عن البراءة من الإسلاميين والبراءة من الإسلام

حجم الخط
9

لفترة طويلة ظللت في حيرة من أمري وأنا أتأمل كثرة ما يرتكب من أخطاء وخطايا باسم الإسلام، من كثير ممن يسمون أنفسهم الإسلاميين أو الدعاة أو المجاهدين، أو نحو ذلك من تسميات. ذلك أن ما ينبغي أن يميز من يدعون خدمة الإسلام عن غيرهم هو الالتزام المعلن، والمتشدد أحياناً، بما يرونه تعاليم الدين. ولهذا السبب، ينتقدون مخالفيهم، بل يحاربونهم، بحجة ضعف تمسك المخالفين بالدين أو إعراضهم عنه. وهذا يعني بالضرورة أن يكونوا أكثر تمسكاً بهذه المبادئ والقيم، لا أن يكونوا أقل التزاماً بمبادئ الرحمة والصدق والكرم ممن لا يدينون دين الحق.
والسؤال المحوري لا يتركز فقط على هذا التناقض، بل كذلك لتواتره من جماعات عديدة، تختلف فيما بينها، ولكنها تتفق على أولوية تعاليم الدين، حتى لتوشك دعوى الالتزام بالدين أن تتلازم مع الممارسات المستنكرة، مما قد يعطي الحجة بأن العلة في الدين نفسه. ولا عبرة هنا بالاحتجاج بأن غالبية من يأتون المنكرات غير صادقين في دعواهم، لأن كثيرين منهم متمسكون بمعتقداتهم لدرجة الهوس والتطرف، ولحد التضحية بالحياة كلها من أجل تلك المعتقدات.
وهذا يطرح سؤالاً لا يقل محورية: ألا يكون هؤلاء، إن صدقوا في دعواهم، مستحقين للهداية بحسب الوعد السماوي: «والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا؛ وإن الله لمع المحسنين»؟ فلماذا إذن يظهر أدعياء الإيمان والجهاد في صورة أبشع من كثير من غير المؤمنين؟ أليس من يعمر غالب منظمات البر والإحسان وإغاثة الملهوف من غير المتدينين، بل من غير المؤمنين أصلاً، بينما شهرة أدعياء الجهاد هي القسوة والفساد في الأرض؟
ثم لماذا يقتتل أدعياء الهداية فيما بينهم حتى يكادوا يتفانون، وتتقد بينهم العداوة البغضاء، بينما كل طرف يدعي وصلاً بليلى التقوى والتدين؟ أليس هذا دليلاً على أن جميعهم في ضلال مبين؟
كل هذه أسئلة وتساؤلات تذر الحليم حيرانا، ويرى فيها البعض تبريراً لإدانة شاملة وقاطعة لكل الحركات والتيارات التي تسعى لترجمة تعاليم الإسلام إلى واقع، بل ربما إدانة الإسلام نفسه. فما لم يقدم المعارضون للحركات الإسلامية ترجمة ذات مصداقية لهذه التعاليم، فإن إدانة بقية «المترجمين» لا تكفي، إلا إذا كان رأينا أن النص المزمع ترجمته هو مصدر الخلل. وقد بدأت قطاعات متزايدة من أهل الرأي تذهب هذا المذهب، وتجهر بقولها إن العلة في الإسلام نفسه. وهذا أيضاً موقف ضمني من عديد من الحكومات التي تحظر كل الحركات الإسلامية، فكأنها تقول إن كل محاولة لإيجاد صيغة إسلامية تجديدية قابلة للتطبيق سيكون ضررها أكثر من نفعها.
ويجب أن نتذكر بداية أن هذه الإدانات للإسلام ليست جديدة، منذ صدور فتوى من يهود يثرب تقول بأن كفار قريش أهدى سبيلاً من محمد وصحبه، بحجة أن المسلمين خالفوا القيم الإنسانية المتعارف عليها، وقطعوا الرحم وهددوا الاستقرار. ولا يعني هذا مقارنة الإسلاميين بسلف المسلمين الصالح، خاصة وأن جرائم كثير من هؤلاء ومنكراتهم مثبتة وظاهرة للعيان. ولسنا هنا في مقام الدفاع عنهم، بل تفسير حالهم في ظل التوقعات بأن يكونوا حراس الخير والفضيلة.
والمبتدأ والمنتهى في أي تفسير من هذا النوع هو القرآن نفسه، حيث نجد استبق مثل هذه الإشكالات بالتحذير المستمر من علل التدين الفاسد والضال. فمن خاطبهم القرآن، لم يكونوا في الغالب الأعم من الملحدين المنكرين للدين، بل كانوا متمسكين بدياناتهم، سواء أكانوا مشركين أو أهل كتاب. ولهذا كانت الانتقادات القرآنية موجهة في غالبها لانحرافات التدين، بما في ذلك انحرافات وأخطاء الجيل الأول من المسلمين.
وفي الرواية القرآنية، نجد أن التاريخ الديني للبشرية مر بحقبتين، حقبة ما قبل موسى وما بعده. في الحقبة الأولى بداية من عهد نوح، نجد الرسل يرسلون إلى طائفة من بني آدم انحرفوا عن دين أبيهم، فيعاند أغلبهم، مما يؤدي إلى هلاكهم ونجاة المؤمنين. وما تلبث الأجيال اللاحقة أن تعود إلى الضلالة، ثم ترفض دعوة الرسل، فتهلك بدورها. في حقبة ما بعد موسى، تجسدت الدعوة في أمة واحدة حملتها، ولكنها نهجت نهج أسلافها، فعوقبت بعقوبات دون الإهلاك الكامل. فقد عبد بنو إسرائيل العجل وهم على مشارف الطور لموعد الله، وبعد أن شهدوا من المعجزات ما فيه عبرة لمن اعتبر. وعلى مدار التاريخ الديني، تواترت الانحرافات وتنوعت، وكثرت معاندة الرسل، بل قتلهم، حتى جاء عيسى فأخرج الرسالة إلى العالمية. وأخيراً جاءت الرسالة الإسلامية الخاتمة، ومن معجزاتها أنها ختمت الرسالات واقعاً لا نبوءة، حيث لم يأت رسول مصدق بعد محمد، ولم يعد أحد يتوقع مثل هذه الرسالة أو ينتظرها.
هذا الملخص يذكرنا بأن أمراض التدين قديمة، بينها الدين الإسلامي وكرر إداناتها بما يكفي لمن اعتبر. ولكن القرآن لم يوص باليأس من نجاح تجارب التدين مع تكرار فشلها وانحرافها، وإنما قدم بالمقابل نماذج فردية وجماعية للتدين الصحيح والخلاق، وأوصى: «أولئك الذين هدى الله، فبهداهم اقتده.» وهذه هي المهمة الأبدية على من يطلب رضا الله. فلا يعني أن كل أدعياء الهدى من المتنطعين من لدن الفريسين إلى الداعشيين قد ضلوا ضلالاً مبيناً التوقف عن المحاولة أو اليأس منها. فليس هناك طريق آخر. وعندما يتوقف الناس عن مساعي أحياء الدين، تكون تلك إشارة قيام الساعة.

٭ كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن

د. عبدالوهاب الأفندي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Abdou Aboyoussef Gold Coast, Australia.:

    السـيد الفاضل دكتـور عـبده الوهاب الأفـندي
    محـتـوايات هذه المـقالة في منتـهي الأهـمية في هذه الأيـام العـصـيبة.
    الـشارع الإسـلامي يـريد من أسـاتذتـنا الـكبـار مـعالـجة أكثر تعمقا و تـفـسيرا وإيضـاحا.

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    أمرنا الله عز وجل بتدبر آياته ، فقال سبحانه بعد بسن الله الرحمن الرحيم : ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) النساء/ 82 ، وقال عز وجل : ( أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ) المؤمنون/ 68 ، وقال عز وجل : ( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ) سورة ص/ 29 .

    والسؤال هو : من الذي سيتدبر القرآن العلماء أم الجهلة كداعش ؟

    ولا حول ولا قوة الا بالله

  3. يقول Hadib:

    ناسف لعدم النشر بسبب طول التعليق

  4. يقول محي الدين ح- الجزائر:

    إلى الكروي داود النرويج
    أي علماء تقصد؟ وهل العلماء الذين يدمرون أمم بفتاويهم الضالة المضلة بامكانهم تدبر آيات الله رغم حفظهم لكتابه؟
    داعش لم تقم إلا بما افتى به علماء الضلال والإضلال.إن العامة من الناس اليوم أكثر صدقاً وفهماً لدين الحق من علماء البترودولار الذين يدمرون الأمة بفتاوي جهاد المسلمين التي ابتدعوها، والتي سينالون نصيبهم من اثمها لا محالة

    1. يقول الكروي داود النرويج:

      حياك الله يا عزيزي محي الدين وحيا الله الجزائر وحيا الله الجميع
      العلماء الذين أقصدهم يا أخي غير الجهلاء الذين تقصدهم
      مع تحياتي ومحبتي واحترامي لك وللجميع

      ولا حول ولا قوة الا بالله

  5. يقول hadib:

    لله دَرُّك وثناء على الثدي الذي أرضعك يا الأفندي… فحديثك عن حقبتي سيدينا نوح وموسي جد عميق. وقد ذكرني بمعضلة كانت تجول بخاطري الا وهي تفصيل القرآن الكريم تسع آيات إلى فرعون وقومه. فالمتأمل في النص القرآني لا يخفي عليه أنه مختصر ولا يجنح للتفصيل المخل الذي تعمد له كتب اليهود المقدسة. فلماذا حرص المولي جلّ وعلا علي تفصيل ذكر هذه التسع آيات بالذات؟ وهي: عصا موسي التي انقلبت حيَّة، ويده التي خرجت من جيبه بيضاء، وأخذ آل فرعون بالسنين، ونقص من الأموال والأنفس والثَّمرات، الطوفان، والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدم. وقد عرفت الإجابة عندما علمت أن قانون الزوجية المذكور في الآية 36 من سورة يس ينطبق علي مجموعتنا الشمسية. إذ يقول بعض العلماء أن مجموعتنا الشمسية ثائية وتحتوي علي dwarf star أي شمس قزم أخري، تظهر حوالي كل 3600 سنة وقد ظهورت في عهد سيدنا نوح (قبل 7200 سنة وسببت الطوفان) وكان آخر ظهور لها في عهد فرعون موسي (قبل 3600 سنة) وأدت الي الإبتلآت التي تحدثت عنها الآية 133 من سورة الأعراف (فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين). بالمناسبة الماء يتحول الي لون الدم عندما يسقط عليه أكسيد الحديد. وأورد شريط فيديو يشرح هذه النظرية ورابط لمقالة علمية بعنوان Extinction of species by periodic comet showers نشرت في عام 1984 تتنبأ بأن علينا أن نرتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين في حدث كوني لسقوط شهب ونيازك (وبالمناسبة قد يفسر هذا الزلازال المتكررة ودرجات الحرارة العالية التي تجتاح العالم):
    https://www.youtube.com/watch?v=C-4xvYgpj94
    ||||

  6. يقول مروان الجزائر:

    البعض ينصب نفسه مفتيا…. ويدعو الى القتال فى سوريا وهو مرتاح فى اوروبا..كفانا متاجرة بالدين واللغة والهوية..

  7. يقول Slam adel:

    ابعدوا الدين عن تفاصيل حياتنا اليومية واجعلوه علاقة شخصية بين الانسان وخالقه والدليل على ذلك العدالة الاجتماعية التي تعيشها الدول العلمانية وما يعانيه المواطن في بلداننا من الم وجوع وظلم بسبب سيطرة رجال الدين على كل تفاصيل حياته

  8. يقول رضوان الشيخ - السويد:

    حياكم الله دكتور الأفندي

إشترك في قائمتنا البريدية