السودان وجنوب السودان: سؤال بأثر رجعي

حجم الخط
0

اليوم، وبعد أربعة عشر شهرا من تاريخ توقف إنتاج النفط في دولة جنوب السودان بسبب الخلافات مع السودان حول قيمة رسوم العبور والتصدير عبر الموانئ السودانية، عادت حكومة سلفاكير وأمرت الشركات بإعادة الضخ والتصدير عبر الأنابيب السودانية. هذا القرار، الذي جاء متأخراً لم يترك بدا غير السؤال بأثر رجعي لحكومة (سلفا)، وفي البال معاناة الملايين من الجنوبيين، وبينهم مئات الذين شاركوني في الخرطوم انتاج الأغنية المصورة (يوم بيوم نبيع الكمبا) للمطرب الراحل خليل اسماعيل، التي اجتهدنا في انتاجها وقمنا ببثها (مجاناً) في عدد من القنوات الفضائية السودانية سعيا لتحفيز الاخوة الجنوبيين للتصويت للوحدة عوضاً عن الذهاب سبيل حالهم قبيل الاستفتاء الذي أتانا بكل أسف انفصالاً في المحصلة النهائية. سؤالي، ماذا جنى سلفا وحكومته من قرار إيقاف ضخ النفط سوى المعاناة والحروب بتأثيراتها المدمرة التي لطالما خلّفت البؤس والفقر والجوع لشعب الجنوب؟ أذكر في بدايات العام الماضي والطائرة تغادر بنا مطار فرانكفورت بعد رحلة قصيرة من مطار هيثرو في العاصمة البريطانية، واذا بخبير نفطي أوروبي الجنسية، شاب في مقتبل العمر يجلس بجواري.
وقبل أن ندخل في ثنايا الحوار والتعارف وتبادل التحايا اجتاحتني مشاعر استياء لأن جاري في الرحلة الطويلة اعجمِيٌّ، لا سيما وأني في حالات مغادرتي لعاصمة الضباب أتوق للحديث باللغة الأم. كانت وجهة الطائرة للخرطوم في رحلة مباشرة من مطار فرانكفورت، وكان من البديهي أن جاري سيحط الرحال معي في السودان، سألني من أكون؟ أجبته بعد التحية، فانداح وانشرحت له بدوري تلقائيا في الحديث، ليس فقط لكونه (لندني) بلدياتي، ولكن لأنه المستشار المعني بشؤون النفط في دولة جنوب السودان الوليدة، لذلك ساقني حب الفضول للتركيز معه، فهو خير من يحدثني عن ذهان ما بعد الولادة ‘الحالة التي تُعانى فيها الأم عادة من الهلوسة والأوهام والهذيان’ فما بالك بولادة دولة كاملة يرأسها رجل كما هو الحال مع سلفاكير؟
كنت دائما أقول في كتاباتي ان المعلومات التي استقيتها في الحل والترحال والمشاركات في المؤتمرات والفعاليات الأوروبية مع الخبراء والساسة والأكاديميين الغربيين، الذين تجمعني بهم علاقات عادة ما تكون حمالة أوجه ومحكومة بروح المستعمر وغبنه التاريخي، من حادثة مقتل الجنرال غردون، الحادثة الخالدة في الوجدان والعقل الجمعي للغربيين وخصوصا البريطانيين؟ ما أدهشني في هذا الخبير (المجهول) بالاضافة لغزارة معلوماته التي جاد بها طوعاً، انه كان صادقاً للحد البعيد، بالاضافة لإلمامه وعلمه الكبير بما تكتنزه أراضي دولتي السودان وجنوب السودان من خيرات وثروات نفطية وطبيعية بحجمها الحقيقي. علما بأن هذا الخبير قال لي بالحرف ‘دولة الجنوب لا خيار أمامها سوى تصدير نفطها عبر أنابيب الشمال’، مشددا على أن فكرة انشاء خط أنابيب للتصدير عبر ميناء لامو الكينية فكرة غير واقعية ولا يسندها منطق علمي في ظل المعطيات الحالية التي تشكلت على خلفية الأزمة الاقتصادية العالمية، التي ألقت بظلالها على اقتصادات الدول الحليفة لدولة الجنوب، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، هذا مقرونا بحقيقة مفادها بأن انشاء الانبوب يتطلب مليارات الدولارات عوضا عن كونه يتعرض لعدد من العقبات الأخرى وعلى رأسها غياب الأمن ناهيك من العقبات الطبيعية المتمثلة في الغابات والتضاريس القاسية. الخبير أشار الى أن الدولة الوحيدة التي يمكن أن تساهم الى حد كبير في دعم انشاء المشروع، ولكن بعد زوال العقبات الأخرى التي من بينها أيضاً غياب عنصر الأمن، هي دولة الصين، بينما الصين ستفكر ألف مرة قبل الخوض في حوار مع دولة الجنوب بغرض إنشاء هذا الخط المزعوم. لا سيما وأن مصالح التنين الحقيقية مع السودان وليس جنوب السودان ‘باعتباره الشريك الاقتصادي الأكبر في القارة السمراء’. حديث هذا الخبير كان شيقا ومنطقيا، أبعد عني وعثاء السّفر وأرجعني بالذاكرة للأيام التي سبقت الانفصال حين التقيت صحافيا أمريكيا صديقا في مطعم بلندن وتداولنا أمر الجنوب في حالة تتحسس إمكانية قبول الخرطوم لنتيجة الاستفتاء من عدمها، وأذكر أني أجبته بكل ثقة أنها ستقبل ولكني أخشى على الجنوب أكثر من خشيتي على الشمال، وقد كان.

‘ إعلامي سوداني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية