مصر: أثر عدم اعتدال الموازين والانتخابات البرلمانية على الأبواب!

الأغلبية العظمى المناصرة والمؤيدة لثورتي 25 كانون الثاني/يناير و30 حزيران/يونيو ما زالت مقرة باختلالات موازين القوى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.. وأغلب الإجراءات والقوانين الجديدة تصب في مجرى هذه الاختلالات.. ويرى كثيرون أن ذلك ليس طبيعيا بعد تضحيات باهظة تكبدتها جماهير الثورتين.. وهناك أسباب مخفية وأخرى معروفة لهذه الاختلالات.. نحاول معا أن نستكشف منها ما نستطيع لعل القوم يتنبهون إلى مخاطر دوامها واستمرارها.. هذا لا يعني أن الموازين ساكنة وثابتة، وأن ما كان قائما قبل اندلاع الثورتين هو نفسه الموجود حاليا؟.. والسكون والثبات ليسا من طبائع الحياة؛ خاصة أن هناك جهودا قائمة ومضنية على أصعدة كثيرة وفي مجالات عدة، ويبدو أنها لم تلمس بعد أساس هذه الاختلالات..
هذا الأساس هو النهج الذي اتبعته الدولة منذ عام 1974؛ المعروف بعام الانفتاح.. وانتهى إلى الأخذ بـ«العشوائية الاقتصادية»، وقد وصفها الراحل الكبير أحمد بهاء الدين بـ «السداح مداح»؛ خليط من الفوضى والمسارات المضادة والتشوهات غير المنطقية.. وكانت الدولة قبلها تُعرف بـ«دولة الرعاية المركزية».. وتقوم على استغلال وتوظيف الموارد الطبيعية والبشرية لتلبية احتياجات المواطنين والحد من الفوارق الاجتماعية والطبقية.. وهذه «العشوائية الاقتصادية» أدت إلى محاكاة «الليبرالية الجديدة» وتقليد المحافظين الجدد في أمريكا، والارتباط بالعمال الجدد «نيو ليبر» في بريطانيا، وهو ما التزم به «الرئيس الموازي» جمال مبارك مع طواقمه المصرية والأمريكية والمهجنة والمصهينة.
حصرت الدولة وظيفتها في الأمن والضبط والربط، و جباية الأموال، وتجفيف منابع الرعاية والخدمات الاجتماعية والمجانية؛ كالتعليم والصحة وغيرها، وتسليعها لتكون في متناول القادرين على دفع الثمن.. وتحولت تلك الخدمات إلى بضاعة وتجارة لرجال المال والأعمال والسماسرة والمقاولين وملاك العقارات ودوائرهم، وتخلصت الحكومات المتتالية من أعباء دعم الطبقات الفقيرة وذوي الدخل المحدود.. وتبددت الثروات بـ «الخصخصة» وبغيرها.. وتم اعتماد النشاط الأهلي والتطوعي لملء الفراغ الناجم عن تخلي الدولة عن دورها التاريخي والاجتماعي. وشطب بند «العدالة الاجتماعية»، من جدول أعمال الحكومات المتتالية؛ ثم عاد مطلبا ملحا لثورة 25 كانون الثاني/يناير.. وكانت الحكومات قد استراحت لاستجداء وتسول كل من هب ودب من الغرب؛ بعد أن رفض السادات دعما عربيا أقره مؤتمر بغداد؛ قدره خمسة مليارات ونصف المليار دولار بأسعار 1979؛ حلا للأزمة الاقتصادية التي ادعى السادات أنها سبب زيارته القدس المحتلة، واضطراره لـ«الاستسلام» أمام الكنيست الصهيوني. وكلما تمادت الحكومات في الاستجداء والتسول كلما عمت الاضطرابات وزاد العنف.. بكل أنواعه!
وارجو أن يخيب ظني في إمكانية قيام تحالف متوقع من الحرس القديم والجماعات المسلحة؛ إذا ما استمر الحال دون تغيير نوعي في علاقة الدولة بمواطنيها، وتستعيد دورها وتراثها الاجتماعي والإنساني والوطني والأخلاقي.. فمصالح الحرس القديم؛ صاحب الدور المشبوه في إضعاف الدولة، وفي تدريب ورعاية الجماعات المسلحة في الجامعات منذ شتاء 1972، واندلاع أول فتنة طائفية في نفس السنة.. وتحولت الدولة على يدي الحرس القديم إلى شركة تخدم مصالحه ومصالح «الحلفاء الجدد».. وفي نفس الوقت تلتقي الجماعات المسلحة على هدف تقويض ما تبقى من دور للدولة؛ فأيديولوجيتها لا تعرف من الدولة إلا «فسيفساء» الدويلات والولايات والإمارات؛ لتكون بحجم الطوائف والمذاهب المتناحرة.. وكثير من هؤلاء على الجانبين أصحاب نفوذ في مكاتب الحكومة، ودهاليز الإدارة، وفي أجهزة الأمن.. وخلاياهم قابضة على كثير من مفاتيح السلطة والثروة والنفوذ والإعلام.. وما زالت قيمهم سائدة ومنتشرة.. وبقي منطقهم نافذا ومؤثرا. وهناك عوامل أخرى ساعدت في ذلك منها:
1 ـ القبول بضغوط رجال مال وأعمال وسماسرة ومقاولين وملاك أراض وعقارات.. والرضوخ لابتزازهم، ومنهم من يتصدر المشهد السياسي الرسمي؛ في حضور الرئيس عبد الفتاح السيسي، ومحمد أبو العينين هو المثل الأوضح في هذا الصدد.. ونشرت مجلة «روز اليوسف» شبه الحكومية ملفا كاملا على خمس صفحات؛ عنوانه: (الحكومة تستغيث بـ«السيسي» من جبروت «أبو العينين»).. والملف مدعوم بوثائق تقر بحصوله على أراضي الدولة بغير حق.. والتفاصيل منشورة في عدد السبت قبل الماضي للراغبين في الاطلاع. ونموذج «أبو العينين» يعلن بتحدي أن «أباطرة المال» وأصحاب الثروات والجبابرة ما زالوا فوق الدولة، وعلى قناعة بأنهم أقوى من الشعب والحكومة والثورة والقوات المسلحة.. فتمادوا في غيهم بما لديهم من قدرة على البطش والتنكيل بالمواطنين.
2 ـ الاستمرار في عدم اقتراف فضيلة التنمية الشاملة‪..‬ وصارت التنمية كلمة غير مستحبة ومعيبة؛ تلائم عصر الأمركة، وتناسب قرن تعتبره واشنطن قرنا أمريكيا خالصا. ومن مواصفاته إغراق الدول الساعية للنمو في القروض، وطلب الاستثمارات الأجنبية، مع ما في ذلك من تناقض بين فلسفة التنمية وبين وظيفة الاستثمار.. ففلسفة التنمية هدفها النمو المتوازن للقطاعات كافة.. ووظيفة الاستثمار «شبه ربوية»؛ تنشط في مجال جمع المال وتكوين الثروات بغض النظر عن مدى سلامتها ووظيفتها الاجتماعية أو الإنسانية، وأكدت التجارب أن الاستثمارات الأجنبية وضوابط وشروط المؤسسات المالية والمصارف الدولية؛ أكدت أنها لا شأن لها بتنمية مجتمع مأزوم، ولا بصناعة تقدم في بلد متخلف.. فهذه ليست وظيفتها.
ومن المعروف أن المؤسسات المالية والمصارف الدولية، ومعها الشركات المتعددة الجنسية تتعامل مع مصر من منطق ما يمكن أن تضيفه الاستثمارات الأجنبية إلى قوتها، بجانب ما لها من تأثير ثقافي وجغرافي وحضاري وسياسي.. وغنى تراثها، وتميز موقعها الفريد في قلب الوطن العربي، وأهميته كجسر يربط بين أكبر وأهم ثلاث قارات في العالم.. وتُركت رؤوس الأموال تحيطها دون أن تدخلها إلا بما يكفي للاستمرار على قيد الحياة، ودون أن تقوى على لعب دور مؤثر في هذا الموقع الحيوي من العالم!
3 ـ التركيز على مشروعات الخدمات وعلى العوائد الريعية لتحريك الاقتصاد؛ هذا غير كاف لانتشال ٪40 من تحت خط الفقر. وإنقاذ ٪20 منهم يقعون «تحت خط الموت».. وهذا وصف منقول من الخبير القانوني مجدي الجوهري.. ويرى خبراء أن السبب في كل هذا يعود إلى الانحيازات الرسمية «واستمرار مفاصل القرار الاقتصادي والمالي في قبضة رجال المال والأعمال».. وهذا ألجأ جماعات من الشباب إلى الطريق «الأسهل»؛ وهو الانضمام للجماعات المسلحة، وامتهان التخريب والاحتراب والقتل، أما بعض الوقت أو بالتفرغ كل الوقت.. وهذا من أهم أسباب انتعاش سوق البناء والعقارات؛ فتشييد الأبراج العالية والمباني الجديدة لا يتوقف؛ في المدن والبنادر والقرى والنجوع.. والعجيب أن ذلك يتم في دولة تشكو الفاقه وتستجدي العون.. وبين سكانها أباطرة تخصصوا في غسيل الأموال التي تهرب بطرق غير مشروعة لشراء السلاح وتمويل الإرهاب ورعاية جماعاته وأسرهم، وهذا أكبر وأهم رافد يغذي قنوات «الاقتصاد الموازي»، وكان في حدود 30٪ في 2010 ووصل حاليا إلى 50٪ متجاوزا حد الخطر!.
4 ـ فقدان التوازن في توزيع الأعباء، وبدلا من تحميل ملاك الثروات الطائلة وأصحاب الدخول العالية أعباء التقشف الحالي؛ استبعدت الحكومة القطاعات الأكثر تأثيرا ونفوذا من تطبيق قانون الحدين الأدنى والأقصى للأجر، وغيبت السياسات الداعمة لمحدودي الدخل والأكثر فقرا؛ خاصة في المحافظات النائية.. وهذا التوازن المفقود لا سبيل لعودته إلا باستعادة دور «الدولة المعطلة» وليس «الدولة العميقة» التي تتردد على ألسنة سياسيين ونشطاء وصحافيين.. فهي القادرة على تنفيذ المشروعات العملاقة.. ومن عوائدها يتم الإنفاق على إصلاح التعليم وضبط الاختلالات المعوقة للتغيير، ومعالجة الفوارق الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية.. وقد وصلت إلى حد البشاعة مع استفحال ظاهرة «عمال التراحيل»، وتفشي «القنانة»، التي تحط من قدر الإنسان المغلوب على أمره وتتدنى بمكانة الوطن الذي يقبل بذلك.
يعود السبب إلى عرض ما سمحت به المساحة إلى أن مصر تقف على أعتاب انتخابات برلمانية، وفي وجود هذه الاختلالات، فهذه الإنتخابات تحتاج إلى معجزة كي تمر بسلام.. فهل تتحقق المعجزة؟!
نتمنى ذلك!.

٭ كاتب من مصر يقيم في لندن

محمد عبد الحكم دياب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمود يوسف محمد علي-مصر المحروسه:

    بالرغم من إقرار ا/دياب بسوء الحال والمآل بعد إنقلاب السيسي وأن دولة مبارك عادت برجالها وأموالهم المنهوبه من الشعب,إلا إنه مازال غير مستعد للإقرار بأنه أصطف مع الجانب الخطأ,ببساطه لإنه ناصري الهوي,والناصريين بطبيعة تفكيرهم يؤمنون بالحكم العسكري ولا يؤمنون بالديموقراطيه وبالأخص إذا جأت بعدوهم الأول ألا وهو الإسلاميين.

  2. يقول عربي حر:

    يقول الكاتب
    – وارجو أن يخيب ظني في إمكانية قيام تحالف متوقع من الحرس القديم والجماعات المسلحة؛-
    للعلم فقط الجماعات المسلحة تؤمن بصناديق الرصاص فقط
    إذا كان هناك تحالف فهو يجمع الحرس القديم والفساد وجماعات العسكر وأتباعهم من سلفيين وناصريين وأشباه الثوريين الذين شاهدناهم متحدين يوم 30 يونيو لمجيد

  3. يقول متابع فلسطيني:

    ثورتي 25 و 30 !!!!!!!!!!!!!!!!! أول القصيدة كفر

إشترك في قائمتنا البريدية