أسطورة الآلهة تموز وعشتار الخالدة!

كانت حياة الإنسان الأول مليئة بالمخاوف التي أرعبته بشكل كبير، فالمطر والطعام والزواج وإنجاب الأطفال والصحة والموت وكل ما يتعلق بحياته، كانت أشياء مهمة جدا بالنسبة له، ولكن خارج نطاق فهمه ولذلك اعتقد أن كل جانب من حياته واقع تحت سيطرة قوة ما لا يستطيع السيطرة عليها، أطلق عليها اسم آلهة وتعددت الآلهة وأعطاها صفات بشرية من ناحية المشاعر والتصرفات، فهناك ذكر وأنثى والآلهة تتزوج وتنجب وتغضب وتنتقم وتتصل بالبشر، بل أنها تكون عالما موازيا لعالم البشر مع فارق واحد وهو الموت، فالآلهة نادرا ما تموت.
ومن الممكن أن نعتبر أن العادات الاجتماعية التي اتصفت بها حياة الآلهة مأخوذة في الأصل من العادات الاجتماعية لمن اختلقها، وهم السومريون والبابليون والآشوريون، وأخص بالذكر هنا السومريين لأنهم أول من تكلم عن الآلهة، ولذلك فإن قصص الآلهة تعطينا صورة عن العادات الاجتماعية في وادي الرافدين آنذاك، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن القصص تحتوي على مبالغات لإبقائها مثيرة، خاصة أنها عمن هم أقوى من البشر. ومن المحتمل أن قصص الآلهة كانت من المواضيع الرئيسية في مجالس الناس، خاصة عليتهم آنذاك، وتجلى كل هذا في أولى حضارات الإنسان وهي الحضارة السومرية في وادي الرافدين، التي وصل فيها المفهوم الديني إلى درجة بالغة التعقيد. وتعتبر الكتابات السومرية أقدم كتابات عن الأساطير في العالم نظرا لكون الكتابة اختراعا سومريا، وقد ورث هذا البابليون والآشوريون وكان تأثير ثقافة وادي الرافدين بارزا بسبب طول فترة هذه الحضارة ورقيها. وتختلف قصص الآلهة قليلا حسب المدينة والزمن، إلا أن الصفات الرئيسية تبقى في القصة. وأهم هذه القصص هي قصة تموز وعشتار، فقد كان تموز إله النباتات والماشية والمأكولات، وكان يسمى أيضا الراعي ومن رموزه الثور.
أما عشتار، التي كانت أكثر أهمية من تموز، فقد كانت آلهة الحب والجنس والإخصاب والحرب، وكانت الآلهة الرئيسية لمدينة الوركاء وآلهة مرموقة في كل مدينة في وادي الرافدين، ومن الممكن تمييز الآلهة في آثار وادي الرافدين، نظرا لوجود النجوم المصاحبة للرسم الذي يرمز إلى الآلهة، وقد كان من رموز الآلهة عشتار النجمة الثمانية وكوكب الزهرة وكان والدها سين إله القمر واخت شمش إله الشمس مكونة ثالوثا مهما من الشمس والقمر والزهرة، فقد كان الرقم ثلاثة ذا اهمية خاصة في وادي الرافدين، ويشاركه في هذا الرقم سبعة. وقد أعطى السومريون الآلهة عشتار كل الصفات الأنثوية، فهي تحب وتغوي وتهجر وتنتقم وتخون، وقصتنا هنا تتمحور حول علاقتها بزوجها الإله تموز، التي تطورت إلى قصص أخرى كثيرة استمرت لآلاف السنين في مناطق عديدة من العالم. وأود هنا أن أوضح أن عشتار هو الاسم السامي للآلهة، وهي كلمة تعني الآلهة، حيث كان الاسم السومري آنانا والشيء نفسه بالنسبة لتموز، حيث كان اسمه السومري دموزي، ويعني الأبن البار، ولكننا سنستعمل الاسمين الساميين في هذا المقال للتبسيط.
كانت الآلهة عشتار آلهة بالغة الجمال والذكاء وعرفت بجرأتها وخبثها، فحسب الكتابات السومرية أرادت عشتار أن تدخل الحضارة إلى الوركاء، وكان من يملك النواميس الإلهية لفنون الحضارة هو الإله انكي، إله الحكمة والمعرفة الذي كان يعرف ما تنطوي عليه قلوب الآلهة فأرادت عشتار زيارة انكي لأخذ النواميس. وما أن عرف الإله انكي بقدوم الآلهة عشتار حتى أمر باستقبالها بكل ترحاب، وتجهيز مأدبة فخمة على شرفها تزخر بكل ما لذ وطاب من أكل وشراب، إلا أنه كان قد قرر عدم إعطائها النواميس، أو على الأقل ليس بهذه البساطة. وعندما جلس الاثنان على المائدة أخذ الإله انكي يسرف في الشراب والكرم حتى نسي حذره، وهو في حالة سكر شديد فأعطاها ما أرادت، وعندما أفاق الإله انكي في صباح اليوم التالي ذهل لاكتشاف ما حدث، فأمر بعمل كل شيء لاسترداد النواميس ولكن بدون جدوى وبذلك أصبحت الوركاء متحضرة.
تقدم الإله تموز لخطبتها عن طريق الاتصال بشقيقها، ولكن كان لعشتار رأي مختلف فقد كانت مغرمة بفلاح يدعى انكي- امدو وقد وافق الشقيق ولكن هذا لا يكفي فالمهم موافقة صاحبة الشأن، ولذلك فقد تكلم معها لإقناعها وكان هذا نقاشا صعبا بين الاثتين فأسرف الشقيق في وصف محاسن المتقدم، بدون أن يكشف هويته حتى يجعلها تحزر من هو وحزرت في نهاية المطاف، ولكن هذا لم يثنها عن عزمها فواجهها الإله تموز بنفسه ووعدها بتقديم كل ما تتمناه، وبعد جهد جهيد وافقت الآلهة عشتار وغضت النظر عن الفلاح الذي التقى بتموز بعد ذلك وكاد الأخير أن يهجم على الأول، إلا أن الفلاح كان مؤدبا وعرف كيف يهدئ من روعه فتراجع الإله تموز، وبعد أخذ ورد تصالحا ودعا تموز الفلاح لحضور الزفاف وقبل الرجل الدعوة متشرفا. وتقابل الإله تموز والآلهة عشتار عدة مرات مساء، وفي إحدى الأمسيات مر الوقت بدون أن يشعرا فخشت الآلهة عشتار العودة إلى البيت في ساعة متأخرة خوفا من مواجهة والدتها فاتفقا على عذر مناسب وهو، أن الآلهة عشتار كانت مع صديقة لها في حديقة عامة للاستمتاع بالرقص والغناء وانقضى الوقت بسرعة.
وكما هو الحال مع العشاق فإن هذه اللقاءات لم تخل من المشاجرات، خاصة أن الآلهة عشتار كانت تشعر بعلو نسبها فتتعإلى أحيانا على الإله تموز، الذي كان يغضب لذلك ولكن هذه مشاكل صغيرة لا توقف مسار العاشقين. وزار الإله تموز حبيبته في منزلها حاملا هدايا، إلا أنه وجد الباب مغلقا فناداها شاكيا، إلا أن الآلهة عشتار كانت في الداخل مع صديقاتها تستعد لاستقباله، وقد اغتسلت بالماء والصابون وتكحلت وارتدت أفضل ما لديها من ثياب وحلي طالبة من صديقاتها العزف والغناء استعدادا للقائه. وأخيرا تزوج العاشقان ليعيشا في «بيت الحياة» وهي تسمية ذات دلالة، فبوجود آلهة الخصب وإله الطعام تستمر الحياة.
وبعد ذلك بفترة قررت الآلهة عشتار زيارة العالم السفلي الذي يسكن فيه الأموات وهو عالم منفصل عن عالمنا، وذو قوانين خاصة به وتحكمه أخت الآلهة عشتار الكبرى الآلهة ايرشكيجال التي لا تحب اختها. وعلى ما يبدو أن سبب الزيارة كان رغبة الآلهة عشتار في إطلاق سراح الأموات وإعادتهم إلى عالم الأحياء. ولم تتوقع الآلهة عشتار ما كان في انتظارها من مكائد اختها التي عرفت بالزيارة مقدما. ولكن الآلهة عشتار كانت لديها شكوكها فطلبت من أقرب موظفة لديها أنه في حالة عدم عودتها أن تذهب إلى انكي، إله الحكمة، لإنقاذها. وذهبت الآلهة عشتار مرتدية تاجا وملابس وحلى فاخرة إلى العالم السفلي الذي كانت له سبعة ابواب، حيث قام حارس الأبواب وبناء على أوامر الاخت الكبرى بتجريد الآلهة عشتار من بعض ملابسها عند عبورها كل باب حتى وصلت إلى اختها وهي عارية، فأمرت الأخت سبعة آلهة يعملون لديها بقتل الآلهة عشتار فورا، وهذا ما حدث لتبدأ الكارثة، فبموت الآلهة عشتار توقفت الحياة لتوقف التزاوج، ولكن هناك بصيص امل لإنقاذ العالم من هذه المأساة، فعندما سمع الإله انكي بمصير عشتار وجد سبيلا للخلاص، عن طريق الاستعانة بخدمات آصوشونامر، أجمل فتى على الإطلاق، وأمره بالذهاب إلى العالم السفلي والأيقاع باخت الآلهة عشتار في حبه إلى درجة الذهول ويجعلها أن تقسم بعمل كل ما يريد، وبعد ذلك يطلب منها إعادة الآلهة عشتار إلى الحياة.
وكان الرجل عند حسن ظن إله الحكمة، إلا أن الأخت استشاطت غضبا عند سماعها برغبته بإحياء الآلهة عشتار، ولكن بعد فوات الأوان لأنها الآن ملزمة بالتنفيذ، فأعادت الآلهة عشتار إلى الحياة، ولكن بشرط وهو أن تعثر الآلهة عشتار على من يحل محلها في العالم السفلي، فخرجت الآلهة عشتار مع سبعة من شياطين العالم السفلي باحثة عن سيء الحظ واثناء البحث شاهدت زوجها الأإه تموز ولدهشتها لم يكن حزينا لوفاتها، بل سعيدا جالسا على عرشها فغضبت وقالت للشياطين أن يأخذوه فانهالوا عليه ضربا وسحلوه إلى العالم السفلي، إلا أن الآلهة عشتار شعرت بتأنيب الضمير فهي في الحقيقة مغرمة به فطلبت من أختها تسوية لإرضاء الجميع، وكان لها ما ارادت وهي أن يقضي الإله تموز في عالم الأموات ستة أشهر تبدأ بشهر تموز وتموت أثنائها الزراعة والماشية وينتشر القحط ويغادر بعدها ذلك العالم إلى عالم الأحياء، أي أنه يعاد إلى الحياة، وتعود الزراعة والخير معه وتأخذ مكانه اخته للفترة نفسها ثم يعود تموز إلى عالم الأموات وهلم جرا.
اعتبر سكان وادي الرافدين نزول الإله تموز إلى العالم السفلي بمثابة وفاته وكان لهذا مراسيم دينية خاصة في شهر تموز، فقد سمي ذلك الشهر على اسمه، وهي الفترة التي تنعدم الأمطار في وادي الرافدين وتنقطع الزراعة، وتضمنت المراسيم نحيب وعويل وبكاء النسوة البالغ. واعتبروا خروجه من العالم السفلي بعد ستة أشهر بمثابة ميلاده، أما زواجه فهو بداية السنة الجديدة عند سكان وادي الرافدين والموافق بداية شهر نيسان/إبريل وفي الحقيقة أنه عيد الربيع في وادي الرافدين. ويشمل كل احتفال ديني تمثيل الحدث المحتفى به بشكل مفصل ومؤثر للغاية أمام الملأ.
قد يعتبر البعض أن القصة المذكورة أعلاه قصة جميلة دفنت تحت تراب الماضي، وفي الواقع أنهم جزئيا على خطأ، فالقصة جميلة فعلا ولكنها حية فقد أخذت بقية الشعوب كل تفصيل فيها لتكوين نسخها المحلية، ويشمل هذا عيد الربيع. فهي في سوريا ولبنان وفلسطين قصة بعل، وفي مصر هي قصة ايزيس وأوزيريس، وفي اليونان قصة أدونيس وأفروديت ثم ظهرت قصة سيميلس وديونيسيوس وقصة برسفون في اليونان أيضا، وفي روما كانت هناك قصة سيبيل وآتيس، وهذه أمثلة قليلة جدا، فأسطورة الإله تموز والآلهة عشتار معنا وحولنا في الوقت الحاضر، إن دققنا في التمعن. ومهما اختلفت بعض التفاصيل حسب الخيال المحلي فهي تركز على موت إله الخير الذي يسبب البؤس لفترة طويلة ومن ثم يعود إلى الحياة جالبا الخير.

كاتب عراقي

زيد خلدون جميل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول SM Saudi Arabia:

    شكرا

    هل يوجد كتاب يتضمن هذة المعومات؟

  2. يقول عائشة:

    رائع ، أشكرك كثيرا

  3. يقول ناريمان العزاوي:

    رائع فعلا شيء مؤثر تلك العشتار عادت إلينا وعاد معها الجمال والحب

  4. يقول Nazhî:

    سؤالي هو : كيف وقعت ايرشكيجال في حب اصوشونامر رغم موت آلهة الحب و الجنس “عشتار”؟

  5. يقول طارق العمرى:

    تقديرى الكبير للكاتب لكن فقط أود التنبيه أن قصة إيزيس و اوزوريس سابقة على عشتار و تموز لامحالة وفق التاريخ (فيما أعلم)

  6. يقول الباحث التميمي:

    ابدعت استاز زيدخلدون وننتظر المزيد بوركت

  7. يقول طارق:

    لقد استمتعت بالقصة و شكرا

إشترك في قائمتنا البريدية