البرابرة والبربر

تتكرر بعض الكلمات على مسمع المرء كل يوم معتبرا إياها من المسلمات وبدون أن يفكر بأصولها ومن هذه الكلمات كلمة البرابرة.
فمن هم البرابرة ومن أين أتت هذه الكلمة؟ تطلق كلمة البرابرة بشكل عام على من هم يعتبرون غير متحضرين، والذين تمتاز تصرفاتهم بالوحشية والجهل والقبلية، وأصل الكلمة إغريقي (يوناني قديم) فقد أتت من كلمة بارباروس الأغريقية، التي كانت تعني آنذاك الشخص الذي يتكلم لغة غير مفهومة لليونانيين، أي غير اللغة اليونانية، وهو طبعا شخص أجنبي، وكل من لم يتكلم اليونانية، حسب الإغريق آنذاك، كان شخصا متخلفا ولا أمل في إصلاحه، فهو همجي بالفطرة. وقد شمل هذا الوصف حتى سكان وادي الرافدين الذين سبقوا اليونانيين في الحضارة واقتبس منهم اليونانيون الكثير، وكذلك سكان شمال أفريقيا والشرق الأوسط. فبالنسبة لليونانيين آنذاك كل أجنبي هو همجي ومتخلف، أي من البرابرة. والكلمة بالطبع مهينة واستعملت للحط من قيمة الآخرين، وقد أضاف إليها سكان أثينا، الذين اعتبروا أنفسهم أرقى اليونانيين، باتهام بقية اليونانيين بكونهم برابرة. ويخص اليونانيون في الاتهام من يدخل معهم حربا، حتى إن كان أكثر تحضرا منهم.
ولم يكن الفلاسفة اليونانيون أفضل من عامة الناس في هذا المضمار، فأفلاطون كرر ما قاله عامة اليونانيين وجعله جزأ من فلسفته. وأرسطو الذي لم يخجل من القول بأن البرابرة (أي الأجانب) عبيد بالفطرة، وبهذا فإننا نرى أن العنصرية تحولت من اعتقاد شعبي يوناني إلى جزء من الفلسفة اليونانية التي تعتبر أصل الفلسفة في العالم. وكان العبيد في أثينا من البرابرة (حسب التعريف اليوناني) وبالمناسبة فإن اعداد العبيد في اليونان بشكل عام وأثينا بشكل خاص ازدادت إلى درجة أن كل عائلة في أثينا كان لديها عبيد، إلا إذا كانت في فقر مدقع بمقاييس ذلك الوقت، بل أن البعض يعتقد أنهم فاقوا سكان أثينا عددا وبشكل خاص من ناحية عدد النساء، ومما هو جدير بالذكر أن العبيد كانوا يعملون تحت ظروف غير إنسانية على الإطلاق، خاصة في المناجم. ومما هو جدير بالذكر فإن الكثير من المصنوعات الأغريقية كانت في الواقع من صنع العبيد «البرابرة». وطبعا فإننا نجد الكلمة أيضا في الأدب اليوناني القديم مثل الإلياذة وخطب ديموسثينيس (384 ق.م 322 ق.م) الخطيب والسياسي اليوناني الشهير الذي يعتبر من علامات الثقافة اليونانية. وبالمناسبة فإن اسم «بربارة» المنتشر حاليا في الغرب يعني المرأة البربرية، وهو في الأصل اسم مهين إلا أن هنالك قصة مثيرة للاهتمام حوله، لأن الاسم الحالي يستعمل تيمنا باسم القديسة بربارة، التي تقول القصة إنها كانت ابنة عائلة رومانية ثرية، ويعتقد بعض المؤرخين أن القصة غير حقيقية. وقد اقتبست بقية اللغات الأوروبية كلمة البرابرة لاحقا، حيث دخلت اللغة الإنكليزية في القرن السادس عشر وقام الفيلسوف الفرنسي الشهير ميشيل دي موتين (1533 1592) باستعمال الكلمة عام 1580 في وصفه للمستعمرين الإسبان في أمريكا الجنوبية بالبرابرة، نظرا لوحشيتهم وقسوتهم البالغة تجاه السكان المحليين، على الرغم من أن المستعمرين الإسبان كان يفترض أن يكونوا أكثر تحضرا من أن يرتكبوا مثل هذه الوحشية.
ونعود إلى اليونانيين القدماء ومن بعدهم الرومان الذين اقتبسوا الحضارة اليونانية بأغلبية مميزاتها، ومنها كلمة البرابرة ليصفوا بها كل من حاربهم وعاداهم، حتى أن الفيلسوف والسياسي الروماني الأشهر شيشرون (106 ق.م 43 ق.م) كان يسمي سكان المنطقة الجبلية في سردينيا بالبرابرة، لكثرة الخارجين عن القانون فيها، وأصبح الاسم مترسخا في هذه المنطقة، إلى درجة أن اسمها الحالي هو بارباجيا ويُقدم سكان المنطقة أنفسهم بأنهم بارباجيين، من دون أن يعتبروا هذا تحقيرا لهم. ولكن أكثر المتهمين باسم البرابرة من قبل الرومان كانوا القبائل المتمركزة في شمال الإمبراطورية الرومانية وبشكل خاص القبائل الألمانية وأشهرها هي قبائل الفاندال الألمانية، التي أتت من شرق ألمانيا، والتي كان اسمها مصدر فعل vandalise في اللغة الإنكليزية، الذي يعني «يخرب بشكل عشوائي» فقد اشتهرت هذه القبائل ببأسها وعنفها، وفي الحقيقة أنها لم تكن بالتخلف الذي صوره الرومان ومن يدرس تاريخها يلاحظ ذلك ببساطة. وقد دخلت هذه القبائل إسبانيا عام 409، ومن اسمها اقتبس اسم الأندلس، ثم اجتازت مضيق جبل طارق عام 429 لتدخل في حلف مع القائد الروماني الغربي (فقد كانت هناك امبراطوريتان رومانيتان، إحداهما غربية وعاصمتها روما والأخرى شرقية وعاصمتها القسطنطينية) الذي كان يحكم شمال أفريقيا، إلا أن خلافا نشب بينهما ودخلا في صراع دموي كانت نتيجته إقامة دولة للفاندال في تونس وشرق الجزائر، وبلغوا من القوة أنهم نجحوا في اقتحام روما نفسها ونهبها عام 455، إلا أن صراعهم المستمر مع الامبراطوريتين الرومانيتين انهكهم، وبدأ الضعف يظهر في قدراتهم العسكرية حتى انتصر عليهم الرومان الشرقيون عام 533 لتنتهي دولتهم، وقام الرومان الشرقيون بتأسيس خمس كتائب منهم، تمركزت على الحدود الرومانية الشرقية ـ الفارسية، بينما بقي من تبقى منهم في تونس والجزائر، وقد وصفهم المؤرخ الروماني الشرقي بركوبيوس بأنهم كانوا طوال القامة وجميلي الشكل.
دخل العرب أفريقيا عام 639 ولم تكن لديهم خبرة بالمنطقة وسكانها فاستعملوا اسم البربر اقتباسا من التسمية الرومانية، لأن الرومان كانوا يسمون جميع سكان أفريقيا بالبرابرة، وكانت النتيجة «البربر» وشملوا بهذه التسمية كل شمال أفريقيا، وبعض المناطق الواقعة إلى جنوبه مثل الصومال، إلا أن العرب وعلى عكس اليونانيين والرومان لم يقصدوا إهانة السكان، فاسم البربر كان يقصد به سكان شمال أفريقيا من غير العرب، وتكلم المؤرخون العرب عن البربر الشقر وذوي العيون الزرقاء الذين امتازوا بالشجاعة والشراسة، مما يعطي الانطباع بأنهم كانوا يتكلمون عن بقايا الفاندال في شمال أفريقيا، وبعد انتهاء الفتوحات الإسلامية، كانت أغلى الجواري هي الجارية البربرية الشقراء لجمالها. وبالمناسبة فإن القائد الشهير طارق بن زياد (670 720) الذي قاد أول حملة عربية لفتح إسبانيا عام 711 كان على الأغلب عربيا وذلك بسبب اسمه العربي ومركزه المرموق في الجيش الأموي، بينما كان البربر لا يزالون حديثي العهد نسبيا في الانضمام إلى الجيش الأموي ومن غير المحتمل أن يصلوا إلى مثل هذه المناصب المرموقة بهذه السرعة، على الرغم من شجاعتهم المعروفة، أما القصص حول أصله فقد كتبت بعد 400 سنة من وفاته، ولذلك فإنه من غير الممكن الاعتماد عليها، إلا أن هذا لا يلغي احتمال كونه أيضا من الفاندال أو السكان المحليين. وكان طارق بن زياد صاحب المقولة الشهيرة «العدو أمامكم والبحر وراءكم، فأين المفر»، بعد أن قام بحرق السفن التي جاء على متنها، وعلى الأغلب أنه لم يكن صاحب المقولة، فالقائد المحنك لا يحرق سفنه ويفكر دائما في انقاذ جيشه عند الحاجة. وهناك أيضا عبدالرحمن الداخل (731 788)، مؤسس الدولة الأموية في الأندلس، الذي وصف بأنه كان أشقر وابيض البشرة على أساس أن والدته كانت بربرية، إلا أن هذا الوصف إن دل على شيء فإنما يدل على أن والدته كانت من الفاندال على الأرجح.
وتنتمي اللغات البربرية التي تسمى حاليا الأمازيغية إلى عائلة لغوية متفرعة من العائلة اللغوية نفسها، التي تفرعت منها اللغات السامية والتي منها العربية والعبرية، ولا أحد يعرف أصل كلمة الأمازيغ، على الرغم من تعدد التفسيرات التي لا يمكن إثبات أي منها، ومن هذه التفسيرات، أن كلمة مشابهة للأمازيغ ذكرت من قبل الإغريق، ومن المحتمل أنها كانت اسما لقبيلة من شمال أفريقيا، إلا أن هذا ليس مؤكدا. ولا يوجد أي داع للانزعاج من اسم البربر، فلم يقصد العرب إهانة أحد. أما من اخترع الكلمة في الأصل فقد كان الإغريق كما سبق ذكره. ومما هو جدير بالذكر أن كلمة slave التي تعني العبد في اللغتين الإنكليزية والألمانية، كانت قد أتت من اسم الشعوب السلافية التي تشمل أغلبية سكان شرق أوروبا وروسيا، وهم بالغو الاعتزاز بهذا الاسم رغم ذلك.

كاتب عراقي

زيد خلدون جميل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول بلغماري:

    طارق ابن زياد ينتمي الى قبيله. ولهاصه الامازيغي وحاليا يوجد قريه تحمل اسم ولهاصه وكان طارق ابن زياد ابيض وصاحب لخيه حمراء ووو

  2. يقول حميد:

    شكرا جزيلا لكم

  3. يقول يوسف:

    البربر الشقر وجدو قبل الوندال والدليل في جداريات الصحراء الكبرى ورسومات الفراعنة لليبيين في عهد رمسيس

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية