اختلفت مرجعيات السرد الروائي العربي في بدايات تأسيسه، ليس فقط بين التجارب العربية، إنما نلتقي بالاختلاف ـ أيضا – في تجربة كل بلد عربي. فقد تعددت المرجعيات بين المقامة والتاريخ والتراث الشفهي والرحلة والأسطورة والسيرة الذاتية، وعبَرت تلك المرجعيات بتنوعها وتعددها عن حاجة الرواية العربية إلى خلفية ثقافية وسردية سياقية، من أجل خلق شرط موضوعي لتكون الجنس الروائي في التربة العربية. لم تكن المسألة اختيارا أو موقفا، إنما طبيعة فهم ووعي، وتمثل الرواية باعتبارها جنسا أدبيا وافدا من التربة الأوروبية، تطلب الاستعانة بشكل سردي قائم في الثقافة العربية.
لم يكن ممكنا فهم جنس الرواية في التجربة العربية من خلال الملحمة، كما حدث في التجربة الغربية، وإنما احتاج الأمر عربيا اعتماد أشكال عربية مثل، المقامة من أجل تمثل الشكل السردي الجديد/الرواية.
ولهذا، جاء واقع الشكل الروائي العربي ممارسة وفهما تعبيرا عن زمن استقبال هذا الجنس من سياق آخر من جهة، وطبيعة استحضار المُقابل السردي في الثقافة العربية.
يُدعم هذا التصور اعتبار الرواية العربية في زمن تأسيسها خطابا معرفيا مزدوج الأبعاد.
فالرواية مُؤهلة لإنتاج زمنين ثقافيين، زمن الوعي الاستقبالي لشكل سردي غربي، وزمن الوعي الإنتاجي، من خلال ذاكرة الأشكال السردية العربية.
بهذا التركيب، يحق لنا، أن نستبعد بعض التصورات التي تتجاوز هذين الزمنين، وتمر مباشرة إلى العلاقة الأفقية بين الرواية الغربية والرواية العربية، من خلال عامل التأثر المباشر.
ما يدعونا إلى استحضار هذه المقاربة التاريخية – الثقافية للسرد الروائي العربي، هو إعادة قراءة التجربة السردية النسائية الأولى، التي اعتبرت ـ إلى حد ما – افتتاحا فنيا وسرديا للرواية المغربية بصوت الكاتبة المغربية.
يتعلق الأمر بنص «الملكة خناثة» للكاتبة أمينة اللوه (1929-2015) .
تشكل إعادة قراءة نص أمينة اللوه محطة مهمة لإعادة إنتاج معرفة بمسار تشكل النص النسائي المغربي من جهة، ومن جهة ثانية الوقوف عند ظاهرة تعدد مرجعيات السرد الروائي في التجربة المغربية – العربية.
فإذا اعتمد نص «الزاوية» (1942) للكاتب التهامي الوزاني (1903 -1972) الذي اعتُبر تأسيسا للسرد المغربي، سواء باعتباره تجربة سردية مكتملة العناصر، أو عتبة سردية نحو الجنس الروائي على السيرة الذاتية لتشكيل خطاب النص، وإذا اعتمد عبد المجيد بنجلون (1919-1981) في نصه السردي «في الطفولة» على السيرة الذاتية أيضا، فإننا نجد أن الكاتبة المغربية اختارت التاريخ خلفية لبناء نصها السردي الأول، كما نجد مع الراحلة أمينة اللوه في «الملكة خناثة» (1957).
تبنَت الكاتبة خبرا تاريخيا مغربيا، وشكلت منه خطاب سردها، الذي عبَر بناء وسردا وتعبيرا عن هذا اللقاء الممكن بين التاريخي والتخييلي بواسطة السردي، خاصة أن عملية تحويل الخبر التاريخي إلى حكي سردي يتطلب شرطا يُؤمَن زمن الانتقال، يصبح معه التاريخي لحظة إبداعية.
ولعل من أهم العناصر التي تؤمن هذه العملية الصعبة، والشاقة في الوقت نفسه، هي الاشتغال بالمادة التاريخية فنيا وسرديا، بشكل يجعلها تدخل في سياق إنتاجي إبداعي جديد قد تحتفظ بالقصة، ولكنها تُغادر سياقها الخبري – التاريخي لتنتعش بسياق جديد، منه تستمد منطقها، وحياتها الجديدة.
تخبرنا قصة النص بحكاية خناثة التي تزوجها السلطان مولاي إسماعيل بعد أن حط ركبه في جنوب البلاد. وكيف أنها لم تقبل بسهولة هذا الارتباط، خاصة أنها كانت على علم بزوجات الملك الأخريات، فكانت تخشى عن وضعها. تتزوج خناثة السلطان، وتصبح ذات امتياز ومكانة لدى أمير المؤمنين. تصبح ملكة يستشيرها المولى إسماعيل في شأن البلد. تتعرض خناثة لمضايقات من قبل زوجات الأمير الأخريات اللواتي يحبكن كيدا للملكة، خاصة بعد ان أنجبت ولدها عبد الله، غير أن الملكة خناثة وبفعل ذكائها السياسي وحكمتها البالغة استطاعت أن تواجه تلك المضايقات، وتتجاوز خطر الكيد، وتضمن لابنها عبد الله ملك البلاد.
انفتحت الحكاية بالخبر الوصفي للموكب، ومن خلاله دعت الكاتبة القارئ إلى السفر في التاريخ المغربي، وتأمل فترة من فتراته الحافلة بجلائل الأعمال، عبر مشاهدة موكب ملوكي «أجمعت القرون والأجيال على أنها لم تشاهد مثله قط» (ص 16)، ثم توزعت الحكاية إلى أجزاء/ مقاطع تحمل عناوين.
كل عنوان يحكي عبر مجموعة من الأحداث النفس التاريخي ذاته جزءا من حكاية «الملكة خناثة».
ومن أجل تأمين انتقال سلس ومرن من التاريخي إلى التخييلي، وتحقيق سردية التاريخي، اشتغلت الكاتبة أمينة اللوه بعنصري الشخصية واللغة، وعبرهما ضمنت إقامة سردية للخبر التاريخي، وجعلت حكاية الملكة خناثة التاريخية تنتعش ومعها تنتعش تصورات جديدة في الخطاب التخييلي.
تعد «خناثة» من أهم الشخصيات التي غيرت ملامح النص من تاريخيته الأفقية إلى سرديته التخيليية العمودية المنفتحة على التأويل.
يحفل النص بمظاهر عديدة لحضور خناثة باعتبارها صوتا واعيا، وقرارا مستقلا وموقفا جريئا، تجلى ذلك في تدبيرها الاجتماعي من خلال مواجهة الضرات، وإحباط محاولاتهن لتزويج السلطان من ابنة ملك فرنسا «لويس الرابع عشر»، ثم حضورها السياسي باعتبارها شريكة في تدبيره.
ولهذا، فقد كان للحضور السردي الفاعل للشخصية «خناثة» أثرا مهما لإخراج الحكاية من تاريخيتها، وجعلها تنتشر سرديا باتجاه أفق التأويل وتعدد المعنى.
كما تمكنت اللغة من جهة ثانية من احتواء اللحظة التاريخية، وتفعيلها حسب نظام السرد.
وتم ذلك عبر استثمار مجموعة من المكونات الروائية مثل الحوار، الذي وإن جاء قليلا، غير أنه كان وظيفيا لاعتبار موقعه في النص، فهو يحضر ليدعم فعل السرد، خاصة عندما يتعلق الأمر بإسماع أصوات يرغب الإبداع السردي في الانتصار لصوتها، وإعلاء خطابها، مثل الحوار بين خناثة وأمها بشأن رفض خناثة الزواج من السلطان المولى إسماعيل، إضافة إلى مكون الوصف الذي يجلب الشاعرية للغة، ويُخرج الحكاية من قيد التاريخ، وينزاح بها إلى مساحات واسعة، تكسب الحكاية امتدادا وانتشارا، مثال «فبات المعسكر ليلة مشرقة، نزلت فيها نجوم السماء إلى الأرض وانطلقت ألسنة النيران من الشهب المرسلة والألعاب النارية تلحس ظلمات الليل تتهاوى كواكبه أو كأن الشمس لم تغب»، بالإضافة إلى حضور التلخيص مكونا للزمن السردي في نص «الملكة خناثة».
تأتي الكاتبة المغربية أمينة اللوه بالعام في التاريخ، لتكثف دلالات الخاص عبر السرد.
وتشتغل بتبئير الشخصية النسائية «خناثة»، ليحول السرد المرأة من موضوع الحكاية باعتبارها زوجة السلطان، إلى ذات فاعلة في المنطق الاجتماعي، ومُدبَرة في الفعل السياسي، ومنتجة للموقف الجريء، كما أن المكان يخرج من طابعه التاريخي، ويتلوَن بحضور الشخصية المُبؤَرة، والزمن النفسي المهيمن يخرق نظام الزمن التاريخي.
عندما نستحضر نص «الملكة خناثة» وزمن إنتاجه 1957، ونستدعي في الوقت ذاته – طبيعة مناخ الكتابة المغربية زمن الاحتلال الفرنسي، وبداية مرحلة الاستقلال، ووضعية المرأة المغربية وعلاقتها بالتعليم، فإن الموضوعية تفترض تكريم النص ومؤلفته أمينة اللوه، التي رحلت مؤخرا يوم 18 يوليو/تموز 2015، لأن الكاتبة تنطلق من التاريخ (فعل مُقيَد)، وتنزاح بالحكاية المُقيدة بالتخييل، وفي ذلك دعوة إلى إعادة تجديد قراءة التاريخ، من أجل الانتصار لدور المرأة – الذات، التي عندما يوُثَق التاريخ حضورها، فإنه يُسجلها باعتبارها تابعة وموضوعا ومفعولا به، ولهذا فإن التخييل يُحررها من هذا الشكل من الحضور، ويمنحها أفقا مفتوحا على الرمز والإيحاء والتأويل.
كاتبة مغربية
زهور كرام
هذا هو ثاني مقال اطالعه عن الراحلة امينة اللوه منذ رحيلها مؤخرا وما يميز
المقالين معا هو هو انهما جاءا بصوت وقلم المؤنث فالاول كان للاديبة
نجاة لمريني بهسبربس والثاني هو الذي بين يدي للسيدة زهور كرام
وتحياتي