تزوير 30 يونيو

الرئيس السيسي هو الوحيد في نظامه الذي يذكر 25 يناير مع ذكر 30 يونيو، وفي حفل إفطار دعا إليه قبل أيام، قال فيما يشبه اللغة التلغرافية إنه لاعودة إلى ما قبل 25 يناير، وهو ما لم يلق استساغة ولا تهليلا ولا تصفيقا من شخصيات «فلولية» حضرت الإفطار، فهم ينظرون إلى ثورة 25 يناير كأنها الشيطان الرجيم.
وأحسب أن هذا الخلط في المشهد هو أسوأ ما يمزق روح الشعب المصري الآن، فنوايا الرئيس السيسي في اتجاه، وأفعال النظام المنسوب إليه تمضي في اتجاه آخر، وليس صعبا أن نتبين الفرق، ولا أن نلحظ الاختلاط إلى حد التضارب، فالرئيس يبدو وحيدا، إلا من سند شعبي لايزال يأمل فيه خيرا، وإلا من قطاع دولة مؤثر في الجيش وما حوله، وهو يحقق إنجازات لا ينكرها أحد، في استعادة الاستقلال الوطني وتحرير القرار المصري، وتقليص التبعية الموروثة لواشنطن، بسياسة عربية وإقليمية ودولية واعية مخططة، تفك الطوق المضروب على مصر، وتستخلص لجيشها العظيم قوة هائلة مضافة، وتستعيد سيرة الصناعة الحربية والبرنامج النووي السلمي، وتقيم التكامل المحسوس بين الصناعات العسكرية والمدنية، وتضاعف موارد الطاقة المتاحة والمطلوبة لحركة تصنيع شامل لا يقوم بدونها نهوض، إضافة للمشروعات الكبرى في قناة السويس وشبكة الطرق واستصلاح ملايين الأفدنة الجديدة. وتبدو دائرة الجيش أو «رأسمالية الجيش» هي القوة الحاسمة في تحقيق الإنجازات والطفرات، فيما يبدو الجهاز الحكومي والإداري للدولة في واد آخر، فالرئيس يريد التحرك والقفز بسرعة الصوت، بينما الدولة ـ خارج نطاق الجيش ـ تسير ببطء السلحفاة المصابة بشلل أطفال، وتمشي على قديمها لا على الأقدام، ولا تجد من غاية ترتجى سوى العودة إلى الخلف، وإلى ما قبل 25 يناير بالذات، لا يعنيها سوى رضا المستثمرين، وتتجبر على الفقراء والطبقات الوسطى، وهم القوة الشعبية الحاسمة التي مولت مشروع قناة السويس في أسرع اكتتاب في العالم، ويعاقبون مع ذلك برفع الأسعار وخفض الدعم وانهيار الخدمات الأساسية، وتزداد معاناتهم مع الفقر والبطالة والعنوسة وإهدار الكرامة الآدمية، بينما الحكومة المنسوبة للرئيس تخدم حيتان النهب العام أو من يسمونهم برجال الأعمال، تزيد تسهيلاتهم وتخفض ضرائبهم، وتخضع لمشيئتهم في إلغاء قرار الرئيس بفرض ضريبة رمزية على أرباح البورصة، وتمنح المهلة الرابعة ـ بعد ثلاث سبقت ـ لتسديد مقابل المخالفات التريليونية على أراضي الطرق الصحراوية، وتمتنع عن تحصيل قرابة 300 مليار جنيه قيمة مخالفات الحيتان في المجتمعات العمرانية الجديدة على نحو ما يرصده تقرير واحد موثق لجهاز المحاسبات.
والمحصلة ظاهرة، فلا أحد ينكر الجديد الذي يقدمه الرئيس، والذي تصح نسبته إلى معنى الثورة المتصلة في 25 يناير و30 يونيو، ومن نوع التقدم إلى استعادة الاستقلال الوطني وبناء رؤوس جسور حقيقية إلى النهوض بالتصنيع الشامل، لكن إنجاز الرئيس غير مشفوع بانحياز مكافئ للفقراء والطبقات الوسطى، وهو ما يهدد سلامة التجربة كلها، ويشيع روحا من اليأس في وقت انتظار الأمل، فالقديم المنتسب لما قبل 25 يناير، يحاصر الجديد المنسوب لما بعد 30 يونيو، والنظام القديم يحاصر الرئيس الجديد، ويفرض انحيازات مريبة للبيروقراطية الفاسدة المتحالفة مع مليارديرات المال الحرام، ويحيط الرئيس بطوائف من المستشارين والمستوزرين والمتنفذين، يبيعون الهواء القديم في زجاجات جديدة، وتتناسل أجيالهم في المجالس التى يشكلونها للرئيس، ويقدمون ذات الوصفة التى قد تصح نسبتها ليوسف بطرس غالي وزير مالية مبارك الهارب في المنفى اللندني، والقائمة على «تلبيس الطواقي»، وإنشاء صناديق «أملاك» وهمية، والإيحاء بمعدلات نمو صوري، وكسب عطف المستثمرين والهيئات المالية الدولية، وتكريس الانحياز الاقتصادي الاجتماعي لصالح «رأسمالية المحاسيب»، ودهس طبقات الفقراء والفئات الوسطى بدعوى إصلاح الموازنة العامة، وتجريف الطاقة الانتاجية للبلد، ومواصلة «الخصخصة» و»المصمصة» بطرق جديدة ملتوية، وكأننا يا «ثورة» لا رحنا ولا جئنا، وكأن اقتصاد مبارك الفاسد الناهب هو الغاية والمبتغى، وكأنهم يريدون تزييف حقيقة السيسي، وجعله في صورة مبارك الأصغر سنا والأكثر شبابا وديناميكية (!).
وهنا «مربط الفرس» كما يقول القدامى، فنحن بصدد ترويج عملة واحدة ذات وجهين، فتزييف صورة السيسي هو نفسه تزوير 30 يونيو، وتفكيك العروة الوثقى بين 25 يناير و30 يونيو هو نفسه فك الصلة بين الشعب والرئيس، فلولا 25 يناير ما كانت 30 يونيو، ولولا الثورة ضد مبارك فالإخوان ما كان السيسي في الحكم، والإخوان ينتحلون زورا صفة ثورة 25 يناير، بينما يحاول الفلول انتحال صفة 30 يونيو، وعزل الرئيس عن الشعب صاحب الثورتين أو الثورة الواحدة المتصلة، ورمي مصر إلى غياهب الظلام والفساد من جديد، وحتى لو تطلب الأمر احتواء السيسي أو تجاوزه إلى شخص آخر، وعلى نحو ما دلت عليه مؤامرات جرت وتجري، بعضها معلن وأخرى في الكواليس، وهو ما يدفع الرئيس إلى التأكيد المتكرر على أولوية ارتباط 30 يونيو بثورة 25 يناير، وبصورة تبدو معاكسة تماما لانحيازات شخوص نظامه نفسه، وإلى حد إعلان الرئيس أكثر من مرة لرغبته في «تبييض السجون»، وإنهاء مظالم يعترف بها لشباب الثورة، وقد أصدر الرئيس عفوا محدودا عن مئات، وتبقى أن يستكمل الطريق، رغم إعاقات الأجهزة، وأن يفرج عن آلاف المظلومين، وأن يفكك بيئة الاحتقان السياسي المانعة لمصالحة طبيعية بين 25 يناير و30 يونيو، والأهم أن يستخدم الرئيس سلطته لتصفية وكنس فساد البيروقراطية ومليارديرات النهب، وأن يستعيد لمصر ثرواتها الضائعة، فإن «تحيا مصر» يعني أن يحيا شعبها بأوسع طبقاته وفئاته، لا أن يموت المصريون كمدا من أجل أن يحيا اللصوص.
وأعظم رد اعتبار للثلاثين من يونيو، أن نعيد وصل ما انقطع مع الثورة الأم في 25 يناير، وأن يترجم الرئيس السيسي قوله، إنه لا عودة إلى ما قبل 25 يناير.

لا خوف على مصر

ولا مليون عملية إرهابية تهز البلد، أو تسقط الدولة في مصر. ولم يحدث أبدا، ولن يحدث في المستقبل بإذن الله، أن استطاعت جماعة مسلحة أن تهزم الدولة المصرية، فعمليات الإرهاب تفيد الدولة بأكثر مما تضرها، فهي أي العمليات ـ تنشط الجهاز العصبي المركزي للدولة، وتنهي رخاوتها، وتعزز التفاف قوتها الصلبة من حول جيش هو واحد من أقوى جيوش الدنيا، وهو أقوى جيوش العالم شعبية بين أهله وناسه.
وكل الذين سلكوا طريق الإرهاب في مصر، راحوا في «سكة اللي يروح ما يرجعش»، فالمصريون ـ بطبعهم ـ ينفرون من العنف ودعاته، ومن لون الدم، ولديهم طاقة صبر عجيبة على المكاره، ومقدرتهم على التكيف مع المخاطر هائلة، ونسيجهم الشعبي والوطني غاية في التجانس، وجغرافيا مصر عصية على التفكيك، وقد تعرض البلد لعشرات من صنوف الغزو والعنف، ولمدد طويلة جاوزت في مجموعها مئات السنوات، لكن مصر كانت تخرج من كل غزو كما دخلت، وظلت دائما كقبضة يد، وبحدودها المعروفة بالشبر منذ مينا «موحد القطرين»، وسوف تظل «على حطة إيد مينا»، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
والثقة بقوة مصر الكامنة في صلابة تكوينها وتجانس شعبها العظيم، هذه الثقة مما لا يصح أن يستهين به أحد، ومما لا يصح ـ أيضا ـ أن نغض الطرف معه عن وجوه التقصير والخلل، فقد لا تكون الدولة في خطر، والدولة في مصر ـ على أي حال ـ قوة معنوية مهيمنة قبل أن تكون قوة مادية شاخصة، وفي البدء المصري كانت الدولة صنوا للكلمة والنيل، وكان المجتمع إلى حد كبير ابنا للدولة، وخطر الإرهاب قد لا يهدد الدولة، لكنه يهدد المجتمع، وهو ما يصح معه أن نعيد النظر في النظام الأمني، وأن نسلحه بقوة الذكاء والمعرفة والتكنولوجيا مع قوة السلاح المتوافرة، فالحروب ضد الإرهاب هي حروب معلومات بالأساس، ونجاح النظم الأمنية يقاس بمقدرتها على التوقع والوقاية وإجهاض الحوادث الإرهابية قبل وقوعها، وتقليل الخسائر إلى أدنى حد حين تقع، وقد جرت في الجهاز الأمني عمليات تحديث وتطوير وتطهير، لكنها ليست كافية إلى الآن، والمطلوب: إعادة بناء شاملة للأدوات والتصورات، وخفض منسوب التحرك العشوائي المبنى على القوة الظاهرة الغبية بطبعها، وتفكيك الاحتقان السياسي بإخلاء سبيل غير المتهمين في حوادث عنف وإرهاب مباشر، وإعادة النظر في نظامنا القضائي، وبصورة تكفل استعادة الثقة في أحكامه، وزيادة القوة الرادعة للأحكام بسرعة وسلامة الإجراءات، ومع الوعي بكون الإرهاب داء اجتماعيا، ينقضي بانقضاء أسبابه، وإحلال العدالة التي هي أساس كل ملك وحكم رشيد، وتصفية الفساد الذي هو أخطر على الدولة والمجتمع من عمليات الإرهاب.
نعم، لن نحارب الإرهاب بإثارة الذعر المجاني، ولا بالتهويل في قوة جماعات تنعزل شعبيا، وتدور عليها الدوائر، وتشيطن نفسها بنفسها، وتدمر نفسها بنفسها حين تنتهج طريق الإرهاب العدمي، وتروج لبضاعة بائرة تتعلق زورا بأهداب الدين، فالمصريون أعظم شعوب العالم الإسلامي تدينا، والذي يبيع لهم الدين كمن «يبيع المية في حارة السقايين»، وقد سعت مصر إلى دين التوحيد قبل أن تنزل به رسالات الهدى السماوي.
ولا خوف على مصر حتى لو اجتمــــعت عليــــها الدنيا كلها، فمصر قادرة دائما على سحق الخطر.

٭ كاتب مصري

عبد الحليم قنديل

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فيروز مصر:

    الله عليك يا كاتبنا العظيم دائما على الوعد بك لا تنافق او تداهن احد وتعشق تراب بلدك عشق بواح…بأذن الله مصر فى عهد السيسى سوف تشهد ازدهار وتقدم على جميع الاصعدة بس سببوا مصر فى حالها سيبوها تحلم …المعلقين من الدول العربية غير مطلعين بالمرة على الداخل المصرى وانصحهم بان يركزوا فى بلادهم المنكوبة المنهوبة

  2. يقول محمد صلاح:

    مع عظيم احترامي لكل المعلقين الغير مصريين ولي ملاحظات علي تعليقاتهم اولا مصر دولة علي مدار التاريخ لم يحدث بها حرب أهلية ولن يحدث بها حرب أهلية لطبيعة تكوينها وحب المصريين وفخرهم ببلادهم رغم كل الصعوبات المعيشية ثانيا مصر من اقدم دول العالم وهي ذات حضارة وهي الدولة الوحيدة في العالم التي يدرس تاريخ حضارتها في كل مراحل التعليم في كل الدول غربا وشرقا والكل يعرف قيمة مصر ولن يسمح العالم كله بهدم مصر عن طريق جماعات تستخدم الدين لهدم هذه الحضارة لانها ملك لكل الانسانية ثالثا الجيش المصري هو أقوي وأحدث تسليحا عسكريا في العالم العربي وَمِمَّا يزيد من قوته ملايين المصريين الذين ممكن استدعائهم في خلال ساعات لتعويض اي خسائر رابعا الشعب المصري فخور بقواته المسلحة وانا استغرب من بعض التعليقات من غير المصريين يعتقدون ان واحد مصري سوف يختار جماعة تقف ضد جيش مصر وهذا من الأحلام ولن ولم يحدث من قبل علي مر التاريخ. خامسا أنا استغرب ادعائه الاخوان انهم هم من قام بثوره ٢٥ يناير العظيمة وهذا تزيف للتاريخ والحقيقة انهم أعلنوا قبل ٢٥ يناير انهم غير مشتركين في المظاهرات ولكن بعد نجاح الثورة أعلنوا ان شبابهم مشترك مع شباب مصر في الثورة وهذا معلن يوم ٢٨ يناير. سادسا المرشد السابق للإخوان مهدي عاكف أعلن تأييد جماعة الاخوان لتوريث ابن مبارك للحكم في مصر قبل عامين من عزل مبارك وهذا مسجل بالصوت والصورة وليس سريا. سابعا لقد جرب المصريين الاخوان عام واحد وكانت النتيجة كارثة بكل المقايس سياسيا وأمنيا واقتصاديا ولذالك الشعب المصري لن يسمح لهم بتكرار هذا السيناريو مرة اخره ولذالك هو يعتمد علي الجيش المصري جيش الشعب لحماية الشعب من ألاعيب جماعة الاخوان وتهديدهم للامن القومي المصري وشكرا

  3. يقول سمير المغرب:

    الى عبد الحليم قنديل :
    العمى الاديولوجي حجب عنك الحقيقة الساطعة وهي أن السيسي هو مبارك أصغر سنا

  4. يقول عثمان -المغرب:

    “وتجانس شعبها العظيم.” هل تقصد الشعب الأول أم الثاني؟

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية