لا مراهق غادر منفعلا في لحظة طيش ولا مراهقة غابت ثم انقطعت أخبارها مثلما يحصل عادة في معظم أرجاء الدنيا، بل ازيد من ثلاثين شابا بالتمام والكمال ذابوا كفص ملح واختفوا دفعة واحدة من بلدة صغيرة في محافظة تطاوين بالقرب من الحدود التونسية الليبية.
مراسل إذاعة «شمس» الخاصة وصف الامر باللغز، وقال إنه بعد انقضاء صلاة تراويح ليلة التاسع عشر من رمضان، فقد الشبان الذين لم تضبط اعدادهم بعد، مضيفا بانهم من اعمار مختلفة، وفيهم من يعمل ومن لايزال يعاني البطالة، قبل أن يذكر بأن هناك «انباء حول إمكانية التحاقهم بتنظيم داعش الارهابي».
أما إذاعة تطاوين الحكومية فقد ذكرت بدورها أن ستة من المختفين ينتمون إلى ما وصفتها «بالتيارات المتشددة»، فيما كانت وكالة الأنباء الرسمية أكثر تحفظا حين اعلنت أن عددا من الأسر داخل المدينة تعيش حالة من الحيرة بسبب اختفاء ابنائها والخشية من تسللهم إلى القطر الليبي، قصد الانضمام إلى مجموعات مسلحة، إما داخله أو في مكان آخر. وزادت بعد كل ذلك تصريحات المتحدث الرسمي باسم وزارة الدفاع بأن ثلاثة من المختفين هم عسكريون أو كانوا منتسبين في السابق للجيش، في تغذية التأويلات والشائعات حول حصول اختراقات جديدة ومحتملة داخل المؤسسة العسكرية ذاتها. ورغم أن خبر الاختفاء بدا محققا ومحسوما بنظر الإعلام المحلي، إلا أن ذلك لم يدفعه للبحث عن تفسير آخر خارج احتمال صار قناعة لا تقبل الدحض او التشكيك، وهي أن المختفين هم جزء من خلية إرهابية ركنت إلى سبات تكتيكي عميق قبل أن تستيقظ من غفوتها وتقرر مباشرة بعد انقضاء صلاة تراويح يوم من أيام رمضان، تغيير قشرتها والالتحاق بباقي المجموعات المسلحة، التي تعمل من أجل تقويض الدولة وخرابها.
لم يسأل أحد في حال ثبوت فرضية الاختفاء أو الهروب، عن السبب أو الدافع من وراء ذلك، ولا عن مسؤولية الدولة وتقصيرها في فهم ظاهرة معقدة حيرت العالم بأسره، واختزلتها السلطات في مجرد خلطة تقليدية بين انحراف في فهم الدين وفقر وعوز يزجان بالشباب في مهالك لا أول لها ولا آخر. ولذلك لم يكن غريبا أن يتحول المفقودون أو الهاربون، في نظر الإعلام، إلى مجرد قنابل تدميرية قابلة للانفجار السريع والمفاجئ، في اي وقت، ولم يكن مستبعدا ايضا ألا يهتم أحد على الاطلاق لمصيرهم، بقدر ما صار الهم الاكبر هو التخلص السريع منهم ومن الخطر الافتراضي الذي تمثله عودتهم، في حال ما إذا صح انهم غادروا وطنهم بالفعل.
لقد كانوا ارقاما مهملة ومتروكة في سجلات الدولة وتحولوا فور اختفائهم الجماعي الغامض إلى شخصيات ملاحقة ومطلوبة، وربما كان للتوقيت دور في ذلك، فالبلد لم يستيقظ بعد مما وصف بزلزال السادس والعشــــرين من يونيو الماضي، حين أقدم شاب مجهول على قتل أكثر من ثلاثــــين سائحا اجنبيا في احد فنادق سوسة بدم بارد وســــهولة فاقت الخيال. في ذلك اليوم سقط الضحايا على شاطئ سوسة وداخل فندق» امبريال مرحبا»، ولم يكن أحد يتصور أن سقوطهم سوف يعني سقوطا تدريجيا لتونس بأكملها في موجة اكتئاب جماعي حاد وقلق هستيري، مما قد تخبــــئه الايام المقـــبلة من هزات وكوارث قد تكون أدهى وأمر من سابقاتها.
لم تعد التحذيرات من ذلك مجرد صيحات فزع محلية يطلقها الرئيس تبريرا لفرض الطوارئ، أو تخرج من فم رئيس الحكومة وكبار المسؤولين ورجال السياسة بحثا عن بعض الهدوء والاستقرار، ورغبة في التخلص من عبء المطالب والضغوط النقابية، بل صارت الان سلوكا واسلوبا دوليا معلنا. والخطير في الامر هو ان التونسيين الذين اعتادوا على عدم تصديق حكامهم، لم يجدوا سببا واحدا يقنعهم هذه المرة بعدم جدية الدول الغربية ومبالغتها في تقدير التهديدات والمخاطر الموجودة على أرضهم، التي قادت بعض العواصم للاسراع بمطالبة رعاياها بحزم الامتعة ومغادرة تونس على وجه السرعة. فإذا كانت دولة بحجم بريطانيا وثقلها الاوروبي على الاقل، تنصح في بيان رسمي مواطنيها الموجودين في تونس بمغادرتها، في صورة ما إذا لم يكن هناك موجب مهم لبقائهم فيها، وتضيف أيضا بشيء من الثقة البالغة في مصادر معلوماتها، بان هناك احتمالا قويا ووشيكا لوقوع هجوم ارهابي آخر بعد هجوم سوسة، فان ذلك يعني أن ما اعلنت عنه السلطات من اجراءات وما اتخذته من قرارات، وأهمها إعلان الطوارئ، لم يطمئن الغربيين إلى أن الامور باتت تحت السيطرة تماما، وان مصالحهم ورعاياهم باتوا في مأمن من وقوع فاجعة جديدة. ما الذي يطلبونه اذن بعد كل ما فعلته الحكومة من اغلاق اكثر من اربعين مسجدا في شهر رمضان، وملاحقة المئات ممن تصفهم بالمشبوهين، واعتقال ألف شخص منذ مارس الماضي فقط، في تهم ذات علاقة بالارهاب، بحسب ما صرح به رئيس الحكومة، ونشر أكثر من الف شرطي مسلح داخل وحول الفنادق ثم منع اكثر من عشرة الاف شخص من السفر إلى ما اعتبر جهات نزاع وتوتر؟ هل يطلبون الزج بكل التونسيين في غيتوات أو معتقلات يعرض فيها الشباب التونسي الذي صار يمثل العدد الاكبر من بين المنتسبين لـ»تنظيم الدولة» في العالم، على مسح فكري وعقلي شامل لفرز الارهابيين من الاشخاص العاديين ومن ثم استئصالهم والقضاء عليهم في المهد، قبل أن يبادروا بالانضمام إلى ذلك التنظيم؟ لو كان الامر بيد البريطانيين أو غيرهم لفعلوه على الفور، ولكنهم يعلمون جيدا انهم بصدد حرب استنزاف طويلة الامد وممتدة الساحات على طول المشرق والمغرب، وانها قطعا لن تكون بالسهولة التي قد يتوقعها الكثيرون. ولعل ما قاله مايكل هايدن مدير وكالة المخابرات الامريكية السابق لصحيفة «لوفيغارو» الفرنسية في السادس من الشهر الجاري، هو أحدث تصريح يؤكد تلك الحقيقة، إذ صرح بالحرف «بأن المنطقة ستبقى في حالة عدم استقرار في السنوات العشرين او الثلاثين المقبلة، ولا اعلم إلى اين نحن ذاهبون، ولكن اعتقد أن السياسة الهادفة إلى احياء هذه الدول، يقصد سوريا والعراق، لن تكون مجدية». وطبعا لم تكن مثل تلك التصريحات هي الاولى من نوعها فقد سبقتها تصريحات اخرى لعدد من كبار السياسيين وصناع القرار، بمن فيهم الرئيس الامريكي اوباما نفسه، الذي ردد مرارا بان الحرب مع تنظيم الدولة قد تستغرق عقودا. والاشكال الحقيقي هنا هو أن المعارك الحقيقية تدور خارج اراضي الغرب، ما يعني أن من يدفع الثمن في النهاية هي الشعوب والدول العربية بالاساس، التي صارت وحدتها حتى وفقا لرسم «سايكس بيكو» سيئ الذكر محل مراجعة جذرية. لكن إلى اين تقودنا تلك الحرب العبثية والمجنونة؟ المآل الفوري بعد الخراب هو الفقدان الكامل لسلطة القرار الوطني بذريعة الاسهام في الجهد الدولي المشترك لما اطلق عليه الحرب على الارهاب. والادوات والاساليب هنا تبقى مجرد تفاصيل عابرة وجانبية لا يلقي لها المتحاربون بالا. فالطرفان المتقاتلان على الجبهة العربية المفتوحة يعلمان جيدا في وضع تونس ما الذي تعنيه السياحة للبلد، لذا اختاروا توجيه ضربة قاصمة في عز الموسم، ثم قرروا ايضا ارفادها بضربة اخرى، قد لا تقل ضرارا وايلاما، وهي ترك البلاد وهجرها بالكامل تحت مبرر الخوف على حياة السادة البيض، الذين اعتادوا القدوم اليها فقط لاجل اخذ حصتهم من حمامات الشمس. أليس ذلك تقاسما سرياليا غريبا بين عدوين يتبادلان الخصومة في الظاهر ثم يشتركان معا ومن وراء الستار في اصابة الهدف ذاته في مقتل. واذا كان الشباب التونسي المغادر نحو «تنظيم الدولة» خائنا ومتنكرا للدين والوطن، أليس السياح الغربيون المغادرون خائنين ومتنكرين للديمقراطية؟ ثم أليست دول الغرب خائنة لتونس بعد أن تعهدت ثلاث منها على الاقل، وهي بريطانيا وفرنسا والمانيا، بعدم ادراج البلد ضمن الوجهات الخطرة او الممنوعة، شريطة أن تكون طرفا في التحقيقات في عملية سوسة، بحسب تصريح وزارة السياحة في التاسع والعشرين من الشهر الماضي، ثم خالفت واحدة من ضمن الثلاثة بعد ايام من ذلك تعهدها السابق ودعت رعاياها للرحيل؟
قد تكون الخيانة احيانا فرصة مناسبة لاجراء المراجعات، ولكنها بالنسبة للسلطات صارت فقط فرصة لنفض الغبار عن رموز القمع تحت غطاء تحولهم «لاحتياطي تونس»، مثلما قال عنهم رئيس الحكومة الذي زاد ووصفهم ايضا «بالكفاءات» التي «آن الاوان للاستعانة بها لمحاربة الارهاب». ومادامت تلك المراجعات قد حسمت نحو تلك الوجهة، فلا جدوى اذن من ملاحقة الزوار الهاربين واغرائهم بالعودة لانهم لن يفعلوا ذلك إلا متى تخلصت تونس من لوثة الديمقراطية التي اصابتها وعادت مجددا إلى حضن الاستبداد الذي كان يوفر للوافدين الاجانب أمنا وسكينة مفقودين، وقد يكون ذلك الشرط ايضا واحدا من بين اسباب كثيرة عجلت بهروب شبان البلدة الصغيرة بمحافظة تطاوين وباقي الشباب الذي كفر بديمقراطية لم تجلب له ما فقده من عدل وانصاف. والنتيجة النهائية لكل ذلك هي ألا فرق تقريبا بين المغادرين المحليين والاجانب، ما داموا قد رددوا الجملة ذاتها باكثر من لغة واسلوب «باي باي تونس سنعود اليك بمجرد انفصالك عن الديمقراطية». أما السؤال المعلق بعدها فهو، هل تقدر تونس على السير في طريق الديمقراطية بمعزل عنهم، وهل بإمكان التونسيين حقا تحمل التبعات والضغوط لاجل تلك الغاية.؟ قد تحمل الايام والشهور المقبلة بعض الجواب.
٭ كاتب وصحافي من تونس
نزار بولحية