استقر رأي وزارة التربية في خطوة نادرة جدا قبل نحو من ثلاث سنوات ونصف على جمع كل النسخ من كتاب تدريس التاريخ ‘نبني دولة في الشرق الاوسط’، الذي صدر قبل ذلك ببضعة اسابيع، بعد ان حصل على جميع الرخص المطلوبة. وكان السبب المركزي لاستعمال الرقابة هو تعبير الكاتب عن الرواية الفلسطينية للنكبة. وأُجيز استعمال الكتاب من جديد بعد ان أُدخلت فيه تعديلات فقط سيما في الفصل عن حرب الاستقلال. لم تُثر القضية أصداءً كثيرة وقد يكون ذلك لأنها ابتلعتها موجة مبادرات اخرى من وزير التربية السابق جدعون ساعر كانت ترمي الى الدفع قدما بقيم قومية بين الفتيان (عند اليهود فقط لا عند الجميع). لكن بعقب الرفض استقر رأي أحد مؤلفي الكتاب الدكتور تسفرير غولدبرغ من قسم التربية في جامعة حيفا على محاولة الفحص عن تأثير طرق التدريس المختلفة التقليدية لوزارة التربية في مقابل توجهين بديلين في الموالاة الوطنية للطلاب اليهود والعرب، وفي مبلغ تسامحهم وقدرتهم على التوصل الى اتفاقات. واستُكمل البحث في المدة الاخيرة واستنتاجاته واضحة جدا وهي أن الولاء الوطني لا يتضرر حينما تتم دراسة رواية الطرف الآخر في حين ان التدريس بحسب مبادئ وزارة التربية يساعد على الانغلاق وعدم الاهتمام بالآخر. قد يكون وزير التربية السابق جدعون ساعر محقا من وجهة نظره. اذا كان التدريس التقليدي للصراع اليهودي العربي يُقلل القدرة على اجراء حوار، كما يُبين البحث، فانه يجدر بمن لا يؤمن بحل الصراع أو لا يريده ان يدفع به قدما ويستعمل الرقابة على طرق اخرى لوصف التاريخ. فعلى سبيل المثال تم حظر تناول النكبة في مؤسسات تربية يهودية أولا وفي موسسات عربية ايضا بعد ذلك. وكذلك استُدعي الى أحاديث استيضاح مديرون تجرأوا على الانحراف ولو قليلا عن الخط الرسمي وأُعيدت كتابة كتب تدريس في موضوع المدنيات خاصة، وكذلك دُفع قدما بنزهات طلاب الى كريات أربع. شارك في البحث نحو من 180 فتى يهوديا وعربيا بين السادسة عشرة والثامنة عشرة من أعمارهم من عشر مدارس في أنحاء البلاد. وقد قُسموا الى ثلاث مجموعات درست حرب الاستقلال ونشوء مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، بحسب توجهات مختلفة لدراسة التاريخ. وقبل الدرس وبعده أجاب الطلاب على أوراق اسئلة مفصلة فحصت عن التماهي مع مجموعتهم القومية وعن انفتاحهم لروايات مناقضة عن الصراع وعن تصورهم للقضية التاريخية. وانقسموا بعد ذلك الى أزواج يضم كل زوجين اثنين من القوميتين طُلب اليهما ان يتباحثا في سؤالين وهما: أي طرف يتحمل المسؤولية عن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، وهل يمكن التوصل الى حل للمشكلة. وسُجلت الأحاديث وحُللت من ناحية كمية (كنسبة الاتفاق بين الطلاب) ونوعية (كمظاهر الهيمنة أو السيطرة على الحديث مثلا). تم الفحص عن ثلاثة توجهات تدريس في البحث. الاول هو التوجه التقليدي لدراسة التاريخ كما صاغته وزارة التربية، وهو توجه تسلطي يدعي نقل ‘الأحداث كما وقعت’. لا توجد بالطبع طريقة موضوعية لتدريس التاريخ لكن استعمال وصف محايد لا يُنسب الى جهة ما يطمس حقيقة ان الحديث عن تفسير واحد من تفسيرات كثيرة. لا تكتفي وزارة التربية بهذه الطريقة البسيطة لخنق النقد. إن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين مثلا تُذكر في الخطة الدراسية الرسمية حقا لكن لم يُفرد لها درس واحد فقط. ووجه المعلمون توجيها صريحا الى الحذر في علاج هذا الموضوع المختلف فيه. وكان التوجهان الآخران اللذان تم الفحص عنهما هما توجه عاطف يقوم على كتاب تدريس يشتمل على الرواية الاسرائيلية اليهودية وعلى الرواية الفلسطينية، والتوجه النقدي الذي يعتمد على دراسة مصادر تاريخية وفحصها فحصا شكّيا وهي مصادر تعرض تفسيرات مختلفة للأحداث على نحو يُذكر بالدراسات الأساسية في التاريخ في كل مؤسسة اكاديمية. يمكن ان نجد أمثلة على التوجهين الأخيرين في المشروع الذي قدمه قبل بضع سنين اساتذة الجامعات دان بار – أون، وإيال نفيه وسامي عدوان، حيث ألف مدرسون من الشعبين كتاب تدريس مشتركا. وحاربت وزارة التربية في فترة ليمور لفنات حينما كانت وزيرة التربية وفي فترة ساعر هذا الكتاب. وكان يمكن ان نجد التوجه النقدي ايضا في كتاب التدريس الذي شارك غولدبرغ في تأليفه قبل ان تجري عليه الرقابة. هذا أول بحث من نوعه كما نعلم يفحص عن تأثير طرق مختلفة لتدريس تاريخ الصراع اليهودي العربي، في الهوية القومية وفي العلاقات بين الشعبين. في السنتين 2009 2010 منع ساعر ورئيس أمانة السر التدريسية الذي عينه الدكتور تسفي تسميرت، استعمال كتب تدريس تروي الرواية الفلسطينية ايضا. ويمكن ان يشير هذا المنع القاطع الى خوف من ان الكشف عن دعاوى الفلسطينيين قد يقنع الطلاب ويضعضع ايمانهم بالدولة. يستطيع ساعر وموظفو وزارة التربية الذين وافقوه على نهجه القومي ان يطمئنوا لأن البحث يُبين ان التوجهين النقدي والعطفي لم يؤثرا في ولاء الطلاب القومي. ‘تبين ان التوجه غير التقليدي لا يزعزع تصور الطلاب القومي’، يقول د. غولدبرغ، ‘إن توجهات اخرى لا تجعلهم أنصارا للطرف الثاني ويبدو أنها لن تجعلهم لا يُجنَدون للجيش الاسرائيلي’. في مقابل ذلك وجدت فروق حقيقية في كل ما يتعلق بمبلغ اهتمام الفتيان بمعرفة الطرف الثاني. فبعد درس بالطريقة التقليدية التسلطية سُجل انخفاض للاهتمام بالطرف الثاني، قياسا بزيادة الاهتمام بعد درس بحسب التوجه العطفي، وبقدر أقل شيئا ما بحسب التوجه النقدي ايضا. وقد سُجل بين الطلاب العرب تأثير أكبر من التأثير في رفاقهم اليهود، الى هنا أو الى هناك. ولا يفترض ان يفاجئنا هذا في واقع الامر لأن فرض تصور المجموعة المهيمنة قد يُقلل اهتمام مجموعة القلة بها، في حين يزيد التدريس الذي يشتمل على اعتراف ما (أو بدايته على الأقل) بكل واحدة من الروايات، يزيد اهتمام القلة. ويقول غولدبرغ: ‘اذا درس الطلاب العرب بحسب النص الرسمي فربما يعرفون أكثر، لكن يبدو أن فهمهم للطرف اليهودي سيكون أقل’. ووجدت فروق ذات شأن ايضا حينما قُسم الفتيان الى أزواج وطُلب اليهم ان يبحثوا مشكلة اللاجئين. وتبين ان الطلاب الذين درسوا بحسب التصور التقليدي، توصلوا بوضوح الى درجة أدنى من الاتفاقات قياسا باولئك الذين درسوا بحسب الطريقة العطفية والطريقة النقدية (38.5 في المائة، و53.3 في المائة و75 في المائة، بحسب الترتيب، اتفقوا على المسؤولية عن مشكلة اللاجئين). وتبينت فروق أقل وضوحا ايضا في تحليل نوعي للأحاديث، فقد نالت تلك الاحاديث التي دارت بين طلاب درسوا بحسب الطريقتين البديلتين الى ان تكون أكثر تساويا. تم البحث بتمويل من مركز تامي شتاينيتس للسلام في جامعة تل ابيب وصندوق سبنسر للاكاديمية الوطنية للتربية في الولايات المتحدة. وحظي اقتراح البحث بالمديح من خمسة خبراء من الصندوق الاسرائيلي للعلوم (لو أن ساعر بقي في عمله لأمكن ان نتوقع ان يتلقى شخص ما هناك مكالمة هاتفية غير ودية على نحو خاص)، وقُبلت مقالات تعتمد عليه للنشر في مجلات علمية. وينبغي ان نحذر مع ذلك لأن العينة ليست كبيرة وهي تعتمد على طلاب تطوعوا للمشاركة فيها. ويمكن ان نُخمن ان طلابا في مستوطنة متطرفة ما كانوا ليختاروا المشاركة في بحث من هذا القبيل. لكن يصعب ان نتهم الباحث بالتحيز، فسبب اعتماده على عينة غير كبيرة من الطلاب المتطوعين، في نشاط تم بعد الظهر هو ان وزارة التربية لم توافق على إتمام البحث في المدارس. وإن سلسلة الطلبات التي قدمها غولدبرغ الى موظفي الوزارة تؤثر سذاجتها في القلب. وتعليلات الوزارة لرفضها المصوغة بتهذيب بيروقراطي ليست أقل فظاظة من تطرف ساعر أو نشطاء ‘اذا شئتم’. زُعم في جملة ما زُعم ان مادة التدريس التي تمثل التوجه العطفي (الكتاب الذي كتبه مدرسون اسرائيليون وفلسطينيون معا) لم تحصل على موافقة الوزارة ولهذا ‘لا يخطر بالبال ان يمكن ذلك بتجربة بحثية’. أما النص الذي عبر عن توجه نقدي (ورفضته الوزارة) فلا يجوز استعماله كما كُتب ‘في اطار ما في المدارس ويشمل ذلك خطة مشاركة تُستعمل من اجل البحث’. وهناك تعليل آخر وهو أن ‘استعمال مصطلح ‘الرواية الاسرائيلية’ غير مقبول عند الجهات المختصة والمخولة في وزارة التربية’. يمكن ان نأمل ان يُمكّن وزير التربية الجديد شاي بيرون جهاز التربية ان يهدأ شيئا ما في حرب الخنادق التي قام بها سلفه على كل انسان وكل رأي اختلفا معه. وقد قال بيرون في مراسم تبديل الوزيرين انه يريد ان ينشئ طلابا ذوي حب استطلاع ونقد. وهي كلمات لم تُسمع منذ زمن في الوزارة. ويشير بحث غولدبرغ الى انه لا يوجد ما يدعو الى الخوف من دراسة وجهة نظر الطرف الثاني. فليس الولاء القومي وحده لا يتضرر بل ربما يمكن الشعور بواقع مختلف لبضع لحظات.