عندما كان العرب «أمة».!

حجم الخط
3

أصبح افتقاد الدولة القائدة في العالم العرب مبررا لتسويغ إحساس الضعف والخشية من ضياع سياسي بل وجودي، ذلك الشعور بالأسى القومي عَرَفَه العرب منذ وفاة جمال عبد الناصر، لكن تضاعفت المعاناة ما أنْ استقالت دولة مصر من مركزية دورها الكياني بعد صلحها مع إسرائيل (إتفاقية كمب ديفيد). فلقد تصدّرت السياسةَ العربيةَ في عصر الاستقلالات الوطنية القطرية أسماء دول ارتبطت بها سلسلة الأحداث العامة البارزة هي مصر وسوريا والعراق والسعودية. كانت حركات التغيير تتناوب غالباً ما بين دمشق وبغداد. كان ذلك مما يدعى بقلْب المشرق، إذ تكونت ونَمتْ وانطلقت من العاصمتين هاتين معظمُ حركات ودعوات التمرّد والثورة وما حملته من الحزبيات، ومن ثم من وقائع الانقلابات الرافعة لشعارات مدنية متحققة لفظوياً بأدوات عسكرية في معظمها.
غير أن ثورات قلْب المشرق ما كان لها أن تحقق جولات صعود وهبوط، وتغيرات متلاحقة بين شخوص أصحابها وشعاراتهم لو لم تكتسب مصر كياناً دولياً هو الأكبر والأهم من بين كيانات الدول الأخرى القائمة ـ لو لم يتحول أهم انقلاب عسكري فيها، إلى مشروع ثورة مدنية مصرية، ومن ثم عربية قومية، وحتى عالمثالثية، خلال الربع الثالث من القرن العشرين؛ وكان له كيان جديد، فريدُ نوعه، حاملاً لإسم القومية العربية، كان ذلك هو اللقب الذي تكنَّت به الأمة العربية. كأنما قوميتها الراهنة هي بمثابة إعادة إحياء لتاريخها، بل شهادة حضور لوجودها. وإذ هبّتْ جحافل الجماهير في كل مكان؛ كما لو أنها تجدد انتماءها لأمة من ذاكرة الماضي، ثم أضحت فجأة مالئة للمخيال الاجتماعي، ليس بأحلام الخلاص وحدها، بل بإمكانياته وإنجازاته الثورية الموعودة.
لم يكن انشداد الجماهير العربية لقيادة مصر خلال الحقبة الناصرية لأسباب تقليدية باعتبارها البلد الأكبر والسباقة حضارياً ومدنياً بالنسبة لبقية الأقطار، ولكن بما هي وطن الثورة النهضوية الأولى لعرب العصر الحديث. فقد كان المواطنون العرب يعيشون التحشيد السياسي اليومي ما بين معارك الصراعات المفتوحة مع ما كان يُصطلح عليه تحت عبارة (الكفاح الشعبي) ضد تحالف الاستعمار والرجعية والصهيونية، كان الشبيبة في كل مكان يرون في أنفسهم أنهم شركاء طبيعيون مع قيادتهم) التاريخية) في مصر، ليسوا أتباعاً لزعامة شخصية أو عقائدية. ذلك أنه كان هناك جيلان أو ثلاثة أو أكثر من المتنورين والعامة منخرطين جميعاً في مشروع إنتاج أمة جديدة. ذلك المشروع عمَّد مصر في دور الريادة، كرسّها لوظيفة القيادة الكيانية، جعلها، حُكْماً وواقعاً، متطوعةً لحمل المسؤولية الأصعب؛ إذ كان عليها أن تتخطّى مسائل التوجيه والسياسة إلى المسألة الأحق وهي ثقافة التكوين وأخلاقيتها الإطلاقية.
قد لا يفوز العرب بنسخة جديدة ثابتة أو تالية على نموذج حقبة النهضة الإستقلالية للنصف الثاني من القرن المنصرم. لن يكون هناك تكامل فريد آخر متميز بخصائصه الذروية الثلاث التي هي: المجتمع النهضوي والعقيدة الثورية الخالصة والقيادة التاريخية والعالمية، نقول هذا ليس تعظيماً من شأن تلك الحقبة الفذة بقدر ما هو تذكير بخصوصية تجربة إستثنائية نادرة في فن صناعة الأمم لذاتياتها السياسية والحضارية. هذه التجربة قد وُلدت مرة، فهل يمكن أن تكون لها ولادة ثانية. فعناصرها الثلاثة المذكورة أعلاه، كأنما لم يوجد أي منها لذاته إلا ليتكامل مع العنصرين الآخرين. فهل يمكن لمثل هذه النَسَقّية أن تتكرر، حدثياً أوفكرياً على الأقل، أم أن هذه النهضة الثانية لن تبرح حدودَ تجربتها الذروية، فقد ولدت معها وترعرعت ما بين تناقضاتها، وأعطتها كل ما عندها من إمكانيات التحقيق، ولمّا حان أوانُ انطفائها فقد سبقها اختفاء شخص قيادتها. فلا بأس من وصف تلك المرحلة (الذهبية) أنها كانت تجربة نهضة تحت اسم قائدها. كما لو أن الجماهير العربية ،تلك المبعثرة البائسة، في معظمها رأت في قائدها مستقبلَها كأمة واحدة حرّة كريمة عند ذاتها أولاً. فلما اختفى القائد هل اختفت تلك «الأمة» معه..
صحيحٌ أنه قد يوصف الوضعُ العربي الراهن أنه أمسى سفينة من دون ربان، ممزقة الأشرعة، تتقاذفها الأنواء من كل جهة، في حين يلاحقها قراصنة الثروات المستباحة.
فالمَهَالك والمقْتلات وفواجع الحروب والفتن المصطنعة ليست في صميم دوافعها العميقة إلا صراعات عمياء تحت غوايات حاكم حكّام الجميع الذي هو مركَّب الاستبداد/الفساد، جامع رموز الطغيان، وناصب أفخاخها الشيطانية ما وراء أساطير الأدلجات والدينيات ومذهبياتها المتلوية على بعضها كأفاعي سَحَرة القرون الأولى.
عالمنا العربي من دون «أمة»، من دون قيادة، من دون مستقبل، مشرّعَ الأبواب والحدود، ليس أمام (الجهاديين) وحدهم ، ومعظمهم ضالون أو مضلّلون، بل أمام لصوص الأغراب، بعد أن باتت أوطانه عبارة عن حقول تمارين مريعة لأدهى أفانين التآمر وإعادة حبْك مظالم الإنسان الوحش ضد إنسان الحرية والعدالة.
هكذا يغرق أصناف الناس المتقاتلين، مهما اختلفت عناوين جَبَهاتهم وتعارضت شعاراتهم، تحت سمات متجانسة من الدلالات العبثية، ما جعل الغالبيات العظمى من شعوب هذه الأقطار الملتهبة تمارس سياسة النأي بالذات مهما استطاعوا بعداً عن المستنقعات الحمراء المفتوحة في ضواحيهم. فالرأي العام، قطْرياً أو قومياً كان، هذا إذا كان له ثمة وجود بعد، أطاح منذ زمن طويل، بما كان يسمّى بالحاضنة الإجتماعية أو الأهلية للعمل الثوري.
فما يتبقّى من ذاكرة الاحتضان العام لأهداف التغيير الحقيقي أصبحت متهمة بتطهير سمعتها عن أية لوثةِ علاقةٍ أو انتماءٍ لأية قبيلة دموية معربدة في الواقع الجنوبي الفوّار حولها.
لعل آخر ما ترسّب في محصلة ربيعنا المنكوب، من مشاعر الناس معه أو ضده، هو إنْ كان لهؤلاء الناس ثمة ذاكرة (سعيدة) نوعاً ما، فذلك عندما كان لهم ثمة حلم سعيد(؟) بأمة حرّة حقيقية. أما اليوم فهم لم يفقدوا «الأمة» فقط، بل إنهم لم يعودوا يدرون كيف يمكنهم أن يَحْلموا بها من جديد. هل أضاعوها هي وحلمها معها…

٭ مفكر عربي مقيم في باريس

مطاع صفدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول نبيل سوريا:

    اكتشاف البترول في دول الخليج وظهور حركات قومية بمبادرة من مسيحيين في سوريا ولبنان شوهت الشخصية العربية الأصلية. لو بقي العرب على طبيعتهم البدوية البسيطة والمنسجمة مع بيئتها المتواضعة ولو لم تتدخل العناصر الدخيلة ثقافة ودينا وماضيا وخاثة في لبنان وسوريا لكانت الشخصية والمجتمع العربي يعيش بسلام وانسجام ووئام

  2. يقول م . محفوظي تونس:

    أستاذ مطاع هذه المرحلة الجديدة من الأحداث قد تكون هي الحافز لإعادة النظر في هيكلة القومية العربية، على العرب أن يجددوا مع احتفاظهم بمقومات العروبة. هل ضاعت معاني الضيافة هل ضاعت معاني الرجولة العربية هل ضاعت النخوة …هل ضاع شيخ القبيلة. أحيانا نبكي على شيء مضى كنا نراه في آبائنا و أجدادنا كان العرب في حلاوة من عيشهم، لكن أين مضى ذلك ما هو السبب أستاذ مطاع، دام فضلكم لخدمة اللغة العربية.

  3. يقول ابن بطوطة - فلسطيني:

    هذا هو بيت القصيد ان نعود للامتنا الموحدة التي افتخرنا بحضارتها و اعطت العالم المحبة و السلام و العلوم … امتنا و حضارتنا تقوم على الشورى الاسلامية – الشورى الاسلامية هي الديمقراطية الفعلية – في الغرب الديمقراطية محصورة بحرية الكلمة فقط – اما الديمقراطية فتعني حكم الشعب و لا خكم للشعب في الغرب – الحكم للماسونية و الصهيونية – في الغرب الاعلام يقع تحت هيمنة الصهيونية يرفع من يشاء و يكسر من يشاء – فيأتون برؤساء خاضعين لهم … على سبيل المثال عند كل انتخابات يأتون برئيس لا احد يعرفه و فجأة تظهر صوره في كافة وسائل الاعلام عندهم … و سائل الاعلام الخاضعة للصهيونية – ترفع من اسم المرشح التي تريد و تختلق القصص و التحليلات لدعمه – علما قبل الانتخابات لا احد يعرفه – على سبيل المثال جيب بوش هل كنا نسمع عنه من قبل لا و يوما بعد يوم سيرتفع اسمه من دون اي مميزات شخصية له …

إشترك في قائمتنا البريدية