لبضعة أيام أخذ أطفال المدرسة في بلدة صغيرة في جزيرة كورسيكا الفرنسية يتدربون، في إطار الاستعداد لحفل نهاية العام الدراسي، على أداء أغنية «إيماجن» (تخيّل) الشهيرة للفنان جون لينون التي تدعو للسلام والوئام بين البشر. وقد ارتأت المدرّستان المشرفتان على الإعداد للحفل أن من المناسب لموضوع السلام أن يؤدي الأطفال الأغنية بلغات متعددة:الكورسيكية، والفرنسية، والانكليزية، والإسبانية والعربية. ولكن هذه البراءة الطفولية أو المدرسية سرعان ما أدركتها حكمة الأهالي من الراسخين في علم الفوارق بين الأجناس والأعراق واللغات. إذ إن بعض أولياء الأطفال تعرضوا للمدرّستين بالتهديد والتخويف أمام بوابة المدرسة، وأنذروا بالتشويش على الحفل وبالتصفير عندما يأتي أوان أداء المقطع باللغة العربية. ذلك أنهم حانقون من مجرد فكرة أن يتلفظ أولادهم وبناتهم بكلمات عربية!
وقالت إحدى الأمهات للصحافة: «الفرنسية والكورسيكية، نعم. الانكليزية، لم لا؟ ولكن لماذا العربية؟ لم ليست البرتغالية، في هذه الحال، بما أن كثيرا من البرتغاليين يعيشون في كورسيكا؟».
في هذه الأجواء، قررت السلطات إلغاء الحفل (الذي كان مقررا ليوم 26 من هذا الشهر) «لأسباب أمنية»، خاصة أن شعارات عنصرية كتبت على أرضية ساحة المدرسة وعلى جدران المباني القريبة تطالب بإخراج العرب («أرابي فورا»: العرب على بره) وتدافع عن اللغة الكورسيكية. كما أن شبكة التواصل الاجتماعي حفلت بالشتائم. ولعل أقل الرسائل حدة قول أحدهم: «لقد أنشد جون لينون هذه الأغنية عام 1971، أي قبل أزمة النفط، وقبل ظهور أورابيا (أوروبا العربية)، وقبل سن قانون لم الشمل العائلي، وقبل الهجرة الاستيطانية، وقبل استبدال السكان، وقبل 11 أيلول/سبتمبر 2001، وقبل «الدولة الإسلامية»، وقبل شارلي ايبدو (..)».
وقد أوجزت جريدة «كورس ماتان» المسألة بنشرها على صدر الصفحة الأولى عنوانا يقول: «إيماجن أرابي فورا في الطريق إلى المدرسة»! ورغم أن المدرّستين لا تعتزمان رفع الأمر إلى القضاء، فإن وكيل الجمهورية في باستيا، عاصمة كورسيكا، قرر فتح تحقيق يتعلق بالضغوط التي مورست عليهما، وتحقيق ثان يتعلق بجرائم الشتم العنصري والحض على الكراهية العنصرية.
وبلغ من مناخ التخويف في بلدة برونلي دي فيورموبو، حيث يعيش ثلاثة آلاف ساكن من بينهم عدد كبير من المغاربيين، أن طاقم معلمي هذه المدرسة آثروا عدم الذهاب للعمل الاثنين والثلاثاء، وأصدروا بيانا نددوا فيه «بالخلط بين اللغة والدين وبالمعلومات الخاطئة التي روجها بعض الأهالي»، وأعربوا عن الأسف «لعدم إمكان تأمين مجال الحياد الذي يستحقه التلاميذ». بل إن عمدة البلدة أعلن إلغاء الاجتماع الذي دعي إليه أولياء الأطفال الخميس بسبب «عدم توفر شروط الأمن والسلامة اللازمة».
مفارقتان. الأولى: أن وزيرة التعليم في فرنسا نجاة فالو ـ بلقاسم هي سيدة مغربية الأصل. أي أن فرنسا يمكن أن تنتج هذا وذاك. وقد أعربت الوزيرة عن دعمها للمدرّستين ونددت بسلوك بعض الأهالي. ولعلها أحسنت صنعا عندما عمدت إلى تحييد الحساسية العنصرية في هذه المسألة بالتركيز على نقطة اللغة فقط، حيث قالت: «في السياسة التي أنتهجها لتطوير تعليم اللغات الأجنبية الحية، ستكون العربية بطبيعة الحال ضمن اللغات المتاحة (في المدارس) لأنه ينبغي تطوير تعليم العربية ولأننا في حاجة إلى التنوع اللغوي».
المفارقة الثانية أن هذه الحادثة العنصرية في فرنسا قد تزامنت مع امتحانات الباكالوريا التي تبدأ عادة باختبار في مادة الفلسفة. وقد تضمن الاختبار أسئلة من قبيل: «هل أنا نتاج ما فعله بي ماضيّ؟»، و«هل السياسة متفلتة من اقتضاء الحقيقة؟» و«هل احترام الآخر واجب أخلاقي؟»
ومبعث المفارقة هو أن المجتمع، في فرنسا المعاصرة، يبدو متخلفا عن المدرسة وعن الدولة. إذ إن محاولة ترسيخ الاحترام، مفهوما فكريا وقيمة أخلاقية، في المجتمع الفرنسي ليس وليد إرغامات العقود الأخيرة. وإنما هو نتاج ثقافة أصيلة بدأت مع نشأة الجمهورية الثالثة عام 1871. ثقافة مركزية ـ ناجمة عن إرادة الدولة ـ عهد فيها لنظام التعليم بمسؤولية تحقيق عالمية القيم الإنسانية وبواجب التأليف الجمهوري بين المتناقضات الاجتماعية. ولاحظ أن الأمر لا يتعلق بمجرد التسامح (الفوقي)، بل بالاحترام (الأفقي) بين ذوات وجماعات متكافئة.
ولكن رغم انقضاء قرن ونصف، لا يزال البون شاسعا بين إرادة الدولة (والمدرسة) وغريزة المجتمع. إذن «إيماجن» مجتمعا يأخذ طريق العودة إلى المدرسة.
٭ كاتب تونسي
مالك التريكي
عنوان رائع، يمثل شخص فلسفي غارق في الرومانسية يا مالك التريكي على الأقل من وجهة نظري، وأشكر مالك التريكي على طريقة اختياره ما يُريد الكتابة عنه وزاوية الطرح والمعالجة، والتي ألاحظ فيها نزعة انسانيّة في تعارض وتناقض تام مع مفهوم المنطق المادي والعلماني كما تمثله فرنسا بالنسبة للكاتب، كما دافع عن “النصف المليء من القدح” بالرغم من المثال العملي الصارخ الذي اختاره لكي يكتب عنه، لتوضيح ما وصلت له الحضارة الفرنسية والتي تمثل نموذج عملي وواقعي لمفهوم دولة “الحداثة” أو ثقافة الـ أنا.
ففحوى المقال يوضح لنا لكي يكون هناك تكامل وتعايش إنساني ما بين أي مجموعة من البشر في أرض محددة المعالم، يجب أن تكون أي دولة تمثل اللُّغة لذلك المجتمع، وعلى جميع من وافق على الإقامة في أرض الدولة، أن يلتزم بمعنى المعاني الموجودة في قواميس لغة البلد، ويلتزم في محادثاته للتواصل مع الـ آخر وتعاملاته اليومية بهيكل اللغة العام، ولكن الإشكالية لقد تم تداخل أكثر من لغة، وهذا زاد من اشكالية الضبابيّة اللغوية، إن كان من ناحية لغة الدولة أو لغة الـ أنا ولغة الـ آخر داخل نفس الدولة.
أنا لاحظت أنَّ الكثير لم ينتبه إلى أنَّ معجزة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كانت لغة القرآن، وهي تختلف عن معجزة عيسى عليه السلام، وكذلك تختلف عن معجزة موسى عليه السلام، فلذلك الإسلام يختلف عن غيره، في كونه لغة وليس فكرا، فلذلك أنت حر تفهمه أو تقوم بتأويله كيفما تشاء، ولكن إن أردت جنّة الله، عليك التأكد بنفسك، من أنَّ فهمك وتأويلك لم يتجاوز قواميس وهيكل لغة القرآن، وإلاّ فذنبك على جنبك، حيث حكمة العرب لخصت مأساة هؤلاء في قول “القانون لا يحمي المغفلين” عندما لا يقوم بتحضير ما يحتاجه القانون من مستمسكات قانونية من أجل انجاز أي شيء في دولة القانون.
فأنا لاحظت أنَّ أي فكر عندما لا يحترم الإلتزام باللغة من جهة أو الاعتراف بالترجمة ما بين اللغات وفق أسس لغوية في زمن محدد، هذا الفكر سينحرف بالتأكيد حتى في فرنسا وأظن ما حصل للمدرسة والمدرستان في جزيرة كورسيكا الفرنسية من قبل أهالي الطلاب وبقية أهل القرية مثال عملي واضح، وفي العاصمة باريس بالتأكيد الوضع أشد قباحة، يكفي موقف الحكومة من النقاب والحجاب بشكل رسمي وقانوني.
على أرض الواقع تبين لي أنَّ الفلسفة اساس بنائها الشك في التفكير، بينما الحكمة اساس بنائها هو اليقين، والذي هو خلاصة الخبرة العملية والواقعية، فمن لا يستطيع التمييز ما هو الوسط الذي يصلح فيه الشك، عن الوسط الذي يصلح فيه اليقين، ليس له علاقة بالعلم أو الحكمة أو الأخلاق لا من قريب ولا من بعيد على الأقل من وجهة نظري.
فأنا لاحظت كل من درس علم اللغة وفق مناهج غير عربية الأصل، لم ينتبه إلى أنَّ هناك فرق ما بين البلاغة وما بين الأسلوبيّة، والأسلوبيّة هو علم له علاقة بلغات التأويل، بينما البلاغة هو علم له علاقة بلغات الاستقراء والاستنباط، والفرق بينهما من وجهة نظري على الأقل هو أنَّ الأسلوبيّة لا شأن لها بأي شيء له علاقة بالمصداقيّة إن كان من حيث معنى المعاني أو هيكل اللغة المستخدمة في التعبير عن أي فكرة، بينما البلاغة تمثل معيار المصداقيّة.
ففي لغة القرآن، معاني كثيرة لكلمة الله تصل إلى مئة معنى منها، أنَّ الله هو ربَّ الأرباب وليس رب من الأرباب، ومنها أنَّ الله هو خالق الملحد والمشرك والمنافق والكافر والمؤمن بأي دين، إن شاء الله كان بوذي أو كونفوشي، لكي يستطيع التفريق ما بين معنى شعب الله المُختار، وما بين شعب الرب المُختار من قبل السّامريّ للدولة العميقة أو المخزن (الإعلام والجيش والأجهزة الأمنية والقضائية).
وأقول لمن يبحث عن فكفكة الصورة لتشخيص اساس مشاكل المواطن بسبب مزاجيّة وانتقائيّة من يحمل مقص الرقيب في دولة “الحداثة” والتي تمثل ثقافة الـ أنا، فالعولمة وأدواتها التقنية فرضت تحديات حقيقية على دول “الحداثة” لجميع أعضاء نظام الأمم المتحدة البيروقراطي، منها الشفافية واللامركزية للوصول إلى الحوكمة الرشيدة من خلال الاستعانة بالآلة لتقليل تكاليف تكوين فروع من أجل تقديم خدمات الدولة في أبعد نقطة في الدولة إن كانت قرية أو ناحية أو مدينة أو محافظة أو إمارة.
وأي دولة رفضت التعامل بشفافية ولا مركزية تعاني الآن أزمة وجود، والدليل على ذلك “اليونان” مهد الفلسفة التي تم بناء دولة “الحداثة” عليها في رمزية عجيبة غريبة، وتتبعها البرتغال واسبانية وإيطاليا بل وحتى فرنسا وكذلك بريطانيا، بالرغم من عضويتهم في الاتحاد الأوربي.
القلق أو الشك لدى أهل فرنسا من العرب والإسلام سببها الفلسفة، حيث الفلسفة تقول الفكر أولا، بينما الحكمة تقول أنَّ اللغة أولا، ومن يرغب أن يتطور، يجب أن يتجاوز الفلسفة ويعتمد الحكمة أو احترام اللغة والترجمة ما بين اللغات في وقت وزمن محدد، ومشروع “صالح” سيكون باللغة الأم لكل من سيحضر دوراته بالإضافة إلى اللغات الأخرى تماما مثلما أرادت المدرستان في المدرسة في جزيرة كورسيكا الفرنسية، وهذا ما يختلف به عن مشروع “الفاتح” الخاص باللغة التركية والذي اعتمده الرئيس رجب طيب أردوغان لتطوير التعليم وتحديث إدارة الصف والمدرسة لربطها بشبكة معلومات الدولة، لأننا نعتمد كل لغات العالم.
على الجميع أن يدرك من أنَّ العولمة والتقنية وأدواتها فرضت تحديات حقيقية على دولة “الحداثة” إلى درجة وكأنّها تعاني أزمة وجود، والدليل على ذلك “اليونان” مهد الفلسفة لأرسطو وأفلاطون والتي عليها تم بناء فلسفة دولة “الحداثة” أو النظام البيروقراطي، خصوصا بعد انهيار الديون ما بين المصارف والبنوك عام 2008، وفي نفس العام رمى منتظر الزيدي حذاءه على ممثلي النظام الفاسد في بغداد هارون الرشيد، بلاد وادي الرافدين (والتي تشمل العراق وسوريا وتركيا حاليا)، مهد الحضارات الإنسانية، في رمزية عجيبة غريبة، وكأنَّ العولمة والتقنية وأدواتها تقول لنا أنَّ الشعب يُريد اسقاط النظام الذي يُنتج مثقف وسياسي وتاجر فاسد، لا يحترم لغته الأم إن كان في ما ورد في قواميس وهيكل لغتها فيما ينتجه تحت عنوان الإبداع وهو إلى الابتداع أقرب.
حيث أنا لاحظت أنَّ اشكالية دولة “الحداثة”، هو أنَّ اساسها الفلسفة، من خلال مفهوم كل شيء نسبي، أو رمادي اللون ما بين الأسود والأبيض، في حين أي دولة بغض النظر ما هو شكلها تمثل الواقع، والواقع يشمل جميع ألوان الطيف الشمسي بالإضافة إلى اللون الرمادي بكل درجاته ما بين الأبيض والأسود.
فالدولة تحتاج إلى مال لكي تصرف على جميع احتياجاتها، ولذلك سبب أزمة الدولة كان وما زال وسيبقى هو المال السياسي، ومن يتحكم به سيستطيع بكل سهولة التَّحكم في الدولة، فكيف الحال عندما يكون أفضل وسيلة لتكوين أي رأسمال يكون من خلال إشعال حرب، أو صراع بين الأضداد، وفي الصراع أو الحرب في ثقافة الـ أنا لا يوجد شيء اسمه أخلاق، فلذلك من الطبيعي والمنطقي أن يتم الضرب تحت الحزام هذا إن لم يكن هذا هو الاسلوب المفضّل.
وخلاصة الكلام بالنسبة لي، هو الكلام إن كان حيّا أو ميتا إن لم يكن هناك امكانية في استخدامه لتوليد المال سيكون مضيعة للوقت على أرض الواقع.
ما رأيكم دام فضلكم؟