الدرزي الجيد هو… السني، حسب أبو محمد الجولاني، والعلوي الجيد هو السني أيضا. وليس العلوي السيء من ارتكب جرائم بحق مواطنيه الأخيرين، بل هو غير السني، أي الذي لا يعتنق العقيدة التي يؤمن بها أبو محمد الجولاني شخصيا. ما هو مصير هذا العلوي السيء، والدرزي السيء أيضا؟ لا يشعر محاور الجولاني في قناة «الجزيرة» بالحاجة إلى طرح السؤال، والجولاني لم يجب على سؤال لم يطرحه عليه محاوره الطروب. لكن ما لم يقله الرجل تقوله مرجعيات تياره: إن هؤلاء مرتدون، مباحو الدم بالتالي. وبصرف النظر عن أن الردة المفترضة لغير السنيين من المسلمين ليست واقعا تاريخيا محققا بحال، وبصرف النظر عن الشرعية الأخلاقية والعقلية لحكم الردة الآن وفي كل وقت، ليس هؤلاء المرتدون المزعومون مباحي الدم لشيء فعلوه، بل لشيء يكونونه. نتكلم على إبادة وعلى تأسيس للإبادة لأن جريمة العلوي هي علويته، وليست أشياء يحتمل أنه فعلها أو لم يفعلها، وجريمة الدرزي هي درزيته، أي كيانه، وليست شيئا من نصاب الفعل أيضا.
هل هناك سنيون سيئون؟ وفقا لمنطق زعيم جبهة النصرة، السني جيد ماهويا، لكنه يكون سنيا سيئا حين لا يكون سنيا كفاية، وفق المسطرة التي يرتضيها له الجولاني (سلفي متجهم، يطمس كيان امرأته، ويكره من لا يشبهه). في كل حال، سوء السني مسألة فعل وليست مسألة ماهية. وهو ما يضع السنيين خارج دائرة الإبادة. ولأن سوء السنيين مسألة فعل محتمل، فإن السني الذي يقاتل إلى جانب النظام، ويقتل الثائرين على النظام، أقل سوءا بكثير من السني الذي قد يكون علمانيا أو عضوا في حزب يساري أو ليبرالي، أو ناشطا في مجال حقوق الإنسان. مشكلة السني العلماني أو اليساري… تطاول كيانه مثل العلوي والدرزي، أما السني المجرم فمشكلته في فعل قد يتوب عنه.
لكن ماذا يكون العلوي السني أو الدرزي السني؟ إنه علوي دون علويته ودرزي دون درزيته، أي كائن مقطوع الرأس على المستوى الرمزي، يصون رأسه الفيزيائي بأن يسلم رأسه الرمزي لنطع إداريي السنية السياسيين. خيارات الدروز والعلويين، حسب الجولاني، تتراوح تاليا بين إبادة رمزية تلغيهم كجماعة، أو إبادة فعلية تلغيهم جماعة وأفرادا.
إشتراط جدارة الناس بالحياة والكرامة بما يكونون لا بما يفعلون هو بالضبط تأسيس الإبادة. المصير الذي سبق أن طال مسلمين ويهودا في أسبانيا أيام «حروب الاسترداد»، ويهودا وغجرا ومثليين على يد النازيين، وسكان أمريكا الأصليين (الهنود الحمر)، وبصورة أقل نسقية أصاب أعراقا وجماعات ثقافية كثيرة. كل نفي للمساواة الجوهرية للناس، وتساوي حيواتهم ودمائهم وكرامتهم، هو تأسيس لأشكال مخففة أو مشددة من الإبادة. وما يؤسس، في المقابل، لنقض الإبادة هو تساوي الناس في الماهية والكيان، وتجريم التمييز على أساس العرق أو المعتقد أو الجنس.
إذا كانت مشكلة العلوي هي أنه علوي، فإن حلها يتراوح بين إبادة علويته أو إبادة حياته، كما سبق القول. وبينما يعرض أبو محمد الجولاني تسامحا حين يكتفي بإبادة علوية العلويين ودرزية الدروز، فليس سجل تياره ما يحول دون اعتبار إبادة علوية العلويين والدروز، أو قطع رأسهم الرمزي، غير كاف، وينبغي قطع رؤوسهم فعليا. هذا لأنهم منافقون، قد يقال، يضمرون غير ما يجهرون، وأنهم إنما أعلنوا إسلامهم السني القويم خوفا من السيف. وهذا ليس ممكنا مجردا، قد يقع أو لا يقع، بل إنه مكتوب في العملية الدينية السياسية ذاتها التي أسهم في إطلاقها وصعد بفضلها الجولاني، وقد يظن أنه يتحكم بها، لكنها ستجرفه هو ذاته إن حاول وقفها عند حد ليس هو حدها الذاتي: بناء الجماعة الدينية السياسية المتجانسة التي تتشكل من ملايين النسخ البشرية المتماثلة، مظهرا ومخبرا.
وليس هناك ما يمكن تسويغه سياسيا في مشروع بناء أمة الأطهار هذه، وما يتأسس عليها من إبادة للأغيار. فالجولاني كان واضحا في أن مشكلة العلوي ليست في جرائمه المحتملة (تسقط عنه إن صار سنيا)، بل في عقيدته. بعبارة أخرى، المشكلة ليست سياسية، ليست طغيان النظام الأسدي ووجوب محاسبة أركانه على جرائمهم، بل مشكلة عقيدة وماهية. وفي هذا يتضاءل الفارق بين علوي مجرم مثل بشار الأسد أو جميل حسن، وبين علوي معارض للنظام مثل أسامة محمد أو سمر يزبك، أمام الفارق بين علوي مجرم مثل بشار وبين»علوي سني» مثل بشار نفسه، لو اهتدى إلى عقيدة الجولاني الصحيحة. الفارق الأعلى هو فارق العقيدة، وليس بحال فارق الفعل.
لكن هذا تفكير إجرامي، ينتمي بجدارة إلى دوائر تنتسب إليها ظواهر التمييز العنصري والصهيونية والنازية. وما يزيده إجرامية أنه يأتي من رجل لا نعرف له صورة أو تاريخا أو أصلا أو فعلا. كان في الظلام، تعرفه، إن عرفته، دوائر المخابرات السورية والعراقية، وتعرفه دوائر المنظمات الجهادية السرية التي تشبه في سريتها وفي قسوتها الوحشية أجهزة المخابرات أكثر مما تشبه أي شيء آخر.
لعلنا لا نخطئ بالقول إن إبادة السياسة طوال عقود على يد الدولة الأسدية فتحت الباب لسياسة الإبادة، ممثلة بداعش والنصرة ومن اهتدى بهديهما. لكن حيال مثل كلام الجولاني يتعين أن ننبذ المزاج التحليلي، ونأخذ قرارا قطعيا واضحا بالإدانة. كلام الجولاني يؤسس لجريمة لا تنتهي. والتذرع بجريمة قائمة لا يغير من حقيقة أن كلام الرجل المجهول تأسيس لجريمة بلا نهاية.
ياسين الحاج صالح
الصراحة لم أشاهد المقابلة و لا يهمني كثيرا هذا الشخص, لكني أقول أنه عند زوال نظام الأسد بإذن الله فإن طريقة هذه التفكير ستختفي أيضا و ستزول داعش و أمثالها و معها أفكارها. ليس الخوف صراحة من أفكار كهذه تؤسس لما يصفه الكاتب بالإبادة الرمزية أو الفعلية لأنها لا تسيطر على أذهان السوريين و لم تكن يوما جزءا من تركيبتهم الدينية و الفكرية, و لن تكون. لكن ينبغي الاعتراف, فيما يتعلق بالعلويين على الأقل أن ما أصبح يسيطر على كثير من السوريين , بعيدا عن القاعدة و داعش ,منشأه عاطفي نفسي و ليس ديني أو فكري يتركز في الانتقام, لكن الكل يقضل اللف و الدوران و عدم مواجهة هذا الأمر , و المثقفين و رجال الدين العلويين من بين هؤلاء,كما كان كثيرمن السوريين يفضلون اللف و الدوران لعقود و عدم الاعتراف بالواقع حتى صرنا لما نحن فيه.