في مصر معسكران كبيران، أحدهما أنصار السيسي بأطيافهم، بدءاً من الداعمين على مضض، متخذي موقف الدعم النقدي (أجل هو نفسه تقريباً الذي انتهى بكارثة في الستينيات) وصولاً إلى دراويش السيسي ومجاذيبه المسبحين باسمه. والآخر معارضوه بأطيافهم أيضاً ممن لديهم اعتراضات موضوعية وعلمية على أسسٍ أكاديمية تنقب بمنهجيةٍ عن الجدوى والمشروع السياسي والممارسة والحقوق السياسية الخ، حتى نصل إلى من نزلوا تحت الأرض وفي تخاريم الجبال حاملين السلاح، وقانا الله شرورهم وخلصنا منهم.
تفصل بين الطرفين هوة عميقة ليس من سبيلٍ إلى ردمها، لسببٍ بسيط هو أن الأعلى صوتاً، كما هي العادة للأسف في بلادنا، هم المتطرفون المتعصبون لكلا الموقفين بطريقة شبه دينية أو مذهبية. من ناحية يراها متحمسو السيسي هرماً رابعاً وفتح الفتوح، ومن ناحيةٍ أخرى شكك كارهوه في إمكانية إتمام المشروع من الأساس وحذروا من كوارث ستحيق بالقناة الأم. الحاصل أن القناة أنجزت، وفي زمنٍ قياسي: ربما كان من حق المصريين أن يبتهجوا بذلك الإنجاز الهندسي الكبير في حد ذاته، فالفرح في حياتهم شحيح ودواعي الفخر والشعور بالعزة القومية متناثرة وخابية، فإذا حصلت ما تلبث أن تطويها قوى الكدر والإحباط الشريرة، والمثال الأقرب والأنصع 25 يناير، وتنحي مبارك. لقد صبر المصريون طويلاً ونزفوا كثيراً، وعبثاً يبحثون عما يدخل الفرحة إلى نفوسهم… ولو كان في كثيرٍ من الأحيان وهماً أو دون جدوى.
ولكن…
تبقى الأسئلة الواقعية الموضوعية، ثقيلة الظل في الحقيقة، تلح وتطلب إجابات، طرحها المتعقلون والاقتصاديون وعلماء السياسة، ممن لا يطبلون للسيسي ونظامه طيلة الوقت، ولكن ضاعت أصواتهم في لجة الردح وتراشق الاتهامات والتهكم… أسئلة من نوعية الجدوى الاقتصادية، وإذا كان ثمة تصور حقيقي مدروس لمشروع تنمية يتمحور حول هذه القناة الجديدة، وربما يكون من الأسهل طرح الأسئلة بصورة أبسط وأكثر مباشرةً: هل هناك احتياج من الأساس لهذه القناة؟
والسؤال الأهم والرئيس والجوهري، وزد ما شئت من صفاتٍ تدل على الصدارة: في جيوب من سيصب الدخل الإضافي للقناة بفرض تحققه؟
المشغولون بالجدوى الاقتصادية محقون، وشكوكهم مبررة، فالنظام على حد علمي لم يبرر مشروعه بأي دراسة جدوى علمية متاحة، لكي يتم تناوله بالدراسة والنقد؛ غاية ما هنالك تصريحات متفرقة هنا وهناك والفريق مميش، الذي صار يحاكي رئيسه السيسي، فصار طبيباً وفيلسوفاً ومنظراً اقتصادياً، أنشأ يفتي ويطرح الأرقام وتوقعاته بالنسبة لحركة الأسواق والنمو الاقتصادي العالمي، التي ارتفع بها إلى الضعف في غضون العقد المقبل.. عسى الله أن يكرمه ويسمع منه… ولا يشرح لنا على سبيل المثال، كيف أن القناة التي يبشرنا بأنها ستتسع لمرور97 سفينة عام 2023 لم يمر بها سوى 59 سفينة في عام 2008، إحدى أكثر السنوات انتعاشاً قبيل الانهيار الاقتصادي؟ ببساطة يجوز أن القناة صارت أوسع، ولكن من المستفيد من هذا الوسع؟
في يقيني أن هذا الطرح، الموضوعي جداً، ليس مربط الفرس في كل هذا المهرجان الذي نعيشه الآن، والمرشح لأن يستمر ويصبح لعنةً يعذبنا بها النظام وإعلامه صباحاً ومساءً، وذلك ينطبق أيضاً على محاولاتهم الجادة إيجاد أي جدوى، من عينة تعديل الاتفاقية مع «ميرسك» عملاق النقل البحري… الغرض من هذا المشروع يتحقق بالفعل يوم الافتتاح وتدشين الممر المائي الجديد… الغرض هو الرمز، رمزية الإنجاز الضخم والأسطوري الذي يملأ السمع والأبصار، فيثبت الحضور والمشروعية والمقدرة، خاصةً أن ثمة إدراكا (ربما يكون غامضاً لنظامٍ لا رؤية واضحة لديه) بأن القبضة الأمنية الفولاذية وحدها لا تكفي ولا تشرعن. مازال النظام يتحسس رأسه ويتلفت وراءه، فشبح الدبابة التي جاء على ظهرها وتعيره بها بعض القوى السياسية، خاصة الخارجية، لم يتباعد بعد عن الصورة… لقد ثبت لكل الحالمين والواهمين، أن النظام ما هو إلا استنساخ من نظام مبارك، من حيث الانحياز الاجتماعي، مع فارق منح المؤسسة العسكرية حصةً أكبر من الكعكة… لعبة كراسي متحركة… وكأي استنساخٍ ولد شائخا، فهو فقير الخيال من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى، ولأنه نظامٌ معادٍ للثورة من حيث المضمون، وجاء انقلاباً على أهدافها فهو لا يستطيع تحمل تكلفة تغيير جذري، يضرب مصالح الطبقة التي جاء معبراً عنها، ناهيك عن كونه لا يريد ذلك.
محنة النظام ومأزقه كما هما، لم يتغيرا…عملية سياسية ديمقراطية بما تشمله من حقوق سياسية وانتخابات وتداول سلطة ومراقبة، بالإضافة إلى تنمية وعدالة اجتماعية … النظام، للأسف مازال غارقاً في خيارات مبارك ورهاناته، ولم يقدم أي طرحٍ واقعي يشير إلى وجود أي رؤية لكيفية حل مشاكله العالقة والمزمنة، وإعادة ابتكار دور لمصر في محيطٍ إقليمي وعالمي تتغير الأوزان وعلاقات القوى فيه، وبالتالي دور مصر أيضاً فيه؛ مثال ٌعلى ذلك ما أشار إليه د. مصطفى اللباد في جريدة «السفير» من تضاؤل قيمة قناة السويس الاستراتيجية بالنسبة لأمريكا، في طور ما بعد الاتفاق مع إيران وتباعد احتمالات المواجهات العسكرية. غريبٌ جداً أمر الحكام الديكتاتوريين… مهوسون بالإنجازات الضخمة…»جنون العظمة»: هذا توصيف علم النفس الحديث… كأنهم يودون عن طريق كتل الإسمنت والخراسانة والفولاذ ترسيخ سرديتهم ووجهة نظرهم للتاريخ والمستقبل، والأهم من ذلك دورهم المحوري والخالد فيه… الطاغية يرفض أن يموت ويُنسى اسمه… فعلها القدماء في زمن الملوك الآلهة، في زمن كانت بنيته الاجتماعية والفكرية تتحمل وتتقبل ذلك، وترك بعضهم آثاراً جميلة. أما المعاصرون، فقد فعلوا ما فعلوا ضد حركة التاريخ، فذهب جميعهم بلا استثناء تقريباً إلى خرائب التاريخ مع تماثيلهم العملاقة، ولعل أقربهم إلى الذهن ستالين.. ولكن اللاحقين لا يتعلمون.
فقط ما ينفع الناس يبقى، كالسد العالي، وهذا جاء بعد دراسة، ولا أعتقد أن الغرض الأساسي منه كان الزعامة، وإنما جاءت تلك نتيجة للمواجهة التي ترتبت على التصميم على تنفيذه، ولذلك قصة أخرى… كل عمل وإنجاز لا بد أن يتسق مع زمنه ويلبي احتياجه، وإلا صار مسخاً وعبثاً، وربما انتهى به المصير إلى مزحة… الأهرامات مثلت شيئاً مثقلاً بالمعنى في زمنها، أما إذا أقدم مهوسٌ على تشييد أحدها بالمال العام الآن فلا بد أن يحاكم بتهمة التبديد. «أعطهم أي شيء ليفرحوا به»: كأني بمسؤولي الدولة وإعلامهم المشبوه والمنحاز يتبادلون هذه الكلمات، وعليّ أن أعترف بأن هذه الزفة المزمعة وما يصاحبها من تطبيل الإعلام وما سينفق عليها في بلدٍ مفقرٍ مدين تصيبني بنفورٍ شديد؛ ناهيك عما تستحضره محاكاة الافتتاح الأول على يد الخديوي إسماعيل من مصائر…
أحدهم، سامحه الله، أدخل في ذهن رؤسائنا أن كل «زعيم» لا بد له من مشروعٍ قومي، وعلى خلفية «عقدة عبد الناصر» حرص كلٌ منهم على تخليد اسمه… نزفت مصر ملياراتٍ في مشروع توشكي… طبلنا ورقصنا ودخنا سجائر توشكي، وإني لأتمنى أن ينبئني أحد المسؤولين بمصـــــير هذا المشــــروع القومي… هل تبقى منه شيء؟ أرجوألا يعيد التاريخ نفسه في غيمةٍ من السخرية السوداء وأن تخرج القناة الجديدة من حيز الرمز إلى خانة الجدوى.
٭ كاتب مصري
د. يحيى مصطفى كامل
بسم الله الرحمن الرحيم
أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) الرعد
الانقلاب زبد لا ينفع الناس ولهذا فهو زائل باذن الله
ولا حول ولا قوة الا بالله
تحية للكاتب المحترم
قالها مبارك ( خليهم يتسلوا )
واليوم يقولها خليفته ( خليهم يفرحوا )
ومبروك الفنكوش
ليه الانفاق ببذخ اسطوري كما يقولون الم يكن من الاحق والاوفق ان يقال ان الشعب المصري ياذن بتشغيا القناه وهو الذي مول ووجه امواله بهدف توسيع القناه وليس تمجيد السيسي