لندن – «القدس العربي»: منطقة حظر جوي أم شريط آمن أم منطقة منزوعة من تنظيم الدولة الإسلامية؟ هذا هو الجدال الذي أثاره الاتفاق الأمريكي – التركي للتعاون في ضرب تنظيم الدولة الإسلامية. فكل طرف يقول ما يريد طالما تحققت أهدافه أو جزء منها. وهي بالنسبة للولايات المتحدة قتال تنظيم الدولة الإسلامية ولتركيا إقامة منطقة آمنة للمقاتلين السوريين وتكثيف جهود الإطاحة بالنظام السوري لبشار الأسد. وبحسب صحيفة «واشنطن بوست» فقد اتفقت كل من الولايات المتحدة وتركيا على إقامة «محور آمن» يمتد على طول 68 ميلا داخل الأراضي السورية وفي المنطقة الواقعة غرب نهر الفرات ويصل إلى ريف حلب الذي ستقع لاحقا في يد مقاتلي المعارضة السورية. وسيتم تطهير الشريط هذا من من مقاتلي من تنظيم الدولة الإسلامية.
وفي حالة تم تحقيق هذه الخطة فستكون الطائرات الأمريكية قريبة من دفاعات الجيش السوري وقواعده وسيلعب الترتيب بين واشنطن وأنقرة في صالح المعارضة السورية. ويرضي الاتفاق جزءا من المطالب التركية التي تدعو لإنشاء منطقة حظر جوي، ولكن في حالة نشوء هذا الشريط الآمن فقد تجد المعارضة السورية مساحة للتحرك وحماية ما يقرب من مليوني شخص يعيشون في المنطقة.
بدايات التعاون
وترى صحيفة «واشنطن بوست» أن الإشارات الأولى عن الاتفاق ظهرت في الأسبوع الماضي عندما سمحت أنقرة للمقاتلات الأمريكية استخدام قواعدها الجوية خاصة في إنشرليك ومن ثم بدأت المقاتلات التركية باستهداف مواقع تنظيم الدولة في شمالي سوريا. ونقلت الصحيفة ما قاله وزير الخارجية التركية مولود جاويش أوغلو من أن المناطق الآمنة ستظهر بشكل طبيعي حالة تم تطهير المناطق من تنظيم الدولة الإسلامية. وفي الوقت الذي لم يعارض فيه المسؤولون الأمريكيون تصريحات أوغلو إلا أنهم امتنعوا عن وصف الشريط بطول 68 ميلا وعمقه 40 ميلا داخل الأراضي السورية كمنطقة محمية. وأكد مسؤول أمريكي طلب عدم ذكر اسمه أن أي عملية مع تركيا لن تشمل فرض منطقة حظر جوي. وقال إن الولايات المتحدة تتعاون مع تركيا لدعم شركاء على الأرض يواجهون تنظيم الدولة الإسلامية وأن الهدف من العملية هو خلق منطقة خالية من تنظيم الدولة الإسلامية من أجل تأكيد الأمن وتوفير الإستقرار على طول الحدود التركية- السورية. وكانت تركيا قد طلبت بصفتها عضوا في حلف الناتو اجتماعا مع أعضائه في بروكسل.ويمنح البند الرابع في ميثاق الحلف الفرصة لأي عضو عقد اجتماع له حالة تعرضت اراضيها للتهديد.
وكان الحلف قد نشر عام 2013 صواريخ باتريوت على طول الحدود التركية مع سوريا بعدما ناقشت أنقرة أن مواطنيها يتعرضون لخطر القتل. ورفضت إدارة الرئيس باراك أوباما مطالب تركيا والمعارضة السورية إنشاء مناطق حظر جوي حيث ترى أن المنطقة التي تنشط فيها الطائرات تشهد مواجهات بين الحكومة السورية وعدد من فصائل المعارضة، وقد يؤدي وجود الطائرات الأمريكية فيها لاستفزاز الدفاعات الجوية السورية. وتشير الصحيفة إلى أن تركيا رفضت في الماضي السماح لطائرات التحالف الدولي استخدام قاعدة إنشرليك، ولكن الكثير من ملامح النزاع السوري قد تغيرت منذ العام الماضي حيث خسر النظام السوري مناطق واسعة في ريف حلف لتحالف من الجماعات الإسلامية وغير الإسلامية وفي الوقت نفسه نجحت الميليشيات الكردية بطرد مقاتلي تنظيم الدولة من معاقلهم شرق نهر الفرات. وجاء تغير الموقف التركي عندما تقدم تنظيم الدولة إلى بلدة أعزاز حيث طلبت الجماعات المعارضة دعما أمريكيا خاصة يعتبر معبرا مهما لهم إلى تركيا. وعندها قالت الولايات المتحدة أن ضرب التنظيم سيكون أكثر فعالية لو انطلقت المقاتلات من قاعدة إنشرليك بدلا من القواعد البعيدة في البحرين.
وبحسب التقارير التركية، فالمنطقة من أعزاز إلى جرابلس والتي تمتد إلى بلدة الباب أصبحت الآن مفتوحة للقصف الأمريكي مع أن القصف لن يشمل مدينة حلب. ولا يعرف ان كانت الولايات المتحدة قد أخبرت الحكومة السورية بعملياتها في هذه المناطق، مع أن واشنطن حذرت الطيران السوري في العام الماضي من اعتراض طائراتها. وعلى أي حال تعتبر المناطق التي ينشط فيها الطيران الأمريكي خارجة عن سيطرة حكومة دمشق بعد أن انسحبت منها ولم تعد تدير فيها إلا الحد الأدنى من العمليات. ولم تحدد الخطة بعد الجماعة السورية «المعتدلة» التي ستدير المنطقة بعد تطهيرها من تنظيم الدولة. ولكنها ستصبح مفتوحة لتدفق اللاجئين عليها مما سيخفف من ازمة اللجوء التي تواجهها تركيا.
ضربة قوية
وترى الصحيفة أن خسارة تنظيم الدولة البلدات الحدودية ستكون ضربة قوية له وستحرمه من المعابر للعالم الخارجي ومن تدفق المقاتلين الأجانب. ويعتبر تطهير البلدات هذه أولوية للمسؤولين الأتراك والأمريكيين. وترى الصحيفة أن الاتفاق الأمريكي – التركي سيغير من الدينامية بشمال سوريا بعد التقدم الذي حققه المقاتلون الأكراد وهو ما أثار قلق الأتراك. ويرى سونير شاغباتاي المحلل في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى «بعد تل أبيض وبدعم واضح من الولايات المتحدة كان الأكراد سيتقدمون للمناطق غربي الفرات والسيطرة على هذه المناطق الواسعة». وهو ما دفع تركيا للتعاون متوقعا عمليات قصف جوي واسعة للمنطقة التي لن يسيطر عليها الأكراد وحدهم. وترى صحيفة «نيويورك تايمز» أن المنطقة التي ستنشأ بعد طرد تنظيم الدولة ستكون «محورا خاليا من تنظيم الدولة الإسلامية».وتقول إن تفاصيل الخطة لا تزال قيد الدراسة، ولكنها تواجه التحديات نفسها التي رافقت سياسة إدارة الرئيس أوباما في سوريا. ففي الوقت الذي تركز فيه الولايات المتحدة على هزيمة تنظيم الدولة، إلا أن تركيا والجماعات السورية المعارضة ترى في هزيمة الأسد أولوية.
ومهما يكن الخلاف إلا أن الاتفاق يقرب الطائرات الأمريكية من سوريا ما يطرح تحديا آخر وهو طبيعة الرد الأمريكي على الطائرات السورية حالة قامت بضرب شركاء الولايات المتحدة على الأرض. وتضيف صحيفة «وول ستريت جورنال» أن الخطة قد تتعثر في حالة لم تكن أمريكا والمملكة المتحدة قادرتين على تأمين الامدادات للمقاتلين «المعتدلين» من الجماعات السورية حتى يتمكنوا من مواصلة السيطرة على المنطقة المحمية. وترى الصحيفة أن الاتفاق يرضي جزءا من طموحات البلدين، فالولايات المتحدة اقتربت من مناطق التنظيم بشكل تفتح فيه جبهة عسكرية داخل. أما تركيا فيمكنها الإدعاء أنها أقامت منطقة عازلة داخل سوريا. ومع أن برنامج التدريب الأمريكي للمعارضة السورية لم يثمر سوى 60 مقاتلا إلا أنه يمكنهم لعب دور في المنطقة. ومن المتوقع أن يتوفر لهؤلاء نفس الحماية الجوية التي يوفرها الأمريكيون للمقاتلين الأكراد.
هل أخطأت أنقرة؟
وفي هذ السياق انتقدت العديد من التعليقات الصحافية القرار التركي فتح جبهة جديدة ضد الأكراد الأتراك حيث يتهم أفراد الحماية الشعبية التابعين لحزب الإتحاد الديمقراطي بكونهم جزء من حزب العمال الكردستاني – بي كي كي. ويرى باتريك كوكبيرن بمقال له بصحيفة «إندبندنت» أن موافقة الولايات المتحدة على ضرب تركيا للأكراد الأتراك ستكون إن صحت من أسوأ الأخطاء التي ترتكبها واشنطن منذ غزو العراق 2003. وبحسب المؤشرات الأولى فتركيا قد تكون مهتمة بالتحرك ضد الأكراد في سوريا وتركيا من اهتمـامها بضـرب تـنظيم الدولة، مشيرا لمقاربة أنقرة بين بي كي كي وتنـظيم الـدولة باعـتبارهمـا تنظيمـين إرهابـيين.
ويحذر بالقول إن أمريكا قد تكون قد أسهمت بزعزعة الإستقرار التركي بدون تحقيق هدف هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية. وفي تفسير لهجوم الحكومة التركية على حزب العمال وتنظيم الدولة يرى ان الرئيس التركي طيب رجب أردوغان ربما كان راغبا بتنظيم انتخابات جديدة يفوز بها حزبه بالأغلبية في حالة فشل داوود أوغلو، رئيس الوزراء تشكيل حكومة إئتلافية.
وانتقدت صحيفة «التايمز»الخطوة التركية قائلة إن «دائرة النار» التي تحيط بها ستزعزع الاستقرار وستقضي فرص تحقق السلام الذي تتفاوض تركيا حوله مع مؤسس حزب العمال عبدالله أوجلان المعتقل حاليا في جزيرة إمرالاي ببحر مرمرة. وقالت إن الاتفاق الهش احترق في لحظة من الجنون. وتضيف الصحيفة «تقف الآن تركيا ومرة أخرى على حافة حرب عصابات مع الأكراد». مضيفة أن أنقرة اختارت لحظة سيئة لإحياء الأعمال العدوانية، خاصة أن مقاتلي الحماية الشعبية أثبتوا أنهم الأقدر على مواجهة تنظيم الدولة في مناطق شمال سوريا.
وترى الصحيفة أن إضعاف خطوط المواجهة للأكراد لن يقوي سوى تنظيم الدولة الذي سيعزز من خطوط القتال في شمال سوريا في الوقت الذي يدفع فيه مقاتليه باتجاه العاصمة العراقية بغداد. وتخشى الصحيفة من أن يؤدي ضرب المقاتلين الأكراد إلى اندلاع سلسلة من الاضطرابات التي قد تقود إلى محرقة كبيرة. وتقول إن حماقة تركيا واضحة، خاصة أنها تحولت من متفرج على الحرب ضد الجهاديين إلى مشارك فاعل وانتقامي فيها.
وتقف الصحيفة إلى جانب الأكراد حيث تقول إن الانفصاليين الأكراد أثبتوا خلال العقد الماضي أنهم مفاوضون جيدون، فإدارة صديقة أو محايدة للأكراد في جنوب تركيا أفضل من حدود مخترقة من قبل تنظيم الدولة. وفي النهاية ترى الصحيفة أن قتال تركيا على جبهتين ربما كان افدح خطأ ترتكبه تركيا. مع أنها ترى أن الفرصـة لا تزال قائمة لإطفاء الحريق من خلال هدنة سريعة مع بي كي كي والعودة إلى طاولة المفاوضات.
اعترافات
ويأتي التدخل التركي في ضوء اعتراف الرئيس السوري بشار الأسد بنكسات جيشه الذي يعاني من إجهاد فقط وليس انهيارا. وعلق الكاتب سيمون تسيدال في صحيفة « الغارديان» على خطاب الأسد بقوله إنه لم يظهر فيه استعدادا لتسوية تنهي الحرب الأهلية في البلاد. فرغم اعترافه بنقص الجنود الذي يعاني منه جيشه والذي كان وراء النكسات الأخيرة التي تعرضت لها الحكومة في الأشهر الأخيرة إلا انه أكد على التغيرات «الإيجابية» في المواقف الغربية للنزاع في البلاد، واقترح في خطابه أن الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين يشتركون في وجهة نظر دمشق الراغبـة بهزيـمة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام. وأكد الأسـد ان جيشـه رغم تراجـعه لا يـنهار بل صـامد وسـيحقق النـصر في النـهاية، مؤكـدا على أن هزيـمته ليس المخـرج «وليسـت في قامـوس الجيـش العربي السـوري».
وفي ضوء أولوية الولايات المتحدة وبريطانيا هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية فهناك من اقترح إمكانية تخلي إدارة أوباما عن شرطها استبعاد الأسد من بأي حل، على الأقل في الوقت الحالي. ويحمل خطاب الأسد الموجه تحديدا لقاعدته نوعا من الثقة بالذات جراء التطورات التي تخدمه إن على صعيد الملف الإيراني أو قرار تركيا ضرب تنظيم الدولة والأكراد معا.
ورغم أن الخطاب يخفي وراءه أزمة تواجه الأسد من ناحية تقلص قاعدته الشعبية وخسارته أقليات مهمة له مثل الدروز إلا أنه يعبر عن محاولة من النظام السوري تأكيد علاقته بالأحداث. خاصة أن هناك من يخشى البدائل عن الأسد والتي ستكون أسوأ منه.
مجالس محلية
وفي هذا السياق يقترح فردريك هوف من المجلس الأطلنطي أن هناك بدائل أخرى غير كارثية حالة انتهت عائلة الأسد وقررت إيران التوقف عن دعمها. مشيرا أن الحكم الذاتي على المستويات المحلية والذي يتجذر في سوريا يشـكل أسـاس ما سيحدث لاحقا. ويتحدث هوف عن لقاءاته مع ناشـطين سوريـين في غازي عـنتاب جـنوب تركـيا.
ونقل عن محام شاب قوله «هذه ليست ثورة ضد بشار الأسد بل هي ثورة من أجل الحكم الذاتي، فاستبدال بشار الأسد بشخص يصدر قرارات من دمشق حتى ولو كان أحسن منه، ليس مقبولا».
ويعتقد الكاتب أن المجالس المحلية التي أنشأها الناشطون لخدمة أحيائهم وعملت في ظروف صعبة تعتبر فعلا ثوريا. فعلى مدار 40 عاما ركزت عائلة الأسد الحكم بين يديها ووجهته لكل أنحاء سوريا. ولم يكن العاملون في الهامش إلا منفذين للأوامر أو جزءا من شبكة إرهابية. ومن هنا فأيام الحكم المركزي في سوريا قد انتهت إلا في حالة ساعدت إيران وكيلها السيطرة من جديد على كامل البلاد.
ويقول الكاتب إن هناك مئات من المجالس المحلية التي يعمل بعضها علانية أو سرا في المناطق التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية، فيما تتعرض أحياء للبراميل المتفجرة وأخرى تعيش حصارا وتجويعا. وتحظى هذه المجالس بدعم شبكة من منظمات العمل والمجتمع المدني. ومن هنا فتعاون المجالس المحلية ومنظمات المجتمع المدني هي كوكتيل من الجهود المحلية التي تعمل من داخل المجتمع. ويعتبر العاملون فيها، رجالا ونساء، ممن يعرضون حياتهم للخطر أبطالا. وفي الوقت الذي يعرف فيه السوريون أفراد عائلة الأسد وأسماء المعارضة السورية في الخارج إلا أن أسماء هؤلاء الأبطال الحقيقيين والذين يمثلون مستقبل سوريا غير معروفة.
ويعتقد هوف أن إدخال هؤلاء ضمن المشهد السياسي السوري مهم. والتحدي الأكبر هو ربط المعارضة السورية في الخارج مع الناشطين في الداخل الذي يحققون شرعيتهم عبر الطرق التقليدية. وفي هذا الاتجاه يحكي ناشطو الداخل قصصا مثيرة للحزن عن محاولتهم جذب انتباه المعارضة في الخارج. ولدى هؤلاء الناشطين قصص مثيرة عن توفير التعليم المهني للنساء في الوقت الذي تسقط فيه البراميل المتفجرة على الأحياء وعن استقلال القضاء مقارنة مع محسوبية نظام الأسد وعن تعليم الأطفال وإبعادهم عن مؤثرات التطرف. ويتحدثون عن لقاءات مع «وزراء» الحكومة الانتقالية الذين يبدون الاهتمام قبل أن يعودوا إلى هواتفهم النقالة ويتحدثون في أمور أخـرى.
ويقول إن الولايات المتحدة التي اعترفت بالمعارضة الخارجية يجب أن تحضرها كي تحكم من خلال مناطق محمية ويجب ربطها ميدانيا في المناطق التي لا تخضع لحكم الأسد أو لتنظيم الدولة الإسلامية. ويشتكي الناشطون من أن زيارات المعارضة التي تقيم في تركيا إلى سوريا قليلة ولا يلاحظها أحد.
ومن هنا يشير إلى أن البديل عن نظام الأسد يخرج من القاعدة الشـعبية في الداخل ويجب على الولايات المتحدة وشركائها العناية به وربطه بالمؤسسات الخارجية المعترف بها من قـبل الغرب.
qal
إبراهيم درويش