التمييز بين لعبة السياسة والقيم الإنسانية

حجم الخط
2

ما يجب أن يدركه قادة الحكم في بلاد العرب، وأن يدركه على الأخص من يقدمون النصح والمشورة لأولئك القادة، أن الشعوب تستطيع ممارسة الصبر والانتظار بالنسبة لبعض المظالم والمطالب السياسية.
فهي تستطيع أن تتحمل، مع كثير من التململ، التباطؤ في الانتقال إلى نظام ديمقراطي عادل وحقيقي غير مزيف، إذ تدرك أن الوصول إلى كذا ديمقراطية يحتاج إلى نضال قاس مرير، وأن الطريق إلى تلك الديمقراطية طويل ومتعرج لكل المجتمعات البشرية.
وهي، أي الشعوب، تستطيع أن تتحمل الفروق الجائرة في الثروة والجاه والسلطة بين أقلية تهيمن وأكثرية تعاني وتكافح، إذ تدرك الشعوب وتأمل بأن الزمن، طال أو قصُر، بعد مئة عام أو ألف عام، سينهي أي فروق غير عادلة، فوعي الإنسان وقدراته في نمو دائم ونضج متراكم، وستفرض القيم الإنسانية إرادتها على القيم الأنانية الظالمة التي حكمت ولاتزال تحكم طول العالم وعرضه.
الشعوب تستطيع الصبر والانتظار على تأجيل أحلامها الكبرى، لأنها تعلم أن ممارسات الاستبداد والظلم وآلام وفواجع القوانين الجائرة والفساد والنهب، موزعة في ما بين الخلق كلهم، وأن مواجهتها هي من مسؤولية الجميع لأنها تمس الجميع.
لكن تلك المظالم التي تطال الجميع تختلف جذريا عن التمييز الموجه إلى فرد أو مجموعة أفراد. نحن هنا أمام ظلم يفعل فعله الموجع والمدمر في الواقع الحاضر، وفي الحال. فالإنسان الذي يحرم من خدمات صحية أو تعليمية من حقه كمواطن، والإنسان الذي يحرم من الحصول على مكافأة يستحقها، والإنسان الذي يميز ضده في الحصول على وظيفة أو سكن ويقدم غيره عليه… هذا الإنسان لا يواجه مشكلة تستطيع الانتظار أو التأجيل لحين حلها، إنه يواجه فرصة ضاعت وحقا سلب وحاضرا دمر.
فلنتصور شابا، من عائلة محدودة الدخل، عاش طيلة سنين طفولته ودراسته في المدرسة وهو يحلم بأن يحصل على بعثة دراسية ليصبح مهندسا أو طبيبا أو عالما أو محاميا. لقد اجتهد وأبدع في دراسته، وحلم مع أفراد أسرته بالخروج من ضنك العيش ومغالبة متاعب الحياة، حتى أذا جاء يوم الحصاد والمكافأة واجه واقع التمييز ضد حقه في المكافأة، بسبب كونه فردا من هذه القبيلة أو الطائفة أو الدين أو الأصول العرقية، أو كونه فردا من هذه المدينة أو تلك القرية.
لا حاجة للقول بأننا في تلك اللحظة أمام مأساة فردية تدمر الحاضر وتشوه المستقبل وتغلق أبواب الأمل وتقتل الأحلام التي ترعرعت عبر السنين، أحلام ذلك الإنسان وأحلام محبيه ممن ارتبطت حياتهم بحياته.
لا يمكن الحديث هنا عن الزمن الذي سيحلُ هذه المشكلة، إن الزمن سيحل مشاكل آخرين سيأتون بعده، لكنه لن يحل مشكلة هذا الفرد إياه في هذه اللحظة إياها.
هذا الوضع الظالم التمييزي العبثي ينطبق أيضا على الشابة التي حلمت بالحصول على وظيفة معقولة محترمة بعد تخرجها من الجامعة، لتكتشف أن التمييز اعطى وظيفتها التي تستحقها لغيرها بسبب الانتماء لجماعة أو دين أو مذهب أو جهة.
وهو الوضع نفسه بالنسبة لشاب يريد الزواج والعائلة التي حلم طيلة حياته ببنائها، ولكنه لا يستطيع بسبب عدم حصوله على مسكن أعطي لغيره، بدون وجه حق وبسبب مفاضلة تمييزية جائرة.
في جميع تلك الحالات نحن أمام ممارسات ظالمة شريرة تئد الأحلام وتدمر الحاضر وتسد آفاق المستقبل. هل من حقنا أن نلوم عند ذاك هذا الشاب أو تلك الشابة إن هما توجها إلى أقصى درجات الغضب واليأس من العدالة والشك في كل القيم، والالتحاق بجماعات التطرُف والعنف العبثي؟
التمييز إذن لا يمكن الحديث عنه في صيغة المستقبل وفي الوعود بالحلول الآتية من الشفق البعيد. التمييز ليس موضوعا سياسيا يقبل التفاوض والأخذ والعطاء والحلول الوسط. ولا يمكن الحديث عن الصبر على نصف أو ربع تمييز بانتظار ما سيأتي به الغد، وهو ليس نصف موت، إنه موت وجودي كامل، إذ عندما يدمر الحاضر وتسد أبواب المستقل وينحر الطموح وتذوي الأحلام، فإن الحديث عن أي نوع من الوجود هو وهم وعبث بائس.
ستحسن سلطات الحكم ومستشاروها صنعا إذا أدركوا حساسية وعمق الفرق الفلسفي والقيمي بين ممارسة السياسة وممارسة التمييز، فالأخير موضوع إنساني وجودي يعطي البعض على حساب وحقوق البعض، يدمر حاضر البعض من أجل فتح أبواب المستقبل للبعض الآخر. هذه ليست لعبة سياسية وليس لها مكان في قاموس السياسة، إنها لعبة شيطانية تهزأ بالقيم والأخلاق وعدالة السماء وضرورة تحكيم الضمير.

٭ كاتب بحريني

د. علي محمد فخرو

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    من وجهة نظري أنَّ ما نشره د.سعيد يقطين تحت عنوان (الإنكار الثقافي) يتكامل مع ما نشره في نفس العدد من جريدة القدس العربي تحت عنوان (التمييز بين لعبة السياسة والقيم الإنسانية) د. علي محمد فخرو في محاولة كل منهما لتشخيص إشكالية دولة الحداثة للنظام البيروقراطي أو ما أطلقت عليه ثقافة الـ أنا للنخب الحاكمة، وأضيف:

    من وجهة نظري بيان حقوق الإنسان للأمم المتحدة، هو مأساة الإنسان في نظام الأمم المتحدة، فهو لا يعترف بالإنسان إنسان وله حقوق بدون أن يكون حاصل على هوية أو شهادة من جهة تعترف بها الأمم المتحدة والدليل فلسطين والـ بدون، ناهيك أنّه لا يعترف بالأسرة كأصغر وحدة في المجتمع تمثل العلاقة ما بين رجل وامرأة تم تسجيلها قانونيا، ولا يعترف بالتعدّدية في أي شيء قانونيا فلذلك يرفض التعدّدية في الزواج، ومن هذه الزاوية تفهم موقف باراك أوباما ممثل النخب الحاكمة في نظام الأمم المتحدة البيروقراطي، عندما صادق على قانون يغيّر به معنى الأسرة من علاقة ما بين الـ أنا والـ آخر لتكوين الـ نحن، إلى علاقة ما بين الـ أنا والـ أنا فهل في ذلك أي معنى أخلاقي إن كان عند اليهود أو المسيحيين بل وحتى البوذيين فكيف الحال بالمسلمين بعد ذلك؟!

    أنا لاحظت الكثير لم ينتبه إلى أنَّ تغريد العصفور شيء وتقليد الببغاء شيء آخر، أي أنَّ هناك فرق ما بين الاتباع وما بين التقليد، خصوصا وأنَّ الإسلام يختلف عن بقية العقائد والديانات والأفكار في كونه لا يعترف بالنخب والرهبنة والرهبان والقولبة، ومن لا يستطيع تمييز الفرق لديه ضبابيّة لغويّة، وتزيد المأساة لو صاحبها جهل لغوي، حيث معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت لغة القرآن والسنّة، وأنت حر في تأويلها بالطريقة التي تراها مناسبة لك، ولكن إن أردت جنّة الله، فعليك التأكّد بنفسك، من أنّ تأويلك كان وفق هيكل ومعنى معاني قاموس لغة القرآن والسنّة، حيث حكمة العرب تقول القانون لا يحمي المغفلين.

    أنا لاحظت بدون الإيمان واليقين بالله، لن يمكن تجاوز مشاكل القلق النفسي التي اساسها الفلسفة، فالفلسفة اساس بنائها على الشّك أو القلق، والقلق لا يمكن أن يؤدي إلى الثقة بالنفس بل إلى التردد، والتردد يؤدي إلى الجبن، والجبن اساس جميع المشاكل النفسيّة التي تفرض عليك العيش في قوقعة، ويزيد المأساة ثقافة الـ أنا لدولة “الحداثة” في النظام البيروقراطي، ولا توجد سعادة مع الوحدة أو ثقافة الـ أنا بل هناك الكآبة، فسعادة الأمومة والأبوة في العطاء، وليس في الأخذ، وهذه لن يستطيع استيعاب معانيها بدون ممارستها على أرض الواقع، ولذلك تجد الدعاء في القرآن والحديث دائما يشمل الوالدين أي يشمل جميع أفراد الأسرة أو بمعنى آخر ثقافة الـ نحن والتي هي مفتاح وسر السعادة في كل الثقافات الإنسانية وعلى رأسها الإسلام.

    أنا لاحظت الحكمة تمثل المزاوجة ما بين المُمارسة والمُدارسة لما تم تدوينه من العلم الظاهر والعلم الباطن، فالعبرة في التطبيق وليس في التنظير، وكذلك أنا لاحظت بدون الإيمان واليقين بالله، لن يمكن تجاوز مشاكل القلق النفسي التي اساسها الفلسفة، فالفلسفة اساس بنائها على الشّك أو القلق، والقلق لا يمكن أن يؤدي إلى الثقة بالنفس بل إلى التردد، والتردد يؤدي إلى الجبن، والجبن اساس جميع المشاكل النفسيّة التي تفرض عليك العيش في قوقعة، ويزيد المأساة ثقافة الـ أنا لدولة “الحداثة” في النظام البيروقراطي، في القرآن سورة للتعايش بين المختلفين اسمها سورة الكافرون، ثم الله قال لنا بأنّه لا يعلم بالنيّات إلا الله، الإشكالية فيمن لا يظن بمعرفة نيتي فقط بل وحتى بمعرفة نيّة الله عند الكلام عن المقاصد الشرعية؟!

    الدولة تحتاج إلى لغة المال من أجل توفير خدمات للمواطن، فلذلك لا مكان لأسلوب هل البيضة أوّل أم الدجاجة أوّل، ومن لا يخرج من أحلامه (الوردية/الإيجابية كانت، أم السوداويّة/السلبيّة) ويواجه حقيقة الواقع في كيفية توفير المال، من خلال استغلال ما لديه (ثقافة الـ أنا) من أجل تبادل المنفعة مع (ثقافة الـ آخر) لتوفير احتياجات الطرفين، من أجل تكوين ثقافة الـ نحن (الأسرة أو الدولة)، العولمة وأدواتها التقنية فرضت مفهوم الشفافيّة واللامركزية من أجل تقديم نفس جودة الخدمات في أبعد وأفقر قرية في الدولة بنفس كفاءة ما تقدمه في مقر الوزارة في العاصمة، فالحوكمة الرشيدة فرضت الاستعانة بالآلة لتوفير ذلك، وكل دولة رفضت التعامل بذلك تعاني من أزمة وجود وإفلاس بداية من اليونان مهد الفلسفة التي تم بناء الدولة عليها.

    أنا لاحظت أنَّ جذر اشكالية اليونان، هو الفرق، ما بين قوة عملة البلد، مع قوة مصداقية ميزانية الدولة، مقارنة بما ستحصله من إيرادات، لعب المثقف والسياسي والتاجر من أجل أن يكون من ضمن النخب الحاكمة، يكون بمقدار إثارة ضبابيّة أكثر للضحك على المواطن في رسم صورة وردية من أجل الحصول على صوته، بالإضافة إلى اشكالية سامري الدولة العميقة التي تعمل بمبدأ أتغدى به قبل أن يتعشى بي، العولمة وأدواتها التقنية فرضت مفهوم الشفافيّة واللامركزية من أجل تقديم نفس جودة الخدمات في أبعد وأفقر قرية في الدولة بنفس كفاءة ما تقدمه في مقر الوزارة في العاصمة، فالحوكمة الرشيدة فرضت الاستعانة بالآلة لتوفير ذلك، وكل دولة رفضت التعامل بذلك تعاني من أزمة وجود وإفلاس بداية من اليونان مهد الفلسفة التي تم بناء الدولة عليها.

    يمكنك البحث في غووغل عن (الحوكمة الرشيدة في دولة الحداثة ومشروع “صالح”) أو البحث على يوتيوب عن (مشروع “صالح” لتطوير الحوكمة الرشيدة بإضافة بُعد اللغات)، فمشروع صالح يُمثل الجيل الثاني ليتعايش مع أجواء العولمة، لمشروع الفاتح لتركيا رجب طيب أردوغان للتعايش مع النظام البيروقراطي، فهو مثال عملي للنجاح الاقتصادي بعد 11/9/2001، في تسديد جميع ديونها وأن تكون قوة اقتصادية، يُشار لها بالبنان مقارنة ببقية أعضاء الأمم المتحدة، من خلال اعتماد الحوكمة الرشيدة من خلال تسخير الآلة للوصول إلى الشفافية واللامركزية في تقديم نفس جودة الخدمة لأبعد وأفقر قرية مثلها مثل العاصمة أو مركز الوزارة لأي دولة، من خلال احترام اللغة الأم، والترجمة، والوقت، وبدونهم لن تستطيع المنافسة في أجواء العولمة.

    بالمناسبة أنا أرفض أتقمّص دور المثقف والسياسي لأنّها تمثل ثقافة الـ أنا من وجهة نظري، وأفضل دور التاجر لأنّه يمثل ثقافة الـ نحن على الأقل لتسويق مشروع “صالح”، وهناك تفاصيل أخرى في عروض مشروع “صالح” في سياقاته الثلاث، سياق لرئاسة مجلس الوزراء لتطبيقه في كل الوزارات، وسياق وزارة التعليم في موضوع تخفيض وزن الحقيبة المدرسية في تكوين الأجيال القادمة، وسياق الجامعات والنقابات لتكوين الكادر الوظيفي، من أجل تجنّب مأساة اليونان، حيث أنني مقتنع بأن جميع دول الأمم المتحدة تتجه إلى الإفلاس أو الانهيار مثلها بسبب فقدان ميزة التنافس في أجواء العولمة.

    ما رأيكم دام فضلكم؟

  2. يقول mohamed lakhdar:

    د.علي محمد فخرو منارة عربية يجب الاستضاءة بها…ليت الحكام العرب يقراون ما يكتب

إشترك في قائمتنا البريدية