خير الدين التونسي والمشروع النهضوي… السياسة والفكر

حجم الخط
0

في سياق تتبع أدوار رواد النهضة العربية، ولاسيما من حيث انحراف المشروع النهضوي عن تحقيق غايته نتيجة عدد من العوامل التي ناقشنا بعضاً منها في مقالات سابقة. في هذه المقالة نستكمل جهود بعض جهود رجال النهضة العربية، وأعني خير الدين التونسي، وهنا نتأمل العوائق التي حالت دون استكمال المشروع النهضوي، تبعاً لضغط العامل الذاتي، وطغيان مبدأ النفعية الذي شاب مسلك بعض رجال النهضة عامة، بالتراصف مع عوامل الارتهان للمرجعيات الدينية والسلطة وأثر التبعية الفكرية للمشروع الغربي.
ما من شك في أن خير الدين التونسي تميز بطليعيته، التي تتجلى بدعوته الإصلاحية، على مستوى مقارعة أنماط من التكوينات السلطوية ذات النزعة الاستبدادية، غير أنه كان في دعوته ينطلق من ذلك الإحساس بالبحث عن أنساق أكثر وجاهة للعبة السياسية التي كان يتقنها، لا بوصفه مفكرا إنما بوصفه رجل سياسة.
تذهب معظم المصادر إلى أن خير الدين التونسي – الذي ولد في القوقاز لعائلة شركسية- الكثير من الجهود، وتحديداً في صوغ بعض من ملامح النهضة العربية، إذ أن معظم نشاطاته توزعت بين عدد من الإحداثيات، أهمها تونس وإستانبول وباريس، ومما يلاحظ على سيرة الرجل أنه عمل موظفاً في الجيش التركي، وحينما كان في تونس حظي باهتمام الباي الذي أوكله مهمة إدارة المدرسة العسكرية، ومن ثم أرسله إلى باريس، كما يذكر ألبرت حوراني في كتابه «الفكر العربي في عصر النهضة» (109)، ونظراً لاطلاع الرجل على طرائق الحكم الأوروبي، دعا إلى إعادة صوغ الحياة الدستورية في تونس، بالاتكاء على دعوات تنويرية، على الرغم من أنه لم يكن يفارق أكناف السلطة، وهذا ما يجعله بصورة أو بأخرى موظفاً بمعارف وخبرات سياسية، غير أنها لا تؤهله لأن يكون مثقفاً عميقاً، ولذلك فهو أقرب ما يكون إلى سياسي، وما معارفه سوى لازمة من لوازم العمل السّياسي، ولهذا فلا عجب أن نراه يوفد غير مرة في مهمات سياسية للباي، ما يعني أن عمله اتسم بطابع وظيفي تقني صرف، لا وضع مثقف متأمل ناقد.
فالتونسي لم يكن ذلك المفكر القادر على اجتراح منظومة حضارية وفكرية، فأغلب سياساته ومشاريعه باءت بالفشل، ولعل هذا ما دفعه للتنقل بين أحضان غير سلطة، ومنها القسطنطينية، ولاسيما حين ساءت علاقته بالباي في تونس نتيجة دعوة التونسي لفرض رقابة دستورية على سلطات الباي.
يلاحظ أن الفترة التي فارق فيها التونسي الوظيفة السياسية جعلته أقرب إلى ممارسة دور المثقف، ما سمح له بفترة الانعزال التي أثمرت كتاباً عن الحكم «أقوم المسالك» 1864-1867، خاصة بعد أن فشل بمهامه ووساطته بين تونس وإستانبول، أو في تحقيق الرّقابة الدستورية (حوراني، ص 111)، غير أن هذا الدور لم يَرق للتونسي الذي سرعان ما عاد للعبة السياسية، نازعاً عباءة المثقف المنظّر، من أجل وظيفة رئيس دائرة الواردات (حوراني، 111)، وليستمر بعد ذلك في مهمات يحقق فيها نجاحات تؤهله لعدد من الوزارات، وليتوج في ما بعد بالوصول إلى هرم السلطة بوظيفة رئيس للوزراء.
ومما يلاحظ على سيرة التونسي أنه حينما أدركه الفشل، وتحديدا في الموازنة بين مصالح الدول الاستعمارية الكبرى، ونتيجة لهذا فقد منصبه لينتقل بعد ذلك إلى إستانبول، وهناك لا ينخرط بأي مؤامرات لينال رضى السلطان الذي يعينه في منصب الصدر الأعظم، وهنا نلحظ ذلك الانزياح العنيف عن معنى المثقف الرسولي، وتحديداً حين يتحول إلى جزء من السلطة، وأداة ممن أدواتها، وهكذا يبقى الرجل في أحضان السلطة متخلّياً كلياً عن دور المثقف نتيجة غياب قيمي يتصل بنقد المؤسسة السلطوية التي سخر لها كل مواهبه. فالمثقف حين ينشغل بالمهام والمناصب يضحي أداة بيد للسلطة التي تحول دون امتلاكه للتوجهات العميقة، والتي يمكن أن تتصل بتحقيق القيم الحضارية، خاصة حين يصبح المثقف مشغولاً بموازنة الولاءات، وتحقيق مصالحه، ومكتسباته الخاصة التي تتعلق تحديدا بهوس تبوؤ المناصب.
ما من شك بأن هنالك خللاً ما يتصل بالنهضة العربية التي بدت أقرب إلى نماذج استجلبت من الغرب، فالعقلية العربية ذهبت لمعاينة المظاهر، ولكنها لم تبحث في العوامل المؤسسة للتحول، فالنهضة تقوم على الابتكار، وخرق حدود المقولات العليا، أو السائدة أو النمطية، ولهذا نجد أن أغلب أفكار رواد عصر النهضة تأسست على مظاهر العدالة والحرية، ولم تنهض على المبادئ، ومن هنا فإن جهود خير الدين التونسي، وقاسم أمين على سبيل لم تخرج عن هذا النسق من حيث دعوتها للإصلاح الشامل بغية تحقيق العدل والمساواة، ولكن في سياقات لا تقوم على أي دعوات جذرية تمس، قواعد السلطة، أو نخبها التي كان معظم المثقفين ينتمون لها، وتبعا لهذا كان الدعوة للجوء إلى الحكم بالشورى، ونبذ الاستبداد الفردي، ولكن هذا لن يتحقق كلية ما دامت السلطة قائمة باختلاف مظاهرها، كأن تكون سلطة رجال الدين التي مارست حدوداً على تفعيل العقل، أو السلطة السياسية التي تستهدف تحديثاً يصون وجودها، أو ربما ينطلق المثقف من أفكار تتصل بانتمائه إلى طائفة دينية، أو فكر توفيقي، فهذا فكر يمتح رؤاه من قيم تراثية، وهنا نجد فعل استبعاد للعقل، مما يعني أن المثقف في عصر النهضة بدا نمطاً من أنماط المثقف الذي يتسم بالذكاء، وامتلاك المعرفة التي يعمل على توظيفها، ولكن في سياق الدولة والمرجعية، فهو لم يلجأ إلى تفعيل قدرة العقل في إدراك حقيقة الأشياء عبر نبذ عناصر الضغط التي يستشعرها المثقف كرها أو قصراً، فالمثقف العربي كما يرى علي حرب لم يمارس دوراً، ولم يعمل على تشكيل سلطة رمزية معترف بدورها، بل فشل في إقامة علاقات فاعلة ومتوازنة مع السلطات، ولهذا مارس المثقفون دورهم بعقلية سحرية، وآليات طقوسية تمثلت في المؤتمرات والبيانات (حرب ـ أوهام النخبة ـ 42).
لا ريب أن ما في كتاب خير الدين التونسي ينهض على فكرة قوامها الاستفادة من تجارب الأمم الغربية، بوصفها الطريق المؤدي إلى تحقيق التّرقي والتّقدم للدول الإسلامية، لذلك بذل خير الدين التونسي جهودا حثيثة لإقناع المحافظين بأن هذا المسلك ليس مخالفاً للشريعة الإسلامية (حوراني ـ ص114). وفي ملحوظة مهمة، تشي بمسألة تتعلق بمدى تواضع العمق الثقافي لخير الدين التونسي ما يورده حوراني من أفكار وردت في كتاب التونسي، وهي في مجملها لم تخرج عن عملية تحليل، يمكن أن يضطلع بها أي كاتب تركي من عصر الانحطاط (حوراني ـ ص 116)، بالتجاور مع انبهار ساذج بالنموذج الغربي، وهو بذلك يكاد يماثل الطهطاوي، وسائر رجال عصر النهضة في ما ذهبوا إليه.
إن محاولة تقصي مواقف مثقفي النهضة العربية انتهاء إلى ما بعد منتصف القرن العشرين تقودنا إلى النسق عينه من الارتهان، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر طه حسين الذي وجد ضالة العقل العربي بتمثل النموذج الغربي، فطه حسين يسوق الكثير من الحجج والبراهين على اتصال العقل المصري بالعقل الأوروبي تاريخياً وبيئياً وحضارياً، ولهذا فإنه يرى أن المسلك الحتمي للنهضة لا بد أن يتوسل التجربة الغربية، حيث يقول «نحن إذن مدفوعون إلى الحياة الحديثة دفعاً عنيفاً. تدفعنا إليها عقولنا وطبائعنا وأمزجتنا التي لا تختلف في جوهرها إلا قليلاً منذ العهود القديمة جدا عن عقول الأوربيين» (مستقبل الثقافة في مصر ـ ص34)، ولكنه الرجل عينه، أي طه حسين عاد إلى استرضاء أو مهادنة السلطة الدينية، من خلال تأليف عدد من الكتب، ينعتها صلاح فضل بسلسلة الأدب الديني (مجلة الآداب ـ ص35) خاصة بعد العديد من الأزمات التي واجهها الرجل مع التيار الديني.
إن جهود معظم النهضويين العرب لم تذهب إلى أن تدرك حاجتها لإدراك معنى التنوير بوصفه مشروعاً عقلانياً، يبحث عن حقيقة الأشياء، وفك أسرار الكون، إنها المعرفة التي تذهب لأقصى الحدود من أجل الوصول إلى الحقيقة، فالنهضويون العرب كانوا يتمترسون خلف منجزات دينية ينبغي استعادتها، نظراً لكونها انحرفت عن مسالكها، وهذا يأتي بالتجاور مع الرغبة بالإبقاء على أنساق سلطوية سياسية وطائفية وذاتية، أو مركبات نقص تجاه الغربي الآخر. إن مشروع هؤلاء الرواد كان منشغلاً بردم الفجوة والهوة التي تفصل الشرق عن الغرب، وهذا يعني أنه مشروع ينحو منحى التحديث، والتمدن بهدف مواجهة التحديات والمخاطر الغربية، ولكن في سياق المنظر الغربي، وآلياته وهنا تكمن المفارقة!

كاتب فلسطيني ـ الأردن

رامي أبو شهاب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية