قل لي ما تسمع أقل لك من أنت

حجم الخط
3

وسط الحراك السياسي والاجتماعي العربي أين تقف الموسيقى وما دورها الحالي والمقبل؟
كيف يمكن أن تعيد الموسيقى حضورها بعد أن أصبح الاهتمام بالثقافة ثانوياً؟
هل تحتمل شعوبنا وسط الموت والحروب والتهجير والنزوح شيئاً من الموسيقى؟
أسئلة كثيرة تشغلني ومعي ربما كل العاملين في مجال الإبداع، لا فقط الموسيقي.
كلنا يعرف أن الفنون سريعة الضرر في الأزمات، وأيضاً آخر ما يتم تصليحه هو عالم الجمال، كونه يحتاج بيئة طبيعية وآمنة وصحية ليتحرك ومن ثم لينتعش.
حسب تجربتي المتواضعة، نعم الموسيقى حاجة للإنسان في كل الأوقات، خاصة الحالكة منها، وربما تصبح أكثر ضرورة في الظروف الصعبة، كونها تلعب أكثر من دور في آن، فهي لترميم الروح ورفعها، وعلاج النفس، ومتعة السمع والفكر، ومساحة للإنسانية.
لكن كيف يمكن تقديمها في الأزمات؟ كما أن الخطاب الفكري والصحافي والسياسي يتغير في الأزمات والحروب والثورات والأحداث الاستثنائية، كذلك الخطاب الثقافي ومنه الموسيقى، يحتاج إلى تعديل وتبديل في التعبير واستنهاض القوة الخفية داخل المبدع تجاه القضايا المعقدة، والتعبير عنها بحرية وجرأة ليصل العمل الموسيقي ويصبح نتاج زمانه ومتناسقا مع إيقاع الحياة من حوله، هذا في جانب، أما الدور الأساسي للموسيقى فهو أن تبقى تُمارس دورها الطبيعي والمعتاد بنوع المؤلفات، كما في الظروف الطبيعية، لأنها يفترض أن تخرج المرء من ضغط الأحداث إلى منطقة كانت ذاكرته قد ألفتها ولها فيها صور وذكريات.
وهنا لا أقصد الغناء بل الموسيقى الآلية، كون الغناء يحتمل نصا من الممكن بسهولة أن يعبر عن مضمون الحدث.
من تجارب الحياة التي عشناها وكان أغلبها حروبا، منذُ الثمانينيّات وحتى اليوم في العراق تحديداً، وفي السنوات الخمس الماضية في دول عربية عديدة وفلسطين في حربها المقدسة والمتواصلة ضد الاحتلال الصهيوني منذ أكثر من خمسين عاماً، كانت الموسيقى حاضرة متى بحثت عنها، وحاضرة إذا بادر شخص لقيادتها وسرعان ما تجد عدداً من المؤلفين لديهم الاستعداد والرغبة والمقدرة على كتابة أعمال تتناول الراهن الذي يعايشونه، ولديهم الرغبة الكبيرة في التعبير عنه.
وتجارب العراق ومصر وفلسطين ولبنان وسوريا كلها، تناولتها تجارب الموسيقيين وكُتبت الأعمال الجيدة عنها من مواطنيها، أو من آخرين، لكن كون الموسيقى الآلية لها جمهور خاص لم يصل من ذلك النتاج إلا القليل للجماهير العريضة، عكس الأغنية التي بسهولة فهمها وخطابها تصل لشرائح أكبر من المجتمع.
في الأزمات والحروب، ووسط الموت عندما يصبح حاضرا في كل لحظة، تختلف طباع المتلقين، أو ربما تنزاح وربما تحتاج إلى دفعات موسيقية مختلفة. ففي يوم عادي قد يستيقظ أحدهم على صوت فيروز التي تفتح له الصباح وتحضر الشمس إلى وسادته وتوقظه، وقد يكون معتادا لسنوات طويلة على فيروز مع القهوة. في الحروب تختلف الحاجة أحيانا، يصبح صوت فيروز أكثر حنانا من اللحظة، فجأة نجد فيروز قد أصبحت في درج مقفل بإحكام، فيما احتلت مكانها الأثير موسيقى مختلفة تماما، تصبح فيروز حنينا قديما في مستودع الذاكرة، ويتردد الشخص نفسه مرات ومرات وهو يفكر بأن يفتح درج فيروز ويجلس معها في قهوة على المفرق، يقرأ فنجانها وينادي شادي البعيد.
عبر صفحات التواصل الاجتماعي كنت ألحظ هذا التغير في الأمزجة العامة لمحبي الموسيقى، لم تختلف الذائقة، لكن الطبع هو الذي اختلف، أو أن اللحظة هي التي فرضت الاختلاف. أحيانا يشعر المرء بأن هناك موسيقى على رقيها لا تليق بالموت، وهذا الشعور يأتي من التربية، وهو شعور لو حاولنا أن نفهمه ونعالجه لاكتشفنا أن على الأشخاص الذين يحبون صوت عمل موسيقي ما في الصباح أو في وقت معين ومحدد، يصرون على العمل نفسه في أوقات الأزمات، ولكن كنوع من التأزيم الذاتي والاستغراق أكثر. في غياهب الموت نخبئ ما نحب في الدرج ونخاف أن نفتحه لا لأننا لا نريد، بل ربما لأن لحظتنا معها قد يعكر صفوها متلصص ما، يرى أن الموت يحيط بِنَا في ما نحن مستغرقون بلحظات السماع، لأن الحالة قد لا تسمح بذلك، لكن روحك تُلِّح بشوق للعمل نفسه.
أظن أن خوفنا من الآخر، خوفنا من أن نُفهم بشكل خاطئ هو الذي يحكم أدراج الموسيقى في حياتنا. هذا الخوف أيضا هو الحاجز الذي نضعه كل صباح بيننا وبين ما نريد ليومنا أن يمضي وفقه.
في صفحات التواصل الاجتماعي تراجعت أنواع كثيرة من الموسيقى وحلت محلها أنواع أخرى، جاءت موسيقى مختلفة راقية أيضا، لكنها تصلح للمتلصصين وتصلح كي نفتح صفحاتنا أمام الضيوف، قد يكون مزاجك أن تضع عملاً موسيقياً عظيماً، ولكن خوفك من رد فعل أصدقائك على الإنترنت يدفعك لوضع عمل آخر يناسب الحدث العام ولكنه لا يشبه رغبتك أو ذوقك أو ما تحب في تلك اللحظة.
أدعوكم للبحث عما يشبهكم من الموسيقى وتبنيها، ووضع برنامج لسماعها، واجعلوا الموسيقى تمثلكم أمام أصدقائكم عندما تنشرون شيئاً منها، لأنها تصبح أحياناً مرآة عاكسة للروح الصافية المتصالحة مع الجسد الذي يحملها والعقل الذي يحركها.
وقل لي ما تسمع أقل لك من أنت.

موسيقي عراقي

نصير شمه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول د. خليل كتانة- قائد كتائب مثقفي الشعراوية-طول كرم- فلسطين:

    أسمع موسيقى الارغول ( اليرغول) للعازف ابو هشام السويطي ، والعود للفنان موسى الحافظ. فهل أكون فلسطيني ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ عنيد……………؟؟؟؟؟؟؟؟؟

  2. يقول Juhaina /global:

    في جاهليتى قبل ان اعتنق الاسلام تعاملت مع كل انواع الفنون من موسيقى وغناء ومسرح وسينما وشعر ورواية ونتثر وقصة ولاافتخر بهذا الان وانما فقط لابين لك اننى مررت بهذا كله واتكلم عن تجربة وليس تنظيرا وسفسطة واعرفك يانصير منذ كنت في الاعدادية في حي اور وكنت تتلمذ على يد منير بشير الموصلى الذى تامر عليك غيرة منك
    الان انا اسمع القران فتهتز اوتار قلبى وانشج كالخنساء وتسموا روحى كرابعة (التى سمى مسجد رابعة الذى قتل فيه السي سي المسلمين واستباحه تيمنا باسمها) وافرح كملائكة السماء حينما تقبض روح مؤمن واحزن كما يحزن (الذين بوتون مااتوا وقلوبهم وجلة انهم الى ربهم راجعون)
    فمن انا ؟؟؟
    اتحدى كل موسقيي العالم ان يشعروا بلذة واحدة من مئة مثلما يشعر قارئ القران المتدبر
    اسمع القران فهو يتلى بمزامير السماء واشعر بالجمال السماوى
    اسمع المنشاوى او الحصرى او ولبد الدليمى او العجمى او ماشئت
    وساقول لك من انت
    تحية

  3. يقول الطيب تونس:

    الاستاذ شمة
    عشتسنوت طويلة في تونس ولكنك في هذاالمقال لم تعر ج على ذكرها رغم ان السياق يسمح بذلك
    لماذا هذا التناسي؟

إشترك في قائمتنا البريدية