القراءة القسريّة للهويّة وضياعها… عمر الشريف نموذجاً

حجم الخط
2

بيروت ـ «القدس العربي»: أعاد خبر وفاة الممثل عمر الشريف مؤخراً اسمه إلى عناوين الصحف ونشرات الأخبار، ولو ليوم واحد. إلاّ أنّ ما أثار اهتمام متتبعي «صحافة العناوين» و»ثقافة الأسماء» هو اكتشافهم للهويّة المُختلطة التي امتلكها الشريف المعروف بكونه الفنان المصري الذي دخل السينما الهوليودية بفيلم «لورانس العرب» للمخرج الأمريكي «ديفيد لين» عام 1962.

القراءة القسريّة للهويّة:

طوال سني حياته الثلاث والثمانين (1932-2015) قليلون من اهتموا بتسليط الضوء على الجذور المتنوعّة التي شكّلت هويّة الفنان المعروف باسم عمر الشريف، واسمه الحقيقي ميشيل ديمتري شلهوب. تعود جذور الشريف ابن العائلة المصريّة الاسكندرانيّة البرجوازية في الواقع إلى أسرة شلهوب الدمشقيّة، وليس إلى عائلة شلهوب اللبنانية الزحلاويّة، وفق ما تناقلته وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي مؤخراً باهتمام لم يبزّه- ربما- سوى الاهتمام بالهويّة الدينية للممثل الذي أجاد لعب دور العاشق، فرُبِطَ اعتناقه الإسلام بعشقه للممثلة المصريّة فاتن حمامة دون الإشارة حتى إلى أنّ هذا الاعتناق ربما لم يكن ليكون لولاّ قوانين الأحوال الشخصيّة التي تستند إلى الشريعة الإسلامية وتجبّر كل من هو غير مسلم على التخلّي عن معتقداته الدينية واعتناق الإسلام في حال رغب بالزواج من مسلمة، وهكذا فعل ديمتري شلهوب بتغيّر ديانته من طائفة «الروم الكاثوليك» إلى الإسلام.
إنّ فرض قراءة تجربة عمر الشريف كعربي اقتحم عالم الغرب هي بدورها قراءة استشراقية من وجهة النظر العربية، لكنها اثقلت على الشريف بدور ليس له وهو المؤدّي. هي المحاولة ذاتها لتأكيد أصول الشريف الدمشقيّة ومن قبله «ستيف جوبز1955-2011» مُؤسّس شركة «آبل» العالمية الذي اكتشف السوريون بعد وفاته أصوله الحمصيّة ولم يهتم الجمهور في الحالتين بالتساؤل عن سبب عدم ذكر وانتشار هذه المعلومة من قبل، وهل كانت معلومة هامةّ؟! بمعنى إلى أي مدى شكّل الانتماء السوري جزءاً من هويّة كل من الشريف أو جوبز الفكرية والثقافيّة والإنسانيّة حتى؟ إنّ خيارات الشريف المهنيّة ساهمت بجعله أحد رموز الثقافة المصريّة- السينما المصريّة الكلاسيكية في نهضتها الكبرى- فقرأ لكتّاب مصر، واشتغل مع مثقفيها في الخمسينيات واحتكّ بأنماطها المُجتمعيّة، مُتأثّراً رُبما أكثر منه مُؤثّراً. أمّا جوبز فعاش تجربة «الحلم الأمريكي» إن صحّ القول بعد أن تخلّى عنه والداه للتبني. تخلّى الطفل المُتخلّى عنه عن كل ذاك العالم الذي كاد أن ينتمي إليه، لكنه كان عالماً أجبن- ربما من وجهة نظر الطفل- من تحمّل مسؤولياته، فانتمى بُكليّته إلى العالم الجديد، وحاول إخفاء كل ما يمت بصلة إلى العالم القديم، المطمور تحت ركام التاريخ.
اعتناق الشريف للإسلام أمر ميّز حياته في العالم العربي، حيث قرّرت البروبغاندا الإعلاميّة اعتباره سفيراً للثقافة والحضارة ليس فقط المصريّة بل والعربية إلى هوليوود، مُتجاهلين حقيقة الدور الذي اضطلع به الشريف أو أُنيطَ به أداءه. فما الذي مثّله الشريف في حضوره في الثقافة الغربية كعربي سوى كونه جزءاً من اللوحة الاستشراقية الأمبريالية التي رُسمَت للعرب عبر فيلم «لورانس العرب»؟ وقراءة تجربة الشريف باعتبارها اقتحاماً عربياً للمعقل السينمائي الغربي دون النظر في سياقاتها الزمكانية والاقتصادية والسياسية هو كقراءة تجربة انتخاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما بمعزل عن هذه السياقات كلّها لتغدو أنموذجاً ديمقراطياً صرفاً كالحلم بانتخاب أول رئيس أمريكي من أصول أفريقيّة.

الهويّة الإسلامية:

يذكر حمد العيسى في توضيحه لعمله على ترجمته مجموعة نصوص للشخصيّة الإشكاليّة الآفروأمريكان «مالكوم إكس» وآخرين المعنونة «النصوص المُحمرّمة»: (قمت بمحاولة لترتيب النصوص «كرونولوجياً»- حتى يُلاحظ القارئ التطوّر في آراء مالكوم. لقد حدث تغيّر إيجابي كبير في فكره، فقد تحوّل حكمه على الرجل الأبيض من مجرّد «لونه أبيض» وحسب- كما علمه أستاذه الإيجا محمد- إلى «عمل» هذا الرجل الأبيض على أرض الواقع. وهذا هو الإسلام الحق).
في حين أنّ خطبة «إكس» الثالثة في ترتيب النصوص المُترجمة في المؤلّف الصادر عن «الدار العربية للعلوم ناشرون» التي عنونها المُترجم: (من عدوكم؟) ويعود تاريخها إلى عام 1963 إي عامين قبل اغتيال «إكس» فيقول فيها: (الرجل الأبيض لا يحبكم.. ولكن عندما يريد أن يؤذيكم يهتم بمعرفة من هو المسيحي ومن هو المسلم! لأنّه يعرف أنّ المسيحي الأسود سيعطيه الخد الآخر، ويحاول أن يحب عدوه، ويُصلّي من أجله رغم الذل الواقع عليه، ولهذا فهو لا يقلق من المسيحيين السود! ولكنه يعرف أنّ المسلم الأسود لن يعطيه خّده الآخر، وإذا صلّى المسلم، فسوف يُصلّي لله ليساعده على قتل الرجل الأبيض! هذه هي الصلاة الوحيدة التي يُصليها المسلم الأسود من أجل الرجل الأبيض).
هل يمكننا أن نتصوّر قراءة مُجتزأة، ضيقة، عُنفيّة، ووليدة تاريخ استشراقي كامل أكثر من هذه عن روحيّة الديانة الإسلاميّة؟ الديانة التي يُفترض أنّها أثرّت بإيجابية في تطور فكرة «المقاومة السلميّة» في تجربة غاندي النضاليّة للتحرّر؟ هذه القراءات المُجتزأة والمنقوصة تدفعنا بالضرورة وفي ظل ما يعيشه العالم أجمع اليوم من رُهاب «الإسلاموفوبيا» ووحش «داعش» العملاق إعلامياً للتساؤل حول إعادة تسليط الضوء على هويّة الشريف الدينية لدينا نحن العرب، في الوقت الذي لا يناقش فيه كثر كيف قضى الشريف سنوات حياته في الفترة ما بين الستينيات حين غادر مصر ليؤدي دور «الشريف علي» وأوائل الثمانينيات حين عاد إلى مصر بحثاً عن مُستقر، وأضواء خبت في أمريكا التي هجرته مع تحوّل سياساتها الإعلاميّة حيال الشرق والإسلام.
إلى اليوم، ما زلنا، وبكل أسف، نجتزئ القراءات، نختصر الهويّة، ونغرق أكثر فأكثر في ثقافة «العناوين» التي ترسّخها وسائط التواصل الاجتماعي، نتساءل عن هويتنا وسط فوضى المعلومات والتصوّرات الجاهزة التي يُسوّقها الآخر لنا، ونقوم من بعدها برد الفعل العنُفي الرافض لتلك الصور النمطيّة. فإلى متى نبقى ضحايا الدوامة ذاتها، ومتى سنشق في الظلام طريقاً للنور.. ولنا؟

يارا بدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتورجمال البدري:

    مقال الكاتبة يارا بدر؛ من أرّوع المقالات التي قرأتها في جريدة القدّس العربيّ طوال
    السنتين الإخيرتين.إنها مسبارجمع الإسراء والمعراج في الرؤية والتشخيص الرائع.
    بل بنا حاجة إلى مثل تلك الرؤية المعرفية الدقيقة والسلسة لهذه الكاتبة ؛ التي اقرأ لها لأول مرّة…فليحفظها الله للغة الضّاد.وإلى مزيد وجديد من مقالات : يارا بدر…

  2. يقول عبد الغني - الجزائر:

    تحية طيبة للكاتبة أولا ..
    في حدود علمي و أنا أذكر ذلك جيدا أنّ عمر الشريف لم يخفي أصوله الدمسقية , فقد سمعت ذلك منه في لقاء مباشر مع هالة سرحان فيما أعتقد و لإن في السنوات الأخيرة لحياته , و لا أرى غرابة في ذلك فالعديد من العائلات المصرية العريقة في السياسة و الفن و الأدب من أصول غير مصرية و لا نسمعها تعلن ذلك باستمرار .
    أما عن ددور عمر الشريف في هوليود . فليس بإمكان ممثل أن يضع شلاوطا و رؤى للأعمال التي يقدمها فتلك شركات عملاقة لها خططها المرسومة بدقة و أنى لممثل شاب طامح للشهرة و قادم من الشرق أن يفرض رؤاه . إنها فعلا قراءة قسرية لمسيرة هذا الرجل .

إشترك في قائمتنا البريدية