عالمية النصوص وكتابها

كثيرا ما نجد الصحافة  العربية، تطلق لقب: العالمي، على كثير من الكتاب العرب، من الذين ترجمت لهم نصوص للغات أخرى مثل الإنكليزية، والفرنسية، والإيطالية، ونجد أولئك الكتاب يتلقفون ذلك اللقب بأحضان مفتوحة، يساعدونه على النمو بسرعة، وربما يروجون له بأنفسهم  وسط قرائهم والتجمعات الثقافية التي يحضرونها.
وبالتالي تجد كاتبا أو شاعرا من الذين اهتموا بالفعل بهذا اللقب الكبير، زاهدا في كل شأن ثقافي عربي، وعينه على شؤون غربية، يجد أن من حقه التواجد في وسطها.
في رأيي الشخصي غير الملزم لأحد، أرى أن العالمية ليست نصوصا مترجمة للغات أخرى، على الإطلاق، حتى لو بلغت نصف لغات الكرة الأرضية، فقد ذكرت من قبل في حوار معي، وذكر الكثيرون قبلي وبعدي، إن مسألة الترجمة هذه بالذات، تخضع في حالات كثيرة إلى الحظ، والمصادفة، والعلاقات الخاصة التي تربط كاتبا عربيا بمترجم أوربي، أو النبش في مواضيع يهم الغرب أن يعرف عنها شيئا مثل الكتابة في الدين بسلبية، وإيراد مقتطفات من العنف، وزواج القاصرات، والاستعباد في بعض الدول، والترويج لتلك الكتابة، لتصل إلى من يبحث عنها بطريقة أو بأخرى. وأعرف نصوصا ليست ذات تأثير حتى في اللغة العربية، وربما لم يسمع بها حتى المهتمون بالقراءة، عبرت إلى لغات أخرى، ونصوصا لم تنشر حتى بالعربية بالرغم من أنها كتبت بها، ترجمت إلى لغة أخرى ونشرت هناك. وفوجئت مرة بكتاب بالفرنسية، لشخص أعرفه جيدا، ولم أعرف على الإطلاق أن له اهتمامات بالكتابة، وأخبرني حين سألته عن الكتاب أن فتاة يعرفها تولت نشره  بالفرنسية بعد ترجمته.
الكاتب العالمي، هو الكاتب الذي يحدث هو أو نصه المترجم تأثيرا ما لدى جمهور أعرض من جمهور القراءة الروتيني الذي يلهث وراء الكتب، جيدها ورديئها، أن يكون موجودا حتى لدى أولئك الذين يمتهنون مهنا لا تغرى باقتناء الكتب ومطالعتها، وأن يكون مدرسة كتابية تؤثر في أجيال كتابية، في أي لغة يترجم إليها، وقد حقق كتاب هذه الشروط  بكتاب واحد فقط، وحققها آخرون بعدة كتب، أو بمجموع ما كتبوا، وبذلك أصبحوا كتابا عالميين.
وأذكر في دورة تدريبية عن الإسعافات الأولية، وإنقاذ الحياة، حضرتها، أن المحاضر  وكان هنديا، ذكر أن هناك شيئين هامين على الناس فعلهما: أن يتعلموا كيف يتصرفوا بسرعة في الحالات الحرجة، وأن يقرأوا «مئة عام من العزلة»، لغابرييل غارسيا ماركيز. وبالطبع كان هذا كلاماً مبالغاً فيه، لكنه يعد دليلا على عالمية ماركيز، ونص عزلته، ذلك أنه ذكر في دورة تدريبية جافة، وجادة، ولا يمكن أن يتوقع أحد أن يذكر الأدب فيها، وكانت لحظة سعادة كبيرة لدي، حين قلت للمحاضر إنني قرأت «مئة عام من العزلة»، والآن أحضر دورته لإنقاذ الحياة.
وللتذكير فقط فإن ماركيز بما قدمه، قد أصبح مدرسة تعليمية عن بعد لقطاع كبير من الذين ترجم إلى لغاتهم، وعندنا في العربية، كان معلمنا حقيقة. ومن المؤكد أن بورخيس عالمي أيضا، ويوسا عالمي، وكذلك الشاعر لوركا من إسبانيا، و أمبرتو إيكو من إيطاليا، وبول أوستر من أمريكا، ونجيب محفوظ من مصر، والطيب صالح في «موسم الهجرة إلى الشمال» خاصة، على سبيل المثال فقط. لكن ماركيز يختلف، أي نص كتبه، حمل شعاعا ما، أنار به طريقا ما، وأي كلمة ذكرها في حواراته، كان لها ما يبررها داخل نصوصه. والذي يقرأ «الحب في زمن الكوليرا»، لن ينسى أبدا كيف تكتب المتعة في نص مكتوب بجهد وبحث دقيق في أمور الحياة.
من الروايات التي أعتبرها عالمية أيضا، وطغت على ما كتبه مؤلفها، حتى لا نكاد نسمع ببقية أعماله، رواية «الأشياء تتداعى» للراحل النيجيري تشينوا أشيبي، فرواية أشيبي هذه، كانت قد كتبت بسحرية أيضا في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، وأدخلت فيها الأساطير الأفريقية، والميثولوجيا الخاصة بتلك الشعوب، وتعرضت لظلم الاستعمار في اتخاذه الديانة المسيحية مطية يغزو بها شعوبا آمنة ويستعبدها، وكانت رواية ذات تأثير واسع في أكثر من خمسين لغة ترجمت إليها، برغم قصرها، وما زالت تحلل في المدارس والجامعات، والمنتديات الثقافية. وأظنها من الروايات التي انطبق عليها القول الذي يتكرر كثيرا، ويؤكد أن المحلية، تقود إلى العالمية. نعم إنها رواية نيجيرية محلية، لكنها دخلت في سياق العولمة، وثلاثية نجيب محفوظ رواية محلية عن الحارة المصرية، ودخلت في سياق العالمية، وهكذا.
لي رأي آخر في نصوص، كان من الممكن جدا أن يحترمها العالم وتحدث تأثيرا كبيرا فيه، لما احتوته من فن، وجمال، وأفكار رائعة، لو أنها عرفت خارج نطاق اللغة العربية، أي لو أنها ترجمت وروج لها في اللغات الأخرى، مثل أعمال الكاتب العظيمعبد الحكيم قاسم، روايات «طرف من خبر الآخرة»، و»المهدي»، و»أيام الإنسان السبعة». وحقيقة كان عبد الحكيم موهوبا، ولم يعش طويلا، ليهبنا متعة أكبر. أيضا نص مثل «فساد الأمكنة» لصبري موسى، إنه واحد من النصوص الملهمة الأخاذة، التي تقدمت في زمانها، وما تزال طازجة حتى اليوم. والنصوص التي كتبها الراحل محمد مستجاب، واتسمت بقوة الخيال وجمال السرد.
إذن على الكاتب العربي الذي يترجم إلى لغات أخرى، أن يتتبع نصه المترجم، ويتعرف إلى مدى تأثيره في العالم، قبل احتضانه للقب العالمي الكبير، الذي يكاد لا يناسب إلا القليلين في ثقافتنا العربية، والتباهي به، ومحاولة جعله لقبا ملزما للآخرين.
ولطالما أجحفت الصحافة في حق الكثيرين، فألبستهم الوسواس، والفصام، من جراء الألقاب الفخمة التي تطلقها.
كاتب سوداني

أمير تاج السر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول حي يقظان:

    [تصحيح]

    على الرغم من أنني لا أميل إلى فكر مكيافيلي بأي شكل من الأشكال، أود أن أشير هنا إلى أن له قولاً ذا دلالة لافتة في هذا السياق، ألا وهو: «ليست الألقاب هي التي تشرّف الرجال، بل الرجال هم الذين يشرّفون الألقاب».

    ولكن، على صعيد الكتاب الروائيين الذين أثبتوا عالميَّتهم بكل جدارة، هذا إن لم نخصَّ بالذكر نظراءَهم من الشعراء والكتاب المسرحيين، أين الأعلام الروس من أمثال دوستويفسكي وتولستوي وتورغينيف من كلِّ هذا؟ لماذا لم تذكر العلم اليوناني نيكوس كازانْتَزاكي الذي حقق عالميَّته من خلال روايته الحوارية الفلسفية «زوربا اليوناني» وحدها، فيما يبدو؟ لماذا لم تتطرق إلى العلم الأمريكي وِلْيام فولكنر الذي حقق عالميَّته كذلك رغم أنه لم يتخطَّ حدود المحلية حينما ركَّز اهتمامه على الجنوب، وليس غير الجنوب؟ إلى آخره من الأعلام الآخرين، والقائمة تطول.

  2. يقول عادل:

    صحيح ما تقول : الترجمة عمل لوبيات… ليست كلّها طبعا، فنجيب محفوظ مثلا يستحق ” عالمي” عن جدارة. شكرا

إشترك في قائمتنا البريدية