رجب طيب أردوغان رجل عصامي بامتياز، صنع صعوده بنفسه، ويصنع الآن سقوطه، ويكتب نهاية أسطورته مع سبق الإصرار والتصميم والترصد.
بدا أردوغان ـ مع بداية صعوده ـ براغماتيا محضا، ترك المبادئ التي قادته إلى السجن مبكرا، وغادر أجواء قصيدته الأصولية الحماسية «المآذن حرابنا»، وانشق على زعيمه نجم الدين أربكان مؤسس الحركة الإسلامية المعاصرة في تركيا، كان أربكان إخوانيا على الطريقة التركية، وهو ما يعني أنه كان أكثر استنارة وتفتحا وحداثة من جماعات «الإخوان» في العالم العربي، فقد قطعت تركيا أشواطا كبيرة موصولة في التحديث، وتحولت إلى مجتمع صناعي، وبدا المهندس أربكان كأنه الجواب الإسلامي الملائم على طغيان علمانية كمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة.
وكان أربكان مناضلا صامدا مع نزعة عملية ملموسة، كانت المؤسسة الأتاتوركية الحاكمة تحل أحزابه الواحد تلو الآخر، وكان أربكان يعود مجددا للساحة تحت عنوان جديد وباسم حزب جديد، ويقترب من النخبة الأتاتوركية، ولا يمانع في العمل وزيرا تحت قيادة الأتاتوركيين، إلى أن تمكن في مرحلة «حزب الرفاه» من تحقيق تقدم انتخابي ملموس، جعله يعقد صفقة مع تانسو تشيلر زعيمة حزب «العدالة» العلماني اليميني وقتها، تكون فيها تشيلر رئيسة للوزراء لنصف الوقت، ويتولى أربكان الرئاسة في النصف الأول، ولم يكمل أربكـــان نصــفه المتفق عليه، فسرعان ما صدر قــــرار بحل «حزب الرفاه»، الذي كان أردوغان عضوا بارزا فيه مع جيله الوسيط وقتها، وهنا قرر أردغان أن يكون أكثر عملية وبراغماتية من معلمه أربكان، وبعد فترة قصيرة من عمله في حزب «الفضيلة» التالي لحل «حزب الرفاه»، استشعر أردوغان أنه أصبح قويا بما يكفي، وغامر بالانشقاق الكلي عن مسيرة أربكان، وتقارب مع فئات أخرى من النخب العلمانية وجماعات رجال الأعمال، وترك الشيخ أربكان وحيدا مع حزبه الأخير «السعادة» في الظل، وأنشأ أردوغان حزب «العدالة والتنمية»، أي أنه قرر الطلاق البائن مع سيرة «إخوان» تركيا، وهو ما ضمن له اتساع قاعدة القبول الشعبي، وتحقيق فوز انتخابي حاسم، جعله رئيسا لوزراء تركيا مع مطلع الألفية الجديدة.
كانت براغماتية أردوغان جارفة، وتناسى بالجملة أحاديث المآذن والقباب وتطبيق الشريعة الإسلامية، ولم يستبق من القصة كلها سوى حقوق المحجبات ـ كغيرهن من السافرات ـ في التعليم والتوظيف الحكومي، وكانت المقدمات ظاهرة حتى قبل أن ينشق عن أربكان، ومع تولي أردوغان لرئاسة بلدية «استانبول»، اجتهد في كل شيء آخر سوى الشريعة، وازدهرت في أيامه دور «البغاء» المعترف بها رسميا، وهو النهج ذاته الذي واصله حين أصبح رئيسا للوزراء، فقد كانت السلطة جل همه، وحبذا لو كانت مطلقة، وكان يريد إزاحة الجيش عن عرشه التقليدي الموروث من أيام أتاتورك، وكان عليه أن يخطو إلى قفزة براغماتية أخرى، وأن يدغدغ مشاعر الأتراك بحلم الالتحاق والانضمام للاتحاد الأوروبي.
كانت نخبة أردوغان الرأسمالية الجديدة تحقق منجزات اقتصادية ملموسة، وكان عليه أن يستفيد من النجاح الاقتصادي لتحقيق طموحه السياسي، ووجد ضالته في قصة السعي للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. كان أردوغان يعرف ـ كغيره ـ أن ضم الاتحاد الأوروبي لتركيا مستحيل عمليا، فالاتحاد ناد مسيحي ضمنا، ولا يعقل أن يوافق على ضم دولة مسلمة بحجم تركيا، لكن أردوغان واصل التكتيك الأوروبي بهدف تخفيض الوزن الزائد للجيش التركي في السياسة، وبدعوى التطابق مع المعايير الأوروبية، وعبر تغييرات متصلة في الدستور التركي وفي القوانين الأساسية، ونجح أردوغان بامتياز في تكتيكه البراغماتي، وقلّم أظافر الجيش والمحكمة العليا، وفعل كل ما طلبه الأوروبيون، وألغى عقوبة الإعدام المقررة في الشريعة الإسلامية، فالشريعة لم تكن تلزمه في شيء، وتاريخه «الإخواني» القديم بدا ظلا باهتا وأحاديث ذكريات، وضمن الذين دهسهم أردوغان في رحلة صعوده، كان حزب الإخوان في تركيا الذي حمل اسم «السعادة»، وقد بدا حزبا صغيرا متآكلا حتى قبل أن يرحل المؤسس أربكان، ولم يحصل في كل سنوات صعود أردوغان سوى على نسبة ثلاثة بالمئة من أصوات الناخبين، وهي أقل من ثلث العشرة بالمئة المؤهلة لدخول البرلمان في النظام الانتخابي التركي، الذي يعطي أصوات الأحزاب الصغيرة للأحزاب الفائزة بما يجاوز العشرة بالمئة، وهو ما يعني أن حزب أردوغان كان أكبر المقتنصين حتى لأصوات حزب السعادة «الإخواني» الصغير جدا.
وحين استنفد أردوغان ما تصوره من فوائد ومغانم في لعبة الانضمام للاتحاد الأوروبي، كف عن الحديث في القصة كلها، فقد استفاد من معايير التأهيل الأوروبية في تحييد واحتواء دور الجيش والمحكمة العليا، وصار يستشعر قوته الذاتية المنفردة في تركيا، ولم يعد يريد أن يلزم نفسه بالمعايير الأوروبية في حرية الصحافة وحقوق الإنسان، ولا أن يقيد يديه، فأحل لعبة جديدة محل اللعبة الأوروبية، وكانت اللعبة الجديدة «عثمانية» الطابع، فواصل خطة سلفه تورغوت أوزال المستفيدة من انهيار الاتحاد السوفييتي أوائل تسعينيات القرن العشرين، والراغبة في كسب نفوذ ثقافي واقتصادي وسياسي بالجمهوريات الناطقة بالتركية، المتخلفة عن زوال الاتحاد السوفييتي، لكن خطة أوزال لم تكن لترضي طموح أردوغان، ولم تكن مغرية في إضفاء طابع «عثماني» أكيد، وهنا قرر أردوغان انفتاحا تركيا أوسع على الشرق العربي، الذي كان موضع نفور الأتراك لعقود، ووجد أردوغان البراغماتي أن الشرق العربي المتخلف صناعيا مفيد جدا لنهوض تركيا، وأراد جعله سوقا واسعة لتصريف المنتجات التركية، والقفز بمعدلات الازدهار الاقتصادي والرواج السياحي، ولم يضع أردوغان أي قيد سياسي أو مبدئي على حركته، وعقد اتفاقات استراتيجية شاملة مع مبارك ومع بشار الأسد، ولم تمر سوى سنوات قليلة قبل اشتعال ثورات وأزمات الواقع العربي، ووجد أن حليفه مبارك سقط في مصر، وأن بشار الأسد قد يسقط في سوريا، وأن جماعات «الإخوان» تتقدم إلى صدارة المشهد السياسي، وبتشجيع ظاهر من واشنطن، وبغير ممانعة تذكر من إسرائيل، وهنا تصور أردوغان أن المنطقة العربية أتت له على طبق من ذهب، فتركيا عضو أساسي في حلف الأطلنطي بقيادته الأمريكية، وعلاقات تركيا وثيقة قديمة مع إسرائيل، في المجالات الاستراتيجية والعسكرية والتكنولوجية، ولا بأس من مناورات لفظية يجيدها أردوغان، توحي بتعاطفه مع القضية الفلسطينية، بما قد يوفر له دور الوسيط المحتمل، ثم أن الصعود الإخواني يوفر له فرصة تصورها هائلة، وهنا تذكر أردوغان ماضيه «الإخواني» القديم، وأراد تجديد إيحاءاته، ليس في تركيا بالطبع، فحزب أردوغان الحاكم لا يطيق ذكر كلمة عن الشريعة، بل في الجوار العربي الزاخر بمآسيه، وأراد أردوغان أن يجعل من نفسه «ملك ملوك» الإخوان الجدد، وأن يستعيد وضع الخليفة العثماني رمزيا..
وفي حين خدمت «اللعبة الأوروبية» أردوغان، وقادته إلى الصعود، فإن اللعبة «العثمانية ـ الإخوانية» تكاد تنتهي إلى العكس بالضبط، وتصيبه بلعنتها، وتؤذن بسقوط متدرج، كما كان الصعود متدرجا، فقد استشعر أردوغان قوته الذاتية بعد نهاية لعبة الاتحاد الأوروبي، وبدا أن قلقه زال من الجيش وجنرالاته، وأن بوسعه التخلي عن حلفاء ساندوه ضد سطوة الجيش، وقد يفكرون في الانقلاب المدني عليه، وهو ما يفسر حملته الضارية ضد «حركة الخدمة» وزعيمها الإسلامي فتح الله جولن، وفصله للآلاف من شخوصها في الشرطة والقضاء، وخوضه لحرب سياسية داخلية تبدو مستحيلة الكسب، خاصة أنها حشدت فئات تركية مؤثرة ضد ما سمته فساد واستبداد أردوغان، ولم تفلح مناورة الرجل البديلة في كسب ود «حزب العمال الكردستاني» التركي وزعيمه السجين عبد الله أوجلان، فقد تبنى أردوغان ما سماه «خطة سلام» مع الأكراد، أفادت في كسب تصويت بعض قواعد الأكراد لحزب أردوغان، لكن الأكراد سرعان ما استشعروا المزيد من قوتهم الذاتية مع تطورات المنطقة المفيدة لقضيتهم القومية، وبدأوا في منح أصوات الأكراد للأكراد، وعلى نحو ما بدا في انتخابات أوائل يونيو 2015، وصعود حزب ذي نزعة كردية ـ حزب الشعوب الديمقراطي ـ إلى المشهد البرلماني بقوة، وحرمان حزب أردوغان من الفوز منفردا بتشكيل الحكومة، وهو ما يحدث لأول مرة منذ صعود ظاهرة أردوغان، الذي كان يأمل في فوز ساحق، يغير به الدستور، ويعطي السلطات كلها لمنصب رئيس الجمهورية الذي انتقل إليه أردوغان. كانت الصدمة مزلزلة، أطارت صواب أردوغان، وورطته في «غلطة الشاطر»، فبعد أن كان يروج طويلا لاستقلاليته عن الأمريكيين، فإذا به يحول مطارات تركيا إلى قواعد عسكرية مفتوحة للأمريكيين بغير حساب، وعلى ظن أنهم قد يساعدونه في حرب دامية أعلنها على الأكراد، وهي حرب لن يكسبها بالتأكيد، ومهما بلغ عدد الآلاف التي يواصل اعتقالها يوميا، فقد وقع الرجل في المصيدة، ولن يسمح له سوى بدور مساعد في الحرب ضد «داعش»، التي آواها ورعاها كما رعايته للإخوان، ثم تجبره أمريكا على دفع الثمن في الحرب ضد «داعش» التي حكمت بكفره، فقد انفضت لعبته الأخيرة، وجاء أوان تحطيم أردوغان، الذي يهزم نفسه بنفسه الآن.
كاتب مصري
عبد الحليم قنديل
بصراحة ومع كل الإحترام للكاتب السياسي القدير قنديل بس أستغرب حجم هذا المقال في أردوغان كأنه حرب سياسية
أنا أعتقد أن جمهورية مصر العربية فيها من الأحداث والوقائع السياسية الكثيرة والمتععدة والتي بالأحرى أن تكون الشغل الشاعل للكتاب السياسيين الحقيقيين
ودمتم بود
لو سمح بدور البغاء فقد نسي الشريعة وأصوله الإخوانية
ولو منعها فهو داعشي يتنكر للدولة العلمانية التي أقسم على دستورها
اكبر شريك تجارى للكيان الصهيونى فى المنطقة ..تركيا( اكثر من 30مليار دولار)…تركيا بلد علمانى بامتياز وحليف استراتيجى لواشنطن..اما الباقى فهى مسرحية..
كلام صحيح
100/100
حاول الكاتب شيطنة أردوغان بجميع الطرق وهذا كله لسبب واحد و هو أن هذا الأخير من أشد معارضي إنقلاب السيسي .بغض النظر عن نوايا أردوغان التي لايعرفها إلا الله لكن هناك حقاءق ووقاءع يعرفها الجميع النمو الإقتصادي الكبير الذي جعل من تركيا قوة إقليمية، وهذ كله يتعاكس تماما مع مايحدث في الشقيقة مصر لاإقتصاد لاأمن ولا شيء.
ما لاحظته في المقال هو التالي
١ـ في مقال يتحدث عن أردوغان وردت كلمة إخوان ومشتقاتها تسع مرات و لاأعرف إن كان للكاتب عقدة من هذه الكلمة
٢-حاول الكاتب وضع أردوغان ضمن أعداء فلسطين ،و الكل يعرف من هو عدو الفلسطينين الذي يغلق المعابر
واحسرتاه على قنديل ذلك الكاتب الذي كان قلمه مشهورا في وجه الظلم،
الظروف التاريخية والجغرافية لتركيا تختلف اختلافا هائلا عما هى فى
مصر،،،فالحرب العالمية الثانية انتهت ومصر مازالت تحت الاحتلال
البريطاني ،،،بينما كانت تركيا دولة مستقلة،،،وأمريكا كانت مضطرة
على ضبط علاقاتها بأنقرة لمل للبسفور والدردنيل من أهمية فى محاصرة
التحاد السوفيتي ،،،وعلية كانت عملية ادخال تركيا بحلف الناتو سهلة
وميسرة،،،واستفادت منه تركيا كثيرا،،وباستثناء الصراع التركي اليونانى
فان تركيا لم تكن مضطرة على حروب ٥ خمسة متلاحقة،،،ولاكن مصر
كانت هدف ثمين. لمخالب الامبراطورية الامريكية التى كان كل همها العمل
على تأمين زرع اسرائيل بكل السبل،،،وعلية كان من الضروري جداً لامريكا
من اضعاف مصر وتقليص قوتهها بكل الوسائل والطرق المعروفة للشيطان
وعلية فرضت عليها حروب ال٤٨ ثم ال٥٦ ثم ال٦٧ ثم ال٦٩ ثم ال٧٣ ثم
اتفاقية كامل ديفيد الجهنمية،
وفى النهاية فان الثروات الطبيعية التركية وميراثها الإمبراطوري قدما لها
مميزات هائلة لم تكن متوفرة لمصر،،،مصر ابتليت بمصايب متلاحقة على
طول تاريخها،،،ومع ذلك تظل مصر ارقى من تركيا بمراحل،،،وسوف يرى
العالم كلة عجائب حضارية فى السنوات القادمة،،،ان أعداء مصر كثر و
الطامعين فيها كثر والحاقدين عليها كثر والمتربصين بها كثر،،،هذا هو قدر
مصر وشعب مصر
مواطن مصرى امريكى