كان غلاف مجلة «تايم» الأمريكية في الأول من يوليو عام 2013 يحوي صورة راهب بوذي وعنوانا جاذبا: وجه الإرهاب البوذي.. كيف يوقد الرهبان العنف الحرب ضد المسلمين في آسيا.
كانت تلك، بحسب ما تابعت، المرة الأولى التي يصدر فيها تحقيق رفيع في وسيلة إعلامية أمريكية يربط بين الإرهاب، الذي ظل لوقت طويل ماركة مسجلة ومحتكرة للمسلمين، وبين الديانة البوذية التي ينظر إليها الغربيون، وغيرهم، كديانة للحق والخير والسلام. سوف ينضم هذا التحقيق لعشرات التحقيقات والتقارير الصادرة عن المنظمات الحقوقية المحايدة، التي نددت بالجرائم الممنهجة ضد المسلمين في ميانمار- بورما، والتي توثق بشكل يومي لانتهاكات لا يمكن حتى وصفها بأنها جرائم حرب لفظاعتها، فلأول مرة، في عصر ما بعد الأمم المتحدة، تتجرأ دولة على إعلان عدم اعترافها بمواطنة من لا يشاركون غالبيتها ديانتهم، بل وتستبيح في مقابل ذلك أموالهم وأعراضهم ودماءهم. ذلك هو بكل تأكيد شيء أكبر من التمييز، بل أكبر من كل قوانين الفصل العنصري التي عرفها التاريخ الحديث.
كالعادة، كان التفاعل مع قضية المسلمين البورميين أو «الروهينجا» أقل مما يجب في العالمين العربي والإسلامي، بل تكاد تكون الجهود المبذولة خارج ذلك السياق الذي يشترك معهم في الهوية والعقيدة، أكثر بكثير من الجهود التي تبذلها الدول بشكل رسمي، أو المنظمات بشكل طوعي، في سبيل المساهمة في حل الأزمة أو الضغط على المتشددين البوذيين من أجل القبول بالتعايش السلمي المشترك.
المقال المشار إليه الذي تم بسببه حجب ذلك العدد من المجلة في مناطق بوذية عديدة، باعتبارها تسيء إلى «ديانة السلام» كان يضع صورة الراهب البوذي الشهير «ويراثو» برأسه الأصلع ولباسه البرتقالي ووجهه المتجهم والمتخشب على الغلاف.
ويراثو الذي يطلق عليه اليوم «بن لادن البوذية» هو صاحب القول المشهور، إبان اشتداد الأزمة في البلاد وازدياد الجرائم ضد المسلمين: «الوقت ليس وقت تهدئة.. الوقت وقت غليان الدم» وهو ما جعله يتهم بالتحريض وإثارة القلاقل وزرع الفاشية البوذية. اتهامات لم تمنعه من مواصلة رسالته الدموية، وهو ما يبدو واضحاً من خلال ملاحظة تكاثر أعداد مريديه، الذين حولهم لمتطرفين موتورين خالين من الإنسانية.
بحسب الأمم المتحدة تبقى الروهينجا الأقلية الأكثر اضطهاداً في العالم، وبوجود أشخاص مثل ويراثو فإن الكراهية ضد المسلمين «الذين يحتلون أرضنا»، على حد تعبيره سوف تتزايد يوماً بعد يوم. حذرت المجلة وغيرها من المراقبين في تقاريرهم من تزايد روح العصبية، التي تمددت فعلاً لدول مجاورة كسيريلانكا، التي حظرت ذلك العدد من المجلة، وتايلند. أشخاص مثل ويراثو، وهم كثر للأسف، استطاعوا بمزجهم أحقادهم العنصرية مع وعظهم الديني أن يختطفوا الديانة البوذية، وأن ينقلوا رسالتها من تبشير بالسلام إلى تعاويذ للكراهية. يقول ويراثو في إحدى خطبه: «الاهتمام بديني وعرقي أهم بكثير من الاهتمام بالديمقراطية.. المسلمون أناس سيئون». إن أصل الخطاب العنصري ينبع من الاعتقاد بأن تلك الأراضي وأراضي أخرى تضم اندونيسيا وماليزيا وغيرها ليست سوى وطن بوذي. الخطاب ذاته يتهم المسلمين بالسيطرة على أرض الأجداد واحتلالها، مطالباً اليوم بالتخلص من أخطاء الماضي عبر منع «الروهينجا» من التقدم بطردهم أو القضاء عليهم وإفنائهم.
تلك صورة قاتمة بلا شك، لكن الأكثر قتامة من حالة الاستضعاف التي يعيشها المسلمون، هو أنهم قد تركوا وحدهم بلا ملجأ ولا خيار سوى الحصار وانتظار المصير المحتوم. لو نجا أولئك من خطورة السفر عبر المياه العميقة وبواسطة قوارب مهترئة، فلن يسمح لهم بدخول الدول المجاورة التي لن تقبلهم كلاجئين ولا حتى كزائرين ولأسباب مختلفة، حتى الدول الإسلامية المجاورة لا تبدو إلا بمنظر المتفرّج وهي ترفض، في غالبها، استقبال الوافدين.
ما زلت هنا أذكر عدداً من الصور التي طافت العالم عبر الإنترنت: صورة البورمي المسلم الذي يتوسل بالشرطي البنغلاديشي ويكاد يقبّل قدمه حتى لا يعيده من حيث أتى. صور تعذيب الأطفال المسلمين والتلذذ بجلدهم أو اللعب بأجسادهم. صور الاعتداء والاغتصاب، صور الجثث المحترقة وغيرها من المشاهد التي يصعب وصفها.
الغريب أن الإسلام الذي دخل في عهد هارون الرشيد إلى تلك البلاد عاش أصحابه متشاركين الوطن مع أبناء جلدتهم البوذيين والهندوس، ولم يحاولوا فرض ديانتهم عليهم بالقوة أو إخضاعهم، ولم يسجّل التاريخ، حتى الذي كتبه غير المسلمين، أي محاولات لسلب حرية الأديان الأخرى، حتى في زمن تمدد وقوة الدولة الإسلامية. بهذا يكون هذا الكم من الحقد على المسلمين والرغبة في التشفي والانتقام غير مبرر البتة.
على العكس يسجّل التاريخ أن البوذيين قد تقووا بالإنكليز إبان فترة الاحتلال التي كرّست للتمييز العرقي والديني لممارسة انتهاكات ممنهجة ومجازر قبل أن يتم إبعاد جميع المسلمين عن كل الوظائف المهمة في الدولة، حتى الوظائف العادية، بل حتى في المناطق التي يشكل المسلمون غالبيتها كمنطقة أراكان المسلمة. لقد ابتكر النظام السياسي، ومنذ السبعينيات، بدعاً غريبة ليؤسس للتمييز ضد المسلمين، فبعد منعهم من الالتحاق بالجيش أو الشرطة تم إنشاء نظام البطاقات الذي يمنح البوذيين بطاقة حمراء تشير لكونهم سكاناً أصليين، في حين يمنح غيرهم بطاقات خضراء في إشارة لمواطنين من درجة ثانية، يكتب عليها أحياناً أنهم من أصل هندي أو باكستاني أو عربي، أما المسلمون فيمنحون بطاقات بيضاء تشير لكونهم في آخر درجات المجتمع فلا يحق لهم حتى العلاج في المستشفيات الصحية العامة.
أما أكثر ما يقلق سياسة الكراهية تلك فهو الحركات الدعوية والمساجد والأئمة، وهم من يتلقى بقوة القدر الأكبر من محاولات التأديب والتعذيب، فبالإضافة إلى تحريم العمل السياسي على المسلمين فإن أي نشاط ديني قد يعرّض صاحبه ببساطة للموت.
الموقف داكن السواد، وفي لحظة كتابة هذه السطور كانت الأنباء تتحدث عن غرق المئات في البحر، وهم ينوون الفرار من القتل والتعذيب لأي ملجاً. المستقبل غامض لانعدام الحقوق ولتحول جميع البلاد إلى معتقل كبير ولعدم رغبة السياسيين، الذين يتحالف معظمهم مع المتشددين البوذيين، في تغيير الواقع.
لقد أدانت المنظمات الحقوقية العالمية ما يحدث هناك بقوة، ويمكن مراجعة التقارير الموثقة التي تتحدث عن إبادة مدينة «راسيدن»، على سبيل المثال، وعن غير ذلك من الجرائم، لكن السؤال المحتوم هنا هو عن دور المنظمات العربية والإسلامية وتلك الدول الكبيرة والغنية القريبة والبعيدة. السؤال عن إمكانية استثمار الضغوط الدبلوماسية من أجل تحسين أوضاع الروهينجا قبل أن تباد وتفنى، حتى يحدث ذلك فإن الروهينجا سوف يتابعون موتهم غرقاً في الطريق إلى النجاة أو قتلاً بدم بارد على أيدي المتطرفين.
٭ كاتب سوداني
د. مدى الفاتح
شكرا لك يا دكتور مدى بتذكيرنا باخواننا الروهنجا
الغريب أن الوحيد من زعماء المسلمين من زارهم هو أردغان وعقيلته
ولا حول ولا قوة الا بالله