عند تقاطع شارعي الحرية والسعادة وقف هو بعقوده الخمسة أمام واجهة إحدى المقاهي الثقافية .. تنعكس على الواجهة الزجاجية ملامح شبح .. تأمل كثيرا .. حاول أن يتبين تقاطيع وجه لم يعد وجهه .. لا يعرف منذ متى لم يعد يذكر شيئا عن ماضيه .. يدرك جيدا أنه في رقعة من جغرافيا هذا الوطن ينتظره حاضر ومستقبل.. الليلة الماضية زاره الحلم ذاته .. صبي وفتاة يمتطيان الحصان الخشبي الذي لا يبرح مكانه .. امرأة تجلس القرفصاء .. أمامها تنتصب شجيرة الزيتون وبقبضة يدها اليمنى أمسكت بعض الأغصان اليابسة .. و فوق الكرسي الخشبي العتيق .. بين يديه رواية أو كتاب .. ماذا حدث بعدها ..؟! هذا ما لا يتذكره .. غشاوة وضباب يمنعانه من متابعة المشهد .. يحاول جاهدا أن يتذكر .. ألم شديد يشطر دماغه نصفين .. يضع رأسه بين راحتي كفيه .. يعصره .. يسحقه .. خمسة رجال الفتاة سقطت عن الحصان .. يداه مقيدتان .. الصبي يصرخ .. عصابة سوداء .. رجل يمسكه من ذراعه .. شجيرة الزيتون دهست .. الكتاب اعتقل .. حجز .. ماذا حدث بعدها .. من هو .. من هؤلاء !؟ لا يذكر شيئا .. غريب في عالم من الغرباء .. يبحث عن نفسه في وجوه الآخرين .. لكنه لا يعثر على أي شيء .. سوى دفعات من الشقاء والشرود والخوف واللائمان .. يشك أحيانا أنه أصبح لا مرئيا .. شفافا .. يحدث أحيانا أن يصطدم عمدا بأحدهم ليؤكد وجوده .. لكنه يقابل بلا مبالاة .. بإقصاء .. برفض .. لا ينتبه لوجوده .. لا يعيره اهتماما ولا يلتفت إليه أحد .. يدرك جيدا أنه أصبح على آخر عتبات الجنون وأن هذا الخيط الرفيع الذي يفصله عن مملكة التيه والضياع لابد وأن ينقطع ذات صباح .. هذا إن لم يكن إنقطع فعلا ذات زمن وأن كل هذه التهيؤات والرؤى .. الحجرة الباردة .. العصابة السوداء .. الأسئلة الكثيرة المتناسلة التي لم يعثر لها يومها- عن جواب هي من صنعه وابتكاره .. دليل وهمه وجنونه .. وهمه وجنونه !! وآثار الجرح فوق حاجب عينه اليمنى وكل هذه الخطوط المتوازية والمتقاطعة والأشكال الهندسية والكلمات وكل هذه النحتيات المرسومة بعناية وإتقان الفنان على صدره وذراعيه وأجزاء من خصره ألم تكن لحظات إلهام وإبداع أحدهم ..!! وهم وجنون .. وهم .. جنون .. متوهم ومجنون .. تختلط عليك الأحداث والوجوه والأماكن .. لا إسم لك .. لا عائلة .. لا أصدقاء .. لا تاريخ .. لا ذكريات .. لا ماضي .. لا حاضر ولا وطن .. متوهم ومجنون .. هذه حقيقتك .. أو هكذا يجب أن تكون .. ثم .. ثم أنت من إختار هذا الطريق المسدود .. طريق الخبز والكرامة .. ههه أنت من إختار أن يكون وحيدا غريبا منبوذا .. متوهم ومجنون .. تظن وأمثالك أن لكم فضلا على كل هذه الوجوه المغمورة بجرعات إضافية مبالغ فيها من الحرية والجرأة والإنطلاق .. هذه الوجوه التي لا تعيرك اليوم إهتماما .. أتعرف ماذا ؟؟ في أي لحظة يمكن أن توضع نقطة نهاية لقصتك .. لوجودك .. أن تنتهي كأي حقير .. كأي منسي .. كأي متشرد .. مراهق يدهسك .. أو مجنون يطعنك أو في أحسن الأحوال أن تموت في ركن .. في زاوية .. وحيدا دون أن ينتبه إليك أحد .. أن تموت ببطء .. ببطء .. متوهم .. مجنون .. هذا أنت .. هكذا عشت .. هكذا كنت .. هكذا ستبقى .. وهكذا ستنتهي ..