الكواكبي والنهضة العربية

حجم الخط
4

في سياق تتبع أدوار رواد النهضة العربية، نُعاين في قراءة نقدية عوامل انحراف المسار النّهضوي نتيجة الارتهان لبعض المستويات، منها السلطة، والذاتوية، والطائفة، والموروث وهذا يأتي نتيجة العجز عن خلق فعل من التصور العقلاني للتنوير، الذي ينبغي أن ينبعث من حاجات المجتمع، وأزمته. وهنا نأتي على مناقشة دور عبد الرحمن الكواكبي، الذي اقترب من قيمة التصور العقلاني في مواجهة الأزمة الحضارية، بالتزامن مع موقف ناقد للسلطة، ومظاهرها الاستبدادية. فالمستبد، أو لنقل «السلطة» كما يشير الكواكبي، لا يخشى العلوم التي تتصل باللغة أو العلوم الدينية، أو حتى العلوم الصناعية إنما يخاف من علوم الحياة، كالحكمة والفلسفة العقلية (الكواكبي، طبائع الاستبداد، ص35)، التنبه للقيمة العقلية يعدّ مسلكاً مغايراً عما ألفناه من أفكار لدى بعض مفكري ذلك العصر، فمعظم التصورات التي اشتغل عليها رواد النهضة تتصل بصورة أو بأخرى بفلسفة التحديث من حيث كونها، لا ترتكن إلى قيم عقلية للبحث عن حلول خارج الإطار المعتاد، ولهذا نجد أن معظم نتاج مثقفي عصر النهضة، كان أشبه بارتدادات ناتجة عن الفكر الغربي، ونموذجه الحضاري الذي نشأ بفعل التجربة التي أعملت العقل، أو على العكس من ذلك التوجه نحو نموذج ماضوي، مع نزعة للتوفيق بين نموذجين، ومع ما يتميز به الكواكبي من نقد للاستبداد، إلا أن منجزه النهضوي كان واقعاً في نسق استعادي، أي العودة إلى الجذور والقيم السلفية، ولهذا نراه في كتابه «أم القرى» ينص صراحة على أن العودة لهذا المنهج هو الكفيل بالنهوض بالعرب والمسلمين، ولكن مسعاه هذا لن يتحقق إلا باستعارة النموذج الغربي من ناحية العلم، فتكوين الجمعيات القادرة على تحقيق الهدف المنشود كما فعل الرومان واليونان والأمريكان والطليان واليابان (ص14-15).
وعلى ما يبدو فإن الكواكبي كان يشن هجوماً ويوجه نقداً للأمراء الأعاجم الذين افتقروا للبعد الديني (يقصد العثمانيين) الذين استخدموا الدين أداة للسلطة والاستبداد؛ فالسلطان العادل خير من سلطان مسلم جائر، ولهذا يعجب الكواكبي بالحكام الأجانب ومنهم بسماراك وكغاريبالدي اللذان استطاعا أن يوحدا أمتيهما (أم القرى، ص33-34) ، وهنا نتلمس مرارة عميقة، يستشعرها الكواكبي من حكم العثمانيين، وجورهم، ولكن هل هنالك مبررات منطقية تجيز له هذا الموقف؟ هنا نتوقف لمناقشة ملحوظة، يوردها ألبرت حوراني، وتنطوي بين ثناياها على إشارة بأن الكواكبي كان ينطلق من موقف شخصي تجاه الدولة العثمانية، فعلى الرغم من أن كتاب الكواكبي «طبائع الاستبداد « قد وُضع بتأثّر واضح -لا مجال للشك فيه- بكتب منها «مستقبل الإسلام» لبلنت، وكتاب «ألفياري» إلا أن أفكار الكواكبي، وموقفه كمثقف كان يشوبه بعد ذاتي، فعداء الرجل للسلطان عبد الحميد ومستشاره أبو الهدى يعود في جانب منه إلى أن الرجل الثاني كان يتمتع بنفوذ في القصر العثماني ما جعل عائلته تحوز منصب نقابة الأشراف في مدينة حلب، أي المدينة التي ينتمي لها الكواكبي الذي تنافس عائلته عائلة أبو الهدى على نقابة الأشراف، وهذا يبدو حقيقة، ولا سيما إذا تتبعنا سيرة الكواكبي، حيث تذكر المصادر أنه كان سليل الأسرة الهاشمية الشريفة؛ ولهذا كانت نقابة الاشراف في حلب تؤول إليهم. ومن جهة أخرى نجد أن شخصية الكواكبي كانت تتصف بنزعة واضحة للتعاطي مع السلطة بناء على أهوائها، ولهذا كان يقترب حيناً من المنافسين، ونعني الأسرة المالكة في مصر، حيث أقطعه الخديوي عباس راتباً قدره خمسون جنيهاً نظير دعوة الكواكبي لأن يتولى الخديوي الخلافة العربية بدلاً عن السلطان عبد الحميد.
ما من شك بأن عبد الرحمن الكواكبي، ذهب بعيداً في إدراك جزء من المشكلة، ونعني مركزية الاستبداد التي تتخلل الشرق، ولاسيما في الأقاليم العربية، حيث لا يمكن الخلاص من هذا المشكل إلا في سياق الشورى الدستورية. ولهذا يبحث الكواكبي في الاستبداد، فهو يرى أن الاستبداد الدّيني يفضي إلى استبداد سياسي، وبذلك فإن استبداد العقل هو نتيجة للاستبداد الديني، في حين أن الاستبداد السياسي يختص بالجسد. إن ما يرغب الكوكبي في التعبير عنه ذلك الأثر الديني للسلطة المستبدة التي تتخذ تمظهرها من الإطار الديني، فالسياسي يحاول أن يستفيد من هيمنة المقدس بوصفه نسقاً دافعاً للخوف، ولهذا فإن السياسي يتخذ هذا النسق كي يتوارى فيه، أو خلفه، وهنا نقع على فكرة مركزية ومهمة في فكر الكواكبي، وتتجلى بموقف المثقفين أو علماء الدين من تكريس الاستبداد السياسي ممثلاً بالحاكم الفرد، من حيث أوجبوا الحمد لهم إذا عدلوا، وأوصوا كذلك بالصبر إذا ظلموا، وهذا يعني أن الخطاب الديني يبدو… وقد أقام علاقة عضوية مع السلطة السياسية كونهما يتقاسمان مصلحة مشتركة، وبهذا يتحول المثقف بتكوينه العلمي، ومعرفته عن الموقف والدور الرسولي إلى خادم للقيم السلطوية الاستبدادية، ولكن هذا لا يقتصر على الإسلام، ولكنه شائع في معظم الديانات، حيث يقوم علماء الدين بهذا الدور متخلّين عن دورهم في الانحياز لقيم الحرية والعدالة، ولكن مع هذا النقد الحاد للسلطة السياسية من قبل الكواكبي، بالتجاور مع نقده لرجال الدين، غير أنه ما انفك يقيم في النموذج القائم، أي فكرة البحث عن استرجاع أنساق ذات مرجعية دينية، أو ماضوية، أو قيم ضلت طريقها، وينبغي أن يعاد توجيهها في سياق حركة إصلاحية، للخروج من الأزمة، علاوة على موقفه الذاتي الموتور من الدولة العثمانية التي سلبته امتيازاته، ولهذا كان هجومه على الاستبداد الديني بوصفه منوطاً بالدولة العثمانية. هذا النهج يعني انتفاء الطابع العقلاني الحقيقي عن مسالك كثير من المثقفين والنهضويين العرب.
وهكذا تتحدد ملامح ذلك الارتهان للمنجزات، والمتاريس الفكرية التي تنهض بشكل جوهري على مشروع نهضوي مركزه الدين، وقد ذهب إلى هذا الرأي فهمي جدعان، حيث قال في محاضرة له: «إن ازاحة الدين من الفضاء العام هي أحد الأسباب المؤذنة بفساد هذا العمران وانحلاله، وهو قول أكثر واقعية من زعم أولئك القدماء والمحدثين الذين يجعلون هذه الإزاحة السبب الوحيد في هذا الأفول، أو من زعم بعض المحدثين الذين يرون أنه علة البلاء، وأن الخلاص يأتي من هذه الإزاحة أو «العزل»، لم يتخل مفكرو النهضة العربية، ونعني تحديداً مفكري العصر الليبرالي عن الدور الأساسي للتمدن الاسلامي في مشروع التقدم والترقي، فمنذ رفاعة الطهطاوي، وخير الدين التونسي إلى جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ظل (الدين) عاملاً أساسياً في مركب النهضة، وكان هذا ذا جناحين: التمدن الاسلامي من ناحية – وهو عندهم تمدن معنوي أساسه قيم أخلاقية وروحية وإنسانية – والتمدن الغربي من ناحية ثانية – وهو تمدن مادي أساسه ما سماه رفاعة الطهطاوي (المنافع العمومية) وما أضافه خير الدين التونسي إلى هذه (المنافع) من (تنظيمات) قائمة على العدل والحرية والعلم».
وهكذا نتوصل إلى أن ثمة مستويات من انزياح الفعل التنويري عن التطبيق المثال، وهذا نتيجة إقصاء للدور العقلاني الذي ما زال في حالة إرجاء، وهذا أدى إلى أن نعاني في زمننا هذا من نتاج هذا السّقط الذي أدى إلى فعل نهضوي مشوه، قادنا إلى استغلاق أبواب النهضة، وقيم التنوير، بل أدى أيضاً إلى السقوط في مدارات من الظلامية الحلزونية التي لا سبيل للخروج منها، إلا إذا انطلقنا من أفكار تتولد من واقعنا عبر الارتكان إلى دينامية داخلية تتلمس مشكلاتنا الحقيقية، مما يؤدي إلى تولد وانبثاق حلول واقعية في ضوء الحاجة الحضارية، ومتطلباتها.

كاتب فلسطيني ـ الأردن

رامي أبو شهاب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول زيد جميل - المانيا:

    مقال جميل و لكنني ارجو من الكاتب الجليل الأخذ بنظر الأعتبار ان شهرة الكواكبي تدين بالكثير للأعلام العربي و أتمنى ان يقرأ الكاتب عن العلامة محمود شكري الآلوسي الذي كان أغزر انتاجا و اكثر علما و أعمق فكرا من الكواكبي و اكثر من تضرر من اهمال الأعلام له.

  2. يقول R. Ali USA:

    لابد من القضاء على الرجعية العربية الباءدة أولاً التي تعيش على الخرافات والنظام القباءلي وتسلل الحكم فيها بالسن والعزوة! … تلك الرجعية المتزمتة المتآمرة على شعوبها والشعوب العربية جميعاً والتي تدين بالولاء والخنوع للدول الغربية الصهيو-أمريكية … المقصود بالرجعية ألعربية هم المشايخ والأمراء والأسر الحاكمة من عقود والانظمة الفاشلة التي أستولت على الحكم بانقلابات عسكرية وقوة السلاح والأمر الواقع فظلوا في الحكم لسنوات حتى أقصاهم الشعب!

  3. يقول موسى_باريس:

    لعل خلال الكواكبي الأساسي على ما يرى علي حرب أنه ركز على طبائع الإستبداد ولم يتجاوزها إلى دراسة جذور الاستبداد في الفضاء العربي الإسلامي من آداب سلطانية وترسانة فقهية، فلم يلامس ذلك إلا قليلا وكما يذكر الكاتب يبدو أن الجائب الذاتي وخلاف الكواكبي مع الباب العالي هو الذي وجه دراسته صوب هذه الوجهة.
    كما أن الحديث عن الدين في كتب النهضويين العرب كان تكتيكيا ونفعيا بالأساس ولم يذهب بعيدا في التفكيك وفهم مختلف الاشكالات الفقهية والكلامية والتاريخية، وهذا ما تنبه له وحاول تداركه المفكرون التنويريون العرب المعاصرون من فهمي جدعان إلى الجابري والعروي وأركون.
    وعلى العموم عرض جيد لآراء الكواكبي ومهم كمقدمة لدراسة أفكار الرجل والتمعن فيها بعين نقدية حديثة.

  4. يقول سلمى:

    شكرا جزيلا على هذا المقال. العالم الاسلامي بحاجة لاحياء دور العقل وللفلسفة بلا شك فالعقود الماضية، أو على الأقل ما أذكره من عمري، كانت السيادة فيها لثقافة الوعظ و المستبد يخاف الفكر و الحكمة أكثر من خوفه من الوعظ .

إشترك في قائمتنا البريدية