سيقتلون لبنان وسيقتلهم الندم

ها أنا في طائرة العودة من بيروت إلى «وكري» الأوروبي. التحليق على ارتفاع ثلاثين ألف قدم فوق الأرض لن ينجيك من وطن تحبه. سيتبعك وستجد نفسك فيه مهما أمعنت الطائرة هربا بك.. تركض في كوابيسه ودهاليزه المظلمة وأنت تصرخ حزناً عليه.. ومنه.
لا. لن اختطف الطائرة إلى الماضي هذه المرة. أعرف أن ذلك لا يجدي. سأغادرها قليلا في محاولة لتنفس غيمة ترطب جروح القلب.
أنهض من مقعدي. أمضي إلى «مخرج النجاة» في الطائرة. تعترضني المضيفة. أقول لها إنني أريد فقط مغادرة الطائرة للتنزه على جناحها وسأعود قبل موعد هبوطها. قبل أن تعترض أغادر الطائرة.
أمشي فوق جناح الطائرة وهي تحلق فوق جبال الألب و(المون بلون) ـ أي الجبل الأبيض المكلل بالثلج، وأحن إلى «جبل الشيخ». أجلس على جناح الطائرة ويركض داخل رأسي (كليب) من شريط رحلتي القصيرة إلى بيروت، ولكن الكثيفة، تقفز داخل عيني مشاهده (لقطة) بعد أخرى.

أعز ما يملكه «الكاتب»

أتذكر لحظة وصولي إلى بيتي البيروتي. أول ما أفعله دائماً هو تفقد ثروتي: أي غرفة المكتبة الغالية على قلبي. إنها «جلالة المكتبة الثانية» بعدما أحرقت حرب لبنان «جلالة مكتبتي الأولى» وأتت عليها بقذيفة.. وبدلاً من الانتحاب على ما احترق حاولت (على الطريقة البيروتية) تجديد ما فقدته، رافضة التفرغ للبكاء على الماضي وذلك لحساب الانحياز إلى الحاضر والمستقبل. وهو ما يفعله اللبناني، وربما لذلك يستمر على الرغم من أنف كل شيء.
ما أكاد أغادر بيتي حتى تمر بي في الطريق إلى البحر قوافل ذاهبة للانتحار وهي تهز بقبضاتها في وجهي وتعيب عليّ انحيازي للحياة!

مدينة الأشباح الحية والأحياء الأموات

أمشي من بيتي وأتفقد جاراتي المبدعات. الشامية الأديبة سلمى الحفار الكزبري الفائزة «بجائزة الملك فيصل» في حقل السيرة الذاتية (لمي زيادة). الفلسطينية نهى سمارة الكاتبة والرسامة. الفنانة اللبنانية التشكيلية أمل زين العابدين نجار.
رحلن كلهن لكنني شاهدت أشباحهن على شرفاتهن، وحين لوحت بيدي لهن تلاشت صورهن.. إنه الماضي يداعبنا بإيلامنا ويختفي حين نحاول لمسه، كما حدث لأورفيوس حينما التفت في قارب نهر الموت إلى الخلف للتحديق في حبيبته الراحلة التي أعادها للحياة، ولكن بشرط عدم الالتفات إليها في القارب. أمشي وأمر بجاري أيضاً مقهى (الماي فير) الذي يتم هدمه وغسان كنفاني ما زال هناك بانتظاري.. أمشي حتى مقهى «الدولشي فيتا» الذي لم يعد اليوم موجوداً كما كان منذ ألف عام في الروشة، لكنني أراه، وها هو «البيك البروليتاري» الأديب الشفهي منح الصلح يعقد حلقته العروبية ويتحدثون عن تحرير فلسطين، وحين أصل إلى مقهى «الهورس شو» في شارع الحمراء أجد غسان كنفاني بانتظاري على مائدة واحدة مع رياض طه وكامل مروة وجبران التويني والشيخ صبحي صالح وكمال ناصر والمفتي حسن خالد وسمير قصير وسواهم كثير من شهداء الأفكار والحرية وتحرير فلسطين، أيام كانت هاجسنا الأكبر. أجدهم يتحاورون بتسامح كأن الموت أنضج حياتهم الفكرية، وعلّم الجميع الحوار قبل الشجار.

اغتيال لبنان = القتل الثاني لفلسطين

يناديني غسان وإلى جانبه مقعد فارغ: هيا تعالي واجلسي بيننا. نحن بانتظارك.. أريد أن أحاورك فأنت إلى جانب هاجس فلسطين صرت تهجسين بلبنان، يا يتيمة العروبة.
قلت لغسان: قتل لبنان هو بحد ذاته القتل الثاني لفلسطين.. لبنان وطن صغير ومشروع عالمي إنساني كبير أكثر من أي وقت مضى.. لبنان عندي مشروع وطن عربي هو عاصمة الحرية الفكرية والدينية والتعايش بين 18 طائفة كتبشير للتعايش بين الطوائف كلها في كوكبنا ولرفض الظلم الذي يُمارس في كل مكان وأوله ظلم الشعب الفلسطيني الذي يريد الصهاينة حرمانه من «حق العودة»، أولئك الذين احتلوا وطنه مستمدين شرعيتهم من القوة وكذبة «حق عودتهم» إلى وطن مزعوم لهم منذ أكثر من ألفي عام.. ما جدوى الكتابة يا غسان؟
وأسمع كلمات محمد طاهات (رابطة الكتاب الأردنيين) يؤكد: «لم تكن الكتابة يوماً خسارة» وأكاد أصدقه وأنا أتذكر ما تركه غسان من أبجدية مبدعة.

لبننة العالم العربي

للذين يتبرعون كل يوم بلبنان، للذين لم يجربوا بعد بؤس أن يفقد المرء وطنه نقول: لن نرضى بانخراط لبنان في الحروب الهزلية القبائلية المذهبية التي يحاول الكثيرون جره إليها ويحاول الوطن الصغير الوقوف بوجهها. هذا يريد قتله للتربع فوق «الكرسي»، وآخر لإعادة رسم خارطة وطننا العربي.. أو لصالح قبيلته. ومن الجميل في لبنان تَبَني هواجس عصرية عالمية كهاجس البيئة الصالحة لحياة الناس والأطفال معاً في هذه الفوضى الفكرية الانتهازية المدمرة.. هذا على الرغم من «شركات التجارة بالأوطان» وتحويلها إلى ساحات حروب ومقاطعات وولايات، كما يحدث في الكثير من الأوطان العربية الأخرى دونما مبالاة بالحياة اليومية للناس ولأطفالهم.. ولذا رحب مرصدي باهتمام محمد المشنوق وزير البيئة بمشاغل حضارية عالمية كتزويد مدارس الأطفال بجهاز تنقية ماء الشرب وزراعة مئات آلاف الأشجار سنوياً في لبنان وتوقيع اتفاقية حماية الطيور المهاجرة من الصيادين وتفعيل قانون الصيد.
كم ذلك جميل في زمن تربية «أشجار الشر» وقتل «طيور الأمل».
وها أنا أغادر جلستي على جناح الطائرة وأعود بهدوء إلى مقعدي في الطائرة!.. وأتساءل: أولئك الذين يحاولون اغتيال لبنان وتمديد بيروت في تابوت على مقاس مصالحهم، ألن يقتلهم بدورهم الندم إذ لا قيمة لهم بدون وطنهم، وفقدانه يحولهم إلى فرقة مرتزقة أخرى وعائلاتهم إلى مشردين ومرشحي مهجرين؟.
من يطعن لبنان سينزف هو قبله… وسيموت حسرة مقتولاً بسمّه الخاص كأفعى تلدغ نفسها وستبقى «فكرة لبنان»: أي وطن احترام الاختلاف والتعايش بين الطوائف، وطن الحرية والحرية… والحرية.. فمساوئ الحرية أقل بكثير من مساوئ قمعها.

غادة السمان

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    نصيحة يا أستاذة غادة :
    لا تعودي للبنان قبل أن تعود الدولة للبنان !
    لبنان قد انطفأت أنواره وتعبأ بالتلوث هواءه وملئت القمامة شوارعه

    لبنان الآن أسير – وشعبه فقير – وليس له نصير
    الكروي داود ينصحك بالذهاب للأردن
    فأنا خائف أن يلحق بلبنان !
    فداعش على حدوده

    ولا حول ولا قوة الا لالله

  2. يقول بولنوار قويدر-الجزائر:

    السلام عليكم
    تجار الحروب قد انتعش لهم السوق وبدأت تجارتهم في الرواج وقد جمعوا كل قواهم من أجل “زراعة بذرة الموت” من أجل جرعة من أكسجين الحياة التي تزيد في حياتهم”القصيرة” مهما جدّوا واجتهدوا .لأن الحياة تصلح للأصلح أمّا دعاة الفناء أحبة الموت فلا مكان لهم في حياة السعداء من المقهورين والمغلوبين على أمرهم لحين …
    نجد (يتيمة العروبة) في هذا المقال تبكي “الزمن الجميل” في ظل دعاة العبثية الذين يصنعون من حروف” الامن “فوضى يتسلون بأجساد المواطنين كبيادق فوق لوحة لعبة شطرنج… ومن جسد الوطن” ساحة للتطاحن بين رجاله وكأنهم ثيران في ساحة اللهو والاستمتاع …ومن” أفكار القوم “شماريخ يلوحون بها في الميادن والقرى والمداشير ليموّهوا بها حقيقة الحقائق…
    كل ذلك نجد “المصاب بحب الوطن “كيتيمة العروبة ” تبكي مدادا بدل دمع وتنزف حروف بدل دم …ولا مسمع لها في محافل السادة وأصحاب الفخامة والجلالة عكس ما كان في الزمن الجميل لمّا استغاثت إمرأة بقولها((وا معتصماه..) جهز لها جيش واسرع لأنقاذها وتلبية دعوتها عكس اليوم :كلننا صرخنا رجالا ونساء وأطفالا وبهائم وجدران ..ولا من سمع…
    لقول الشاعر:ويل الضعيف نداؤه *** في مسمع الدنيا صمم
    ولله في خلقه شؤون
    وسبحان الله

  3. يقول أورتيغا منعم السلفادور - فلسطين:

    لا اعرف سيدتي ماذا سوف اضيف على ما تفضلت به فانت أتيت بالماضي ليعيش في دواخلنا من جديد واقيظتي ذالك الكائن الكامن في ذالك الجزأ الباقي من ذاكرتنا المنكوبه , كمال ناصر , غسان كنفاني وغيرهم ممن كانوا يومآ جزأ من يومي البيروتي حوارات ساخنه ,, أشخاص ملؤوا الدنيا ضجيجآ , يحسبهم من لايعرفهم أناس وبشرٌ قد مروا ضلوا السبيل في تلك الحقبه المنيره من ليالي
    لبنان الجميله ومن يعرفهم , يعيش ذالك الشجن و الحنين الى تلك الأيام الخوالي وتعود الذكره الى تلك الأماكن فاذاكره المكان تحنوا وتكبر في دواخلنا تتحدثين وكأن هو الأمس القريب , هؤلاء البشر الغير عاديون الذين أثروا وأثروا في المشهد الثقافي والسياسي والثوري يومآ ما ؟! زاروا وقد ملؤوا أرجاءنا فرحا” ” وقائم الحظ يَثِني عطفَه مرحاكرم بهم سادة رقُّوا لصبهم
    فواصلوا وبدهرٍ باللقا سمحا ساروا وفي مهجتي أشخاصهم ورنوا, فالعين والصدر ذي قرّت وذا انشرحا,أحبابَنا لو علمتم يوم هجركم” ما بي لما اخترتم لي الهجرَ والبُرَحا ,جفني ونومي لما بنتمُ افترقا” ”
    لكن جفني ودمعي فيكم اصطلحا,غادرتموني صريعاً لا أفاقة لي
    إلاَّ بمَرّ نسيمٍ منكم نفحا,,واليوم أحييتمونا زورة فعفا الدهر عما مضى منكم لنا ومحا ….. العوده الى الماضي الجميل , وألم وتيه الغربه وهذه السرياليه العربيه المهينه وزمن إختفى فيه المثقف العربي من المشهد اليومي . شكرآ يا غاده

    أورتيغا منعم
    السلفادور
    سان سلفادور

  4. يقول Melissa Loukieh:

    رائعة أنت بكلّ ما تخطّة أناملك. محظوظ لبناننا بك.

  5. يقول للأسف الشديد،عربي:

    يراد لكِ سيدة هذا الفضاء الجميل ان تحلقي على متن سحابة”غيمة” سوداء
    تطير بكِ في السماء ،حتى لا تتعرضي للأذى وتنظري من الأعلى إلى الأرضي العربية
    عندها لن يكفيك جدار الفصل العنصري لكتابة مثل مقالك هذا الحزين
    لتوصيف ما رأته عيناكِ نيران مشتعلة وادخنه وساحات فيها جثث مترامية
    ومنازل هدمت ومعالم حضارة وتراث حطمت وكتب ومخطوطات مزقت
    سوف تنتهي الأحرف الأبجدية والأرقام العددية لو حاولتي تكتبين او تحصين
    ما ستشاهدينه من مآسي وكوارث وساحات معارك وخيام وصفيح النازحين بحثاً عن الأمن
    والمأوى والماء وكسرت خبز.. اطفال تشكل جيل بأكمله، عجائز وكهول يسترجعون
    احداث التاريح ويقارنون الديكتاتوريات السابقة وبين المذبحة التي حدثت وتحدث لهم الآن
    فيجدون أن كتب التاريخ إما بالغة حول ما كتبت او ان الدكتاتوريات تعيد نفسها عبر التاريح
    والضحية أناساً مدنيين ابرياء قدرهم وضعهم في منتصف الطريق ليكونوا ضحايا الطرفين
    المتحاربين فيما بينهم البين لم يعد الأمر بيروت فقط بل المعضلة امتدت إلى كل إتجاه وصوب.

    للأسف الشديد …،

  6. يقول فائق محمد الناطور:

    لبنان رحلت مع عاصي ومنصور الرحباني

  7. يقول أفانين كبة . مونتريال ، كندا:

    لم أعد للعراق ولبغداد منذ خمس وثلاثون سنة ، خوفا من لقاء اشباح الماضي النائمة في ذاكرتي والتي لا تشيخ ولا تهرم وكأنها تجرعت أكسير الحياة . واقفة شامخة لاتلين امام العواصف وكأنها تستمتع بعذاباتي . ولا أريد ايقاظ ما هو ساكن وما كان يوما ما حلما جميلا . لكن أين ماأختبأ وأين ما أهرب ، تبقى هذه الاشباح و ذكريات الماضي تناديني وتلاحقني مهما حاولت ان اتظاهر بغياب الاحساس ، وأيقنت بأن جذوري لازالت تنبض بالحياة بعد طوال هذه السنين.
    أفانين كبة
    مونتريال

  8. يقول Abu Maher:

    الآن سيدتي المحترمة غادة السمان
    أرغب سؤالا كنت أود طرحه عليك قبل 22 عاما وهو
    أنني كتبت قصيدة في أوائل السبعينيات، وكنت آنذاك في عمر المراهقة، وقد نشرت قصيدتي في مجلة الحوادث اللبنانية الصادرة في باريس في عام 1993،العدد 62-14/5/
    لعام 1993، فقد كان عنوان القصيدة…… صرخة حب…… ولكن غيرتي إسم القصيدة إلى
    صرخة صبابة ،ولا ضير في ذلك، وهذا دليل لشدة اعجابك ربما بالقصيدة، وأيضا كان اسمي فيه غلط…….. فبدل عبد السلام فران…… كتب فرح عبد السلام(برلين، المانيا).
    سؤالي لك سيدتي هو
    لماذا غيرتي إسم القصيدة؟
    أخيرا انا أحبك كثيراً كانسانة كاتبة مبدعة ومطلعة
    واقرأ لك كثيراً واحترم كل ماتكتبين، واتعلم منك الكثير
    فإلى الأمام
    ووفقا الله
    مع تحياتي
    أبو ماهر
    بزلين
    شكراً لك
    وأعتذر إذا احرجتك بسؤالي

إشترك في قائمتنا البريدية