أقدم مخطوطة قرآنية تسلط الضوء على تراث الأمة

حجم الخط
1

حين اعلن أكاديميو جامعة برمنغهام الاسبوع الماضي عن اكتشاف بعض صفحات من نسخة قرآنية قديمة، اثار ذلك الاعلان اهتماما في الاوساط الدينية والاكاديمية وكذلك علماء الآثار. ولكن أليس هناك آلاف المخطوطات القرآنية التي كتبها ناسخو المصحف الشريف منذ مئات السنين؟ ربما السبب الاهم ان خبراء الجامعة اكدوا انهم قاموا بفحص تلك الصفحات التي كانت مهجورة على احد رفوف الجامعة منذ العام 1920 مستخدمين وسائل حديثة تشمل استخدام الكربون المشع. ويقال ان تلك الوسائل تستطيع تحديد عمر الورق بشكل دقيق.
النتائج اكدت ان تلك النسخة تعود للعام 645 بعد الميلاد. وحيث ان رسول الله محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام قد توفي في العام 632 بعد الميلاد، استنتج الباحثون ان كاتب تلك النسخة لا بد ان يكون احد الذين عاصروا الرسول وكان قريبا منه، وعرفه وسمع منه. من هنا كان رد فعل ائمة المساجد والعلماء بمدينة برمنغهام من شطرين: الاول انهم رأوا في ذلك رابطا مباشرا مع العهد النبوي، وان النسخة القرآنية المطابقة تماما للنسخ المتداولة بين المسلمين، تؤكد صحة ذلك الكتاب، والثاني ان القرآن ليس، كما يدعي بعض الغربيين، مختلقا، بل تؤكد صحة الروايات التاريخية بانه وحي إلهي انزله جبرئيل على رسول الله عليه الصلاة والسلام. لسنا هنا بصدد تقديم قراءة دينية للنسخة القرآنية النادرة، لأن كتاب الله لا يحتاج لأدلة اضافية لما طرح طوال اربعة عشر قرنا، ولم يشكك المسلمون يوما في صحته شكلا ومضمونا. وما يزال يمثل المعجزة الخالدة التي تتحدى عقول البشر، أيا كانوا، بان يأتوا بآية كآياته. وليس معروفا ما اذا كان هناك كتاب واحد بقي اكثر من 14 قرنا باللغة التي كتب بها ابتداء وتداولته الاجيال بدون زيادة او نقص، وبدون اظهار اي تناقض في مفاهيمه او آياته. فكافة الكتب السماوية تعرضت تارة للترجمة مع فقدان النصوص الاصلية، او التحريف، كما ان اغلبها كتب بلسان ناقليه وليس بلسان التنزيل الالهي على الانبياء. ولذلك بقي القرآن الكريم حاضرا كمرجعية عقيدية وروحية واحتوى حقائق ترتبط باغلب العلوم الانسانية.
في العام 1977 اقيم في لندن مهرجان العالم الاسلامي، وكان الاول من نوعه، وشمل استقدام مئات الآثار الاسلامية من بلدان كثيرة، عرضت بالمتاحف البريطانية كالمتحف البريطاني والمتحف العلمي، ومتحف فيكتوريا وألبرت ومتحف التاريخ الطبيعي ومتحف النوع الانساني وسواها. كان الاهتمام آنذاك بتلك الآثار كبيرا، برغم ان الوجود الاسلامي في بريطانيا كان في بداياته. يومها كان التنميط سمة عامة للاعلام الذي يركز على ما يعتبره جوانب «سلبية» اي لا تنسجم مع القيم الغربية. وصاحب عرض الآثار العلمية مؤتمر فكري اقيم بقاعة «الكومنولث» بالقرب من ميدان الطرف الاغر، استمر عشرة ايام. كان ذلك الحدث بداية تواصل الرأي العام البريطاني مع الاسلام، دينا وحضارة. ما المستفاد من ذلك؟ ان الامم التي تمتلك تراثا علميا وانسانيا تستطيع مجاراة الامم الاخرى في الركب الحضاري والمسار العلمي، وتشاطر الانسانية قيمها وتراثها. هذه الحقائق تتأسس على مفاهيم دينية واسلامية بالاخوة بين البشر وضرورة التبادل الثقافي والفكري في ما بينهم، والاحترام المتبادل، وان التطورات الانسانية والعلمية ملك لجميع البشر. هذه القيم لا تتغير بالزمان والمكان، وقد أسس القرآن الكريم لذلك بمبدئه الانساني الخالد: «يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، ان اكرمكم عند الله اتقاكم». ولولا بقاء آثار المسلمين محفوظة اما في المتاحف او لدى المؤسسات والافراد، لما استطاع المسلمون تقديم حضارتهم وانجازاتها للعالم. ولا يسعى لتدمير مصاديق تلك المنجزات الا الراغبون بتدمير الحضارة الانسانية بالتفجير والابادة.
كانت السبعينات مرحلة تحول في التفاعل بين المسلمين والشعوب الاخرى. الاهتمام آنذاك كان مركزا على الآثار الفرعونية التي ساهمت البعثات الغربية في اكتشاف الكثير منها منذ قرن ونصف. وفي العام 1972 جاءت بعثة آثار بريطانية بمومياء الملك الفتى توت عنخ أمون إلى لندن، واستقطب المتحف البريطاني مليونا و700 ألف زائر تدافعوا لمشاهدة مومياء الملك الذي قاد مصر الفرعونية ومات صغير السن برغم كل الإبداعات السياسية والدينية الإصلاحية التي حققها في عهده. وما يزال المتحف البريطاني يحتفظ بآثار مصرية واسلامية كثيرة. وفي الوقت الذي يفترض ان تكون آثار العرب والمسلمين محفوظة في بلدانهم، فان ما جرى في السنوات الاخيرة من استهداف للتراث خطر محدق بذلك التراث. فما اكثر ما دمر منه في سوريا والعراق ومالي وليبيا، بدعاوى لا تختلف عما شهده عالمنا الاسلامي في القرون السالفة.
لقد شهدت اوروبا حقبا مزعجة من التنكيل بالعلماء، واصدرت محاكم التفتيش في العصور الوسطى قرارات كفرت غاليليو، وجيوردا، ونويرنو، وكوبرنيكس، ونيوتن، وديكارت، وفولتير، وحرمت قراءة كتبهم. وعانى التاريخ الاسلامي من اتجاهات كهذه، استهدفت العلماء وأخرجتهم من دائرة الدين. ولطالما صدرت احكام قاسية من قبل بعض «العلماء» حرضت على قتل نوابغ علماء المسلمين المشهورين. فقد اضطهد محمد بن جرير الطبري بسبب تحرره الفكري وموضوعيته، وصلب الحلاج لتصوفه وأحرقت جثته، وسجن المعري بتهم مزيفة وسمي «رهين المحبسين أي محبس العمى ومحبس البيت»، وسفك دم أبن حيان، وطرد ابن المنمر الطرابلسي حتى توفي في منفاه، وحرقت كتب الغزالي وابن رشد والأصفهاني. وتم تكفير الفارابي والرازي وابن سيناء والكندي والغزالي. اما السهروردي فقد مات مقتولا، وقطعت أوصال ابن المقفع، ثم شويت أمامه ليأكل منها قبل أن يلفظ أنفاسه بأبشع أنواع التعذيب. وامر خالد القسري بذبح الجعد بن درهم مات لموقفه من خلق القرآن، وعلقوا رأس أحمد بن نصر الخزاعي لأنه رفض القول بخلق القرآن، وداروا به في الأزقة. وخنقوا لسان الدين بن الخطيب في زنزانته ثم أحرقوا جثته. وقال ابن القيم عن ابن سيناء الطبيب والعالم والفقيه والفيلسوف في كتابه (إغاثة اللهفان): «انه إمام الملحدين الكافرين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر». وقال عن أبي بكر الرازي، الطبيب والعالم والفيلسوف: «إن الرازي من المجوس … وانه ضال مضلل». . وقال ابن العماد في (شذرات الذهب)عن الفارابي: «اتفق العلماء على كفر الفارابي وزندقته». وقال بعضهم عن محمد بن موسى الخوارزمي: «انه وإن كان علمه صحيحا إلا إن العلوم الشرعية مستغنية عنه وعن غيره». وعن عمرو بن بحر الجاحظ قيل: «سيىء المخبر، رديء الاعتقاد، تنسب إليه البدع والضلالات»، وقال عنه الخطيب: «انه كان زنديقا كذابا على الله وعلى رسوله وعلى الناس». وقيل عن ابن الهيثم: «انه كان من الملاحدة الخارجين عن دين الإسلام، وكان سفيها زنديقا كأمثاله من الفلاسفة». وقيل عن نصير الدين الطوسي: «انه نصير الشرك والكفر والإلحاد». وقالوا عن محمد بن عبد الله بن بطوطة: «كان مشركا كذابا»، وشتموا يعقوب بن إسحاق الكندي، وقالوا عنه: «كان زنديقا ضالا»، فقال عنهم: «هؤلاء من أهل الغربة عن الحق، وإن توجوا بتيجان الحق دون استحقاق، فهم يعادون الفلسفة ذبا عن كراسيهم المزورة، التي نصبوها من غير استحقاق، بل للترؤس والتجارة بالدين، وهم عدماء الدين»
مع ذلك ما تزال حضارة المسلمين التي اسهم فيها اولئك العلماء معلما منيرا في التاريخ الاسلامي. ولذلك اصبح الاهتمام بالمخطوطات الاسلامية ظاهرة تتنامى في بلدان كثيرة. وثمة سباق لاقتناء تلك المخطوطات، خصوصا نسخ القرآن الكريم القديمة، التي منها كبير الحجم وصغيره، ومنها الموغل في القدم. وعلى مر العصور تفنن الخطاطون والفنانون في كتابة المصحف الشريف، واستخدموا ماء الذهب، وتفننوا في نوع الجلد والورق. ومن يزور مقتنيات بعض التجار يجد من هذه النسخ ما لا يمر على بال، كأن يكون القرآن كله في صفحة واحدة، او في طية طويلة او يكون بحجم اصبع الابهام. وثمة اجماع بين المسلمين على ضرورة الاهتمام بمحتوى القرآن الكريم وما يحتويه من مفاهيم وقيم وحقائق، وما يشجعه من استخدام العقل واعتباره المدخل الى الايمان بالله والرسل والوحي. ومع ان هذه الجوانب يجب ان تحظى باولوية المسلمين، فان الجوانب الفنية بالكتاب المقدس تستحق الاهتمام، فالاسلام يحب الجمال ويشجع الابداع وإتقان العمل. وعالم المخطوطات يحظى باهتمام الشركات الكبرى، ويعتبر الاهتمام به احد وجوه الاستثمار. وكثيرا ما تنظم شركات المزاد، مثل سوثبي وكريستي وبونهام مزادات لبيع المخطوطات في العواصم الكبرى. وينبع الاهتمام بهذه المخطوطات من الشعور ليس باهمية التاريخ فحسب، بل بانماط تعامل البشر بتوثيق ذلك التاريخ تارة، والحنين الى الماضي تارة اخرى. ويعتبر الاتجار بقطع الآثاث القديمة واحدا من المجالات التجارية المربحة برغم عدم ملاءمتها احيانا مع انماط الصناعة الحديثة. فلا يستطيع الانسان الذي يقف امام مخطوطة قديمة او قطعة اثاث بالية الا ان يتدبر في احوال الامم ومسار التاريخ ودور الافراد والمجموعات في التأثير عليه وتوجيه مساره. وكثيرا ما قيل ان «من لا تاريخ له، لا حاضر له او مستقبلأ «لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب».

٭ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

د. سعيد الشهابي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول R. Ali:

    ذكرتني بإبن المقفع الذي قال: ليس غذاء الطعام بأسرع في نبات الجسد من غذاء الأدب في نبات العقل!! إبن المقفع حوالي ٢٠٠ – ٣٠٠ هجرية

إشترك في قائمتنا البريدية