نوستالجيا شعرية

حجم الخط
1

يقترن الشعر أكثر من سواه من الفنون بنوستالجيا مزدوجة، فالحنين فيه ليس دائما إلى ما مضى باعتباره الفصل الذهبي في كتاب الزمن، إنه أيضا يتجه إلى المستقبل، بحيث يكون الحنين إلى ما لم يحدث بعد لكنه ممكن الحدوث، وحين كتب جيته الألماني بما لديه من شغف شرقي عن البلد البعيد، صوّر فتاة لا تكف عن البكاء حنينا إلى ذلك البلد المجهول، ولأن بلدا كهذا ليس من النطاق الجغرافي لعالمنا، فهو بالضرورة بلد مقبل وليس غاربا.
إن هناك في الشعر ما يمكن وصفه بالندّاهة، وهو صوت مقبل من بعيد، حين أراد يوسف إدريس التعبير عنه روائيا، أوجد له معادلا موضوعيا ومسموعا وهو صفير القطار الذي يمر بقرية، تحلم إحدى صباياها بالمدينة، ورغم واقعية إدريس إلا أنه مشحون بهواجس شعرية تماما، كما هو الحال بالنسبة لواقعية تشيكوف الذي تأثر به إدريس في أكثر من نصّ، حتى برتولد بريخت وهو واقعي بامتياز وذو انتماء ايديولوجي معروف، لم يتحرر من النوستالجيا المزدوجة، ففي إحدى قصائده، وهي عن مدينة أسطورية تحمل اسم بيلارس يقول، إن الحالمين ببلوغها لأنها تحقق آمالهم أصيبوا بصدمة عنيفة عندما سمعوا ذات صباح أن تلك المدينة المحلوم بها دمّرها الزلزال، إنه بقدر ما يعلن عن رفضه للنوستالجيا ذات البعد الواحد، وهو بعد الماضي يتخيل واقعا آخر، هو الآجمل والأبهى لأنه سيكون محررا من شوائب الراهن، وهذا ما عبّر عنه شاعر آخر صنّف نقديا بأنه ماركسي، وهو ناظم حكمت عندما كتب في إحدى قصائده أن أجمل الأطفال لم يولد بعد، وكذلك أجمل القصائد والأزهار، وبخلاف هؤلاء جميعا تتضح النوستالجيا الشعرية لدى كافافي الذي عاش في الإسكندرية لكن زمنه كان يونانيا بامتياز، مما جعله يشعر بالنفي لكن على مستوى التاريخ وليس المكان .
ونوستالجيا كافافي مضادة للمستقبل لأنه رأى أن الحلم بالوصول أهم من الوصول ذاته، وفي قصيدته إيثاكا ثمة تعبير مباشر عن الخيبة التي يشعر بها الإنسان إذا وصل بالفعل إلى المكان الذي حلم به طويلا، فالطريق إلى إيثاكا، وهي رمز لكل ما يحلم الإنسان ببلوغه أبهى من ايثاكا ذاتها، وهو هنا يلتقي بشكل أو بآخر مع الشاعر العربي العذري الذي سعى إلى افتعال العقبات التي تحول دون وصاله بمن يحب، بحيث يصبح الحب ذاته أهم من الحبيب، وهذه ظاهرة في ثقافتنا الموروثة تستحق التوقف مطولا عندها، فبعد قرون من قصائد العذريين يكتب شاعر عربي معاصر قصيدة لأم كلثوم يقول فيها مخاطبا العشّاق :
العيب فيكم يا في حبايبكم
أما الحب يا عيني عليه
ومعنى ذلك باختصار أن الحب أعز من الحبيب، ولهذه الظاهرة في حياتنا تجليات تستحق التأمل، منها مثلا تمجيد العروبة والتنكيل بالعربي والإعلاء من شأن فلسطين حدّ القداسة والتنكيل بالفلسطيني، إنها ظاهرة تختزل ثقافة طالما انزلقت نحو التجريد كي تعفي نفسها من أي مساءلات واقعية.
إن شعرنا العربي منذ بواكيره وتحديدا في المعلقات تهيمن عليه نوستالجيا الحنين إلى ما مضى، وما اللحظة الطللية سواء كانت مدخلا للقصيدة، أو شحنة مبثوثة في ذاكرة الشاعر إلا من نتاج النوستالجيا، فالماضي دائما هو الأجمل والأكمل، أما المقبل فهو مصدر رعب لأنه المجال الزمني لتبديد الشباب، وبلوغ الشيخوخة، وفي أحسن الأحوال هو قدر مُبهم لا سبيل إلى الوقاية منه أو استباقه.
بالنسبة لما قلته عن كافافي أتذكر ما كتبه عنه البروفيسور باورا، وهو أن أهمية كافافي الشعرية في كونه كتب بلغة يونانية شبه محكية عن الزمن الأغريقي، واستطاع تطويع أدواته كي تلبي رؤاه، ففي إحدى قصائده التي تبدو أقرب إلى السهل الممتنع يغفو رجل عجوز وهو يقرأ الجريدة وتبرد قهوته، لأنه ينوء بحمولة من الذكريات وهو أيضا يسخر بإحساس رواقي ممن ادخروا رغباتهم لأنها سخرت منهم عندما عجزوا عن إشباعها.
أما أطرف ما أنتجته النوستالجيا الشعرية فهو النصوص التي صنّفت في خانة الأدب المقاوم، فالشاعر المخلوع من أرضه يستغرق الحنين إلى الرجوع، حتى لو كان مسقط رأسه في مكان آخر، لهذا أصبحت نوستالجيا شعر الحنين إلى الوطن وما مضى هي البديل المعاصر للمقدمة الطللية، فعلى سبيل المثال ثمة شعراء فلسطينيون ولدوا في الأردن أو الكويت أو لبنان أو العراق، وبالتأكيد لديهم حنين إلى تلك الأماكن التي لم تعرف طفولتهم غيرها، لكنهم نادرا ما يبوحون بذلك، لهذا تكون النوستالجيا بالنسبة إليهم إما افتراضية أو مُتخيّلة، في الحالتين تفقد وهجها وقدرتها على التأثير. إن النوستالجيا المضادة وهي الحنين إلى المقبل وما لم يتحقق بعد تتطلب على ما يبدو قدرا من الانعتاق والتحرر من نفوذ الذاكرة، لأن الإنسان العادي يشعر بالحنين إلى ما يعرف بعكس بطلة جيته التي تحن إلى بلد بعيد لا تعرفه . إنها لحظة اشتباك بين الذاكرة والخيال يتعذر فكّها إلا لمن فهم التاريخ كما ينبغي له أن يفهم بجدليته ومفارقاته ومكره أيضا كما يقول هيجل .
ولو أخذنا للمثال فقط قصيدة أحلام الفارس القديم لصلاح عبد الصبور لوجدنا أن الماضي هو الوجه الآخر للمقبل لأنه بكارة التجارب والأشياء كلها، لهذا يبدي الشاعر استعداده لإعطاء كل ما اعطته الدنيا من التجريب والمهارة لمن يعطيه يوما واحدا من البكارة ، وهذه في حد ذاتها لحظة طللية لكنها في النطاق السايكولوجي لتكوين الفرد ولكي نفهم أبعاد وتجليات النوستالجيا الشعرية في تراثنا على الأقل علينا أن نفهم ما تعنيه كلمات مثل الدهر والزمن والأبدية، فهي بالتأكيد ليست مترادفة وقد نجد لدى بعض شعرائنا القدماء أو المعاصرين حنينا إلى الأبدية ليس لذاتها بل لأنها النقيض المتخيّل للفناء والزوال!

كاتب أردني

خيري منصور

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول حي يقظان:

    الأخ خيري منصور،

    الفارق الفردي بين “تقديس” الحب و”تدنيس” الحبيب (والذي يتمثل، في الثقافة العربية، كالفارق الجمعي بين تمجيد العروبة والتنكيل بالعربي)، إنما يقابله في التحليل النفسي اللاكاني، على وجه التحديد، ذلك الفارق “العلائقي-التدميري” بين كُنْه الرغبة desire itself بوصفه كُنْهًا راغبًا وبين كائن الرغبة object of desire بوصفه كائنًا مرغوبًا فيه. ولهذا، تتصف بنية الرغبة، في حد ذاتها، بالصفة “الكِناوية” أو “الكنائية” (نسبة إلى الكناية metonymy) لأنها تستدعي غيابَ أية رابطة ثابتة قابلة للتنبُّؤ بين طرفي هذا الفارق “العلائقي-التدميري” في النفس البشرية.

    المسألة معقدة جدًا، ولكن اكتفيتُ بهذا الكم اليسير للتذكير فقط.

إشترك في قائمتنا البريدية