير من القصص عن أيام الانقسام. فبعد أن أعلنت الوحدة رسميا بتاريخ 3 أكتوبر 1990 وتحول هذا اليوم إلى عيد وطني، كان الشرقيون يشكون من فقد إمتيازاتهم أيام الاشتراكية حيث كان التعليم والطب والسكن مجانيا والعمل كان مضمونا ولا أحد يستطيع طرد عامل من عمله. أما الألمان من الغربية فكانوا يشكون أن الجزء الأكبر من الميزانية كان يصرف على إعادة تأهيل الشرقية ومصانعها البالية وتكنولوجياتها المتخلفة وكانوا يشكون من ارتفاع البطالة لأن الشرقيين بدأوا يقبلون العمل بأسعار متدنية خوفا من الفقر والجوع الذي لم يتعودوا عليه. والآن بعد خمس وعشرين سنة لا تكاد تعثر على أي فارق بين الأجزاء الألمانية التي كانت مقسمة. لقد تمكن الاقتصاد الألماني اليوم أن يصبح رابع أقوى إقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة والصين واليابان ولتجلس رئيسة الوزراء مركيل على أريكتها وزعماء أوروبا يأتون إليها صاغرين لتفرض شروطها علىهم وعلى منطقة اليورو وتهدد دولة مثل اليونان وإسبانيا وغيرهما بالطرد من المجموعة إذا لم يقوما بإصلاحات جذرية في نظمها المالية والاقتصادية.

العرب والمسلمون في ألمانيا

في ألمانيا يوجد أكبر تجمع للأتراك في العالم خارج تركيا. وقد يزيد عددهم عن ثلاثة ملايين من بينهم مليون ونصف يحملون الجنسية التركية. منتشرون في كل مكان ومحلات الشاورما التركية تحتل كافة الزوايا وتقاطعات الشوارع والأسواق. وكثير من الأتراك يتمسك بالجنسية التركية فهم أتراك في ألمانيا. وسبب عدم التخلي عن الجنسية هو الحرمان من امتيازات الميراث في البلد الأم إذا تخلوا عن جنسيتهم الأصلية، كما قيل لنا. يستفيدون من الإقامة الدائمة وفي نفس الوقت يعودون لوطنهم للبناء والتعمير والاستثمار والزواج والميراث. الحقيقة أن الأتراك جاؤوا إلى ألمانيا بدعوة واتفاق بين الحكومتين في بداية الستينات عندما بدأت ألمانيا الغربية تنهض صناعيا وبحاجة إلى المزيد من العمالة الوافدة. أما اليوم فبعض الألمان أصبح يرى في الأتراك والمسلمين بشكل عام عبئا على البلاد يخشون تأثيرهم على الحياة العامة ويفضلون العمال من أوروبا الشرقية الذي يشاركونهم الخلفية الثقافية والدينية. لكن كما يقولون «الوقت الآن متأخر» فهؤلاء جزء أساسي من المجتمع تصل نسبتهم إلى نحو 4٪ ومن السهل أن ترى التركي يسير أمام زوجته ومعهم أربعة أطفال أو أكثر مما يثير الحنق لدى الألمان والتخوف من أسلمة المجتمع.
لقد التقيت في برلين بعدد كبير من الفلسطينيين. قال لي أحدهم إن العدد قد يزيد عن 160,000 من بينهم ثلاثون ألفا في برلين لوحدها. كثير منهم وصل إلى هذه البلاد أيام ألمانيا الشرقية التي كانت تقدم العديد من الامتيازات للفصائل الفلسطينية وخاصة اليسارية منها. وقد التقيت بعدد كبير من أنصار الجبهتين الديمقراطية والشعبية. جاؤوا طلابا واستقر بهم الأمر هنا. ثم جاءت موجة كبرى من الفلسطينيين بعد الحرب الأهلية في لبنان في منتصف السبعينات وخروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت عام 1982. لقد كانت التسهيلات التي تمنحها ألمانيا الشرقية للفلسطينيين كثيرة. تقطعت بهم السبل ووجدوا أنفسهم بعد الوحدة في ألمانيا الموحدة ذات الفرص العظيمة. الشيء الذي أثار إعجابي أن الفلسطينيين هنا في غالبيتهم الساحقة من المهنيين والمتخصصين وخاصة الأطباء والمهندسين والمعماريين. ولا يوجد هنا جالية فلسطينية عادية كما هو الحال في الولايات المتحدة من الذين هاجروا فقط لكسب عيشهم. تعرفت على الكاتب الفلسطيني الذي قرأت له كثيرا فؤاد عبد النور وأهداني كتابه «عشنا وهرمنا وشفنا» (2014) ووعد بإرسال كتابه «الجليل والأرض والإنسان». والتقيت بالدكتور عصام حداد ـ أحد قيادات العمل الوطني في بيروت السبعينات والموسوعة التاريخية لكل ما حدث مع الثورة الفلسطينية منذ إنشائها 1965 إلى اليوم وخاصة ما يتعلق بجبهات اليسار. ومن الذين التقيتهم الدكتور خالد حمد أحد الذين ساهموا في تنظيم الجاليات الفلسطينية في المهجر الأوروبي وبدأ بفكرة مؤتمر التضامن مع الأسرى.
الشيء الذي خرجت به من الزيارة الأولى أن برلين مدينة عظيمة ونظيفة وخضراء تفتح ذراعيها لمن يحبها لكن بشرط أن تبتعد عن التحريض ليس ضد السياسة الألمانية فهذا مسموح به بل ضد إسرائيل وتزويرها للتاريخ وابتزازها دول العالم بما ارتكب من مجازر ضد اليهود بالتاكيد ليس على أيدي العرب أو الفلسطينيين.

٭ كاتب فلسطيني

عبد الحميد صيام

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول mohamed lakhdar:

    على الحكام العرب ان يفعلوا شئيا لاقناع المانيا بظلم الصهاينة للفلسطينيين.

  2. يقول قيس مراد قدري:

    سعدت كثيرا بالتعرف اليك في مؤتمر نصرة أسرى فلسطين ولعل أكبر حسنات هذا النوع من المؤتمرات هو لقاء قدامى الأصدقاء والتعرف على أصدقاء جدد يربطنا جميعا هم مشترك هو الوطن الفلسطيني.
    مقالك جيد وفيه توصيف دقيق لبلد كان سببا رئيسا في نكبتنا.
    تحياتي لك د. عبد الحميد.

إشترك في قائمتنا البريدية