المفارقة الأولى، الدراماتيكية حقاً، كانت أنّ التلفزة الإيرانية الرسمية نقلت، على الهواء مباشرة، خطبة رئيس «الشيطان الأكبر»، باراك أوباما، من سدّة الجامعة الأمريكية في واشنطن، قبل يومين. صحيح أنّ الأمر قد ينقلب إلى عادة (تطبيعية، ربما)، بعد أن سبق للتلفزة ذاتها أن نقلت إعلان أوباما عن التوصل إلى اتفاق فيينا، ومرافعة وزير الخارجية الأمريكي جون كيري أمام الكونغرس؛ إلا أنّ نقل هذه الخطبة بالذات، بما كانت تنبيء به من مناورات «الشيطان» إياه لخطب ودّ إسرائيل، أسوة بمعارضي الاتفاق في الكونغرس، كانت بالفعل قفزة كبرى… لا عزاء، فيها، لكبار ممثّلي محاور «الممانعة».
وبمعزل عن أقدار الاتفاق النووي، وما إذا كان معارضوه في الكونغرس سوف يتمكنون من بلوغ تصويت الرفض المأمول؛ فإنّ هذا «الولع» الإيراني بخُطَب إدارة أوباما ينمّ، من حيث المؤشرات الأولى على الأقلّ، عن مسعى إيراني لاستئناف علاقات أفضل مع الولايات المتحدة، وربما تطويرها على قاعدة توافقات ـ بل شراكات، لم لا! ـ في ملفات أخرى كثيرة، تتجاوز النووي إلى مسائل جيو ـ سياسية إقليمية أو دولية شائكة. وكان أوباما، للإنصاف هنا، قد اجترح مبادرة عُدّت دراماتيكية بدورها، في ربيع العام 2009؛ حين هنأ الشعب الإيراني بالسنة الجديدة الفارسية، على نحو كان في الواقع يستحثّ الدراما: اختيار الصيغة المتلفزة، والترجمة المتزامنة إلى اللغة الفارسية أسفل الصورة، والبثّ عبر إذاعة صوت أمريكا… وتلك كانت انعطافة فارقة عن خطّ الإدارة السابقة، بعيداً عن خطاب المحافظين الجدد بصدد إيران إجمالاً، ونظرية «محور الشرّ» التي اعتمدها الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن بصفة خاصة. أمّا من حيث الجوهر، أي سلسلة الخيارات الستراتيجية التي ورثها أوباما من سلفه وتمسك بها، وظلّ بعضها في حكم «الثوابت» الراسخة، فإنّ المبادرة راوحت في المكان، قبل أن تُجهز عليها الأحداث العاصفة اللاحقة. ومع ذلك كله، كانت مبادرة أوباما تَعِدُ بفتح صفحة جديدة مع «حضارة عظيمة»، لشعب «كان فنّه، وموسيقاه، وأدبه، وابتكاره قد جعلت العالم مكاناً أفضل وأجمل»، كما جاء في رسالة التهنئة.
في السجلّ ذاته، أيضاً، تُستعاد مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية في ولاية بيل كلينتون الثانية، وأوّل امرأة تتولى هذه الحقيبة في تاريخ أمريكا؛ التي دعت إلى رسم «خريطة طريق» للعلاقات الأمريكية ـ الإيرانية، واعدة بالخير إذا أحسن الإيرانيون قراءة ما حمّلته عليها الإدارة من تفاصيل طبوغرافية (بحار وأنهار، وديان وتلال، دروب مستقيمة وأخرى متعرّجة… كما للمرء أن يتخيّل). وفي كلمة ألقتها أثناء اجتماع نظّمته الجمعية الآسيوية، وليس في مؤتمر صحافي أو اجتماع سياسي رسمي، قالت أولبرايت: «واضح أنّ عقدَين من انعدام الثقة لا يمكن محوهما في ليلة وضحاها. الهوّة بيننا ما تزال واسعة. ولكن الوقت قد حان لاختبار إمكانيات جسر الهوّة». العقدان صارا ثلاثة ونيف، وبدل أن تنجسر الهوّة فإنها ازدادت اتساعاً، والخريطة التي يمكن أن تُرسم اليوم تحتوي على عناصر جديدة متفجرة (برنامج إيران النووي، سوريا، العراق، اليمن…) لم تكن نافرة على سطح خريطة 1998. لم يكن العراق مستنقع كوابيس للقوّات الأمريكية المحتلة، ومنبع استيلاد أوراق قوّة تكتيكية وستراتيجية لإيران؛ ولم يكن مصير النظام السوري معادلة إيرانية داخلية، سياسية وأمنية ومذهبية واقتصادية؛ ولم تكن الحركة الحوثية أكثر من باحة مناورات مذهبية لبعض غلاة آيات الله في قم. كذلك لم يكن محمود أحمدي نجاد (صاحب التصميم على «محو» إسرائيل من الخريطة، واليقين بأنّ الإمام المهدي يدير العالم) هو رئيس إيران. و، بالطبع وقبلئذ، كان في سدّة الرئاسة معتدل استثنائي اسمه محمد خاتمي.
وفي تلك الحقبة أجرى خاتمي حواراً مع شبكة الـ CNN بدا دراماتيكياً ـ هنا أيضاً، وربما أكثر من رسالة التهنئة المتلفزة التي وجهها أوباما، وأكثر من ولع التلفزة الإيرانية بنقل خطابات سيد البيت الأبيض ـ إذْ كان الأوّل من نوعه، وفي محتواه ومستواه، منذ انتصار الثورة الإسلامية سنة 1979. يومذاك، احتوى حديث خاتمي على رسائل سياسية ـ عقائدية معنونة إلى الداخل (وكان هذا النوع من المخاطبة، بصدد «الشيطان الأكبر» دائماً، يتوخى ما يشبه العلاج بالصدمة)؛ ثمّ إلى العالم بأسره، وإلى الولايات المتحدة خاصة. وكان خاتمي أشدّ ذكاء وحصافة من أن يصرف نصف ساعة في مديح «الأمّة الأمريكية العظيمة»، ودقائق معدودات فقط في ملامة القيادات الأمريكية، ويعتبر هذه الحصيلة رسالة «اعتدال» هادفة إلى فتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين. لقد كان، في واقع الأمر، يمارس مزيجاً من التسليم والنقد الذاتي، حين اعتبر أنّ السطور الأولى في تلك الصفحة المقبلة لن تكتبها مبادرة دبلوماسية من أي نوع، بل قد يدشنها «أساتذة الجامعات والكتّاب والعلماء والفنانون والصحافيون والسيّاح»، كما اقترح، ربما على غرار المعجزة التي اجترحتها كرة الـ«بنغ بونغ» في العلاقات الصينية ـ الأمريكية ذات يوم.
وفي جزء مدهش من تلك المقابلة قال خاتمي، على غرار ما سيقول أوباما بعد 11 سنة: «الحضارة الأمريكية جديرة بالاحترام. وحين نثمّن جذور هذه الحضارة، فإنّ مغزاها يصبح واضحاً أكثر. وكما تعلمين [مخاطباً الصحافية كريستيان أمانبور، ذات الأصول الإيرانية]، هنالك في بليموث، ماساشوستس، صخرة يحترمها كلّ الأمريكيين ويبجلونها. إن سرّ الحضارة الأمريكية يكمن في هذه الصخرة. ففي مطلع القرن السابع عشر رسى على هذه الصخرة 125 من الرجال والنساء والأطفال الذين غادروا إنكلترا بحثاً عن أرض بكر يقيمون عليها حضارة متفوقة. والسبب في احترام الأمريكيين لهذه الصخرة هو أنها كانت أوّل يابسة رسى عليها الحجّاج الطهوريون». ولم يكن خاتمي يتحدث عن شيء آخر سوى «الحلم الأمريكي» إياه، ذلك المفهوم الصوفي السحري الذي يسير على ألسنة الساسة الأمريكيين في كلّ موسم انتخابي، أو كلما تعيّن على واحدهم أن يدغدغ أنفة الأمريكي أو غطرسته الموروثة. وعلى نقيض ما رأى خاتمي، فإنّ التاريخ الأمريكي يقول أشياء أخرى عن تلك الصخرة وأولئك الحجاج، ويسجّل للحلم قيامه على الطهورية في البدء فقط، ثمّ نهوضه بعدئذ على شهوات لاطهورية، دنيوية صرفة: الفتح، التوسع، الهيمنة، الأسواق، الاستثمار، التراكم، وما إلى هذه من أخلاقيات رأسمالية… هذا، مع ذلك، موضوع آخر.
البعض، إذْ يراجع المشهد المعقد الذي يكتنف الحوار الإيراني ـ الأمريكي في طوره الراهن، يرى أنّ هنالك الكثير من الصخور التي سوف تتكفّل بتحويل مبادرة أوباما ـ ومعها ولع التلفزة الإيرانية بنقل خطاباته إلى الأمّة؛ وضحكة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، العريضة دائماً؛ واستبشار الرئيس الإيراني، ضدّ استشراس أمثال علي أكبر ولايتي ومتشددي «الحرس الثوري» ورجالات خامنئي… ـ إلى خيار معطَّل، إذا لم يكن قد وُلد موؤداً أصلاً. إلى هذا وذاك، ثمة في واشنطن نساء ورجال صنعوا ذات يوم، ويحلمون الآن أيضاً، باستئناف مبدأ «الاحتواء المزدوج» القديم، الذي كان يخصّ إيران والعراق، وصار اليوم يشمل نصف بلدان الشرق الأوسط، من لبنان وسوريا والعراق واليمن والسعودية ومصر وليبيا، إلى تركيا وإسرائيل وإيران ذاتها.
«إنهم يبيعون الفانتازيا»، قال أوباما، في اتهام رافضي الاتفاق النووي. فماذا، في ملفّ تطوير العلاقات الأمريكية ـ الإيرانية، ينوي أن يبيع هو، وشريكه حسن روحاني؟
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
صبحي حديدي
العلاقات الايرانية الأمريكية مفهومة
ولكن العلاقات الايرانية العمانية غير مفهومة !
وما هي مصلحة عمان في الوساطة بين ايران والأمريكان
هل هي مصالح اقتصادية فقط كما هو معلن أم تتعدى ذلك لأمور عقائدية
ولا حول ولا قوة الا بالله
على جثث العرب واشلائهم تعقد المصالحات وتشرب الانخاب وتنفذ الصفقات فمتى تنتهي من فوضاك يا امة العرب.اما ان لليلك الطويل ان ينجلي.