سهيل حداد لقد شكلت التراكمات العميقة التي أحدثها نظام حافظ الأسد في سورية، شرخاً وانقساماً كبيرين لا يمكن تجاوزهما أو ترميمهما وإصلاحهما بالسهولة التي يتصورها البعض، هذا الانقسام رسخ مساراً زمنياً في الفكر التسلطي والاستبدادي، وفارقاً طبقياً في الفكرة والرؤية والتوجه والمصير، حيث لم يعد بالإمكان إقناع ورثة السلطة الحاكمة رغم كل محاولات حلفاء وأصدقاء النظام السوري في الداخل والخارج، بضرورة السير في مبدأ الإصلاح الحقيقي عبر الحوار الجاد مع الشريك الأخر في الوطن، والمتضمن تطبيق مفهوم المواطنة والعدالة واحترام حقوق الإنسان والتنمية الحقيقية والتوزيع العادل لثروات الوطن والمساواة وتكافؤ الفرص ومحاربة الفساد في العائلة الحاكمة وأدواتها المنتشرة والمرتبطة معها في معظم أركان المجتمع وضرورة تقوية مؤسسات الدولة واحترام العمل المؤسساتي واحترام القضاء وسيادة القانون ومبدأ التعايش مع الآخر كشريك في الوطن وضمان نزاهة الانتخابات وحرية التعبير والتفكير والتعددية الحزبية والإعلامية الغير موجهة من الأجهزة الأمنية وفسح المجال لمساهمة مكونات المجتمع المدني في اتخاذ القرارات المصيرية التي تحدد مسار الوطن والشعب السوري.حاول الوطنيون السوريون إقناع السلطة المتمثلة في بشار الأسد بضرورة تغيير نهجها المتبع سابقاً في عهد حافظ الأسد وضرورة الحد من تجاوزات الأجهزة الأمنية والتخلي عن هيمنتها وتسلطها على المجتمع والكف عن استعباد الشعب السوري وإفقاره وإذلاله ونهب تروات الوطن وتوزيع الغنائم والامتيازات والنفوذ مع عملائها الذين يقدمون الطاعة والولاء وضرورة إبعادهم عن الحياة المدنية ومؤسسات الدولة وتطهيرها من الفساد والمفسدين والحد من تجاوزات عائلة الأسد وأقربائه وتسخير القوانين بما يتلاءم ومصالحهم والكف عن اعتبار سورية وشعبها محمية طبيعية ومزرعة خالدة إلى الأبد لا يحكمها إلا آل الأسد، إلا أن جميع المحاولات باءت بالفشل على صخرة الاعتقالات والتعذيب والتهجير والاتهامات بالخيانة والعمالة.يتساءل البعض ويستغرب البعض الآخر ومنهم بشار الأسد لماذا قامت الثورة السورية ومن هم رموزها وما هي أسبابها وأهدافها.. ولا يتساءل ما معنى أن يهتف البعض … الأسد أو نحرق الشعب والبلد.. ؟!. تعتبر السلطة الحاكمة في سورية وريثة الحقبة السابقة وتدفع ثمن خيارات تلك المرحلة، حيث لم تتمكن السلطة الحالية من الخروج عن عباءة سياسة مرحلة حافظ الأسد .. هي تدرك تماماً ما هي المتطلبات الدولية الواجب تطبيقها، وهي على قناعة كاملة بضرورة تطبيقها وهي موافقـــة عليها من حيث المبدأ، إلا أنها عاجزة عن المناورة والحركة وغير قادرة على تنفيذها بسبب قوة المخلب الروسي وفرصته الذهبية للعودة إلى الساحة الدولية عبر الحلقة السورية الرخوة من ناحية، والمخلب الإيراني الشرس الذي لحظ مدى ضعف الأنظمة العربية والانقسامات العميقة فيما بينها وغياب دورهم الفاعل ولحظ صراع القوى الأخرى المتنافسة في إشغال هذا الفراغ العربي إقليمياً ‘إسرائيل وتركيا’ ودولياً ‘أمريكا ـ روسيا ـ الصين’ فأنقض على الفريسة السورية الضعيفة لابتلاعها.أدرك الإيرانيون منذ البداية موقع سورية الحيوي والجغرافي والديموغرافي ومدى قوتها وتأثيرها عربياً وأنها مفتاح البوابة العريضة إلى القضايا العربية القومية التي تمس مشاعر العرب والمسلمين ‘فلسطين والأراضي العربية المحتلة’ مستفيدة من الخلاف الشخصي بين الأسد الأب ورئيس العراق السابق صدام حسين، حيث حاولت إيران بكل إمكانياتها في عهد حافظ الأسد القوي الذي فرض سياسة التوازن في التحالف والعلاقات مع النظام الإيراني ومنع تثبيت أقدام الإيرانيين في المنطقة العربية بشكل عام وفي سوريا ولبنان بشكل خاص دون موافقته ومشاركته الفاعلة ودوره البارز في رسم السياسة الإقليمية في المنطقة، إلا أن الإيرانيين رتــــبوا كافة أجندتهم خلال الفترة السابقة مـــن أجـــل قطف ثمار جهودهم الســـياسية بعد غياب حافـــظ الأسد عبر الانقضاض على النظام السوري في عهد بشار الأسد الضعيف والهيمنة على السلطة السورية ووضــــعها فريسة في عمق المحور السياسي والأمني والعسكــــري والاقتصادي كأداة وليـــس حليف في المشروع الإيراني الاستراتيجي الكبــير القـــادم إلى المنـــطقة العربية في المرحلة القادمة على متن سفـــينة التعاون والوفاق الأمريكي ـ الإيراني التي نجحت في اجتياز مضيق عدد من ملفات الاختبار في الساحة العراقية والأفغانية والخليجية واللبنانية. إن بعض مكونات النـــظام السوري تدرك أنها تدفـــع ضريبة خيار الأسد الأب في التحالف مع إيران واستمرارية هـــذه العلاقات في عهد بشار الأسد، وتدرك أيضاً صعوبة الانفكاك نتيجة التداخلات المتشعبة في هذه العلاقة، لذلك فهي تعلم المخاطر الكارثية المرتقبة على سورية وموقعها ودورها ووجودها، هي تقر في الأزقة الضيقة والمغلقة فيما بينها صعوبة تحقيق الحسم العسكري على الأرض، وتوافق ضمنياً على شعار الحوار مع الآخر ‘المعارضة’ وفق المعطيات الدولية، أي انتظار بلورة الرؤية السياسية الأمريكية ـ الروسية المستقبلية للخروج من الأزمة بحيث يتم الحفاظ على بقاء بعض مكونات النظام السابق ولكن ليس بالضرورة بقاء سلطة الأسد وعائلته، إلا أن اللعبة الدولية المتآمرة على الثورة السورية في بقاء قوة الأسد الأمنية والعسكرية في القدرة على المناورة أفقياً والتدخل المباشر والسريع للقيام بسلسلة من التصفيات والاغتيالات ضمن أركان النظام في أوقات الضرورة، يجعل رموز النظام السوري متردداًً ومقيداً وملزماً بشروط بقاء السلطة والدفاع عنها وعن خياراتها مهما كانت التضحيات. لذلك فإن بعض مكونات النظام تترقب وبحذر شديد تغير المزاج الأمريكي والدولي وبالتالي تبدل المعادلة العسكرية على الأرض حتى يعلنوا تمردهم وانشقاقهم وانقلابهم على السلطة.إن السلطة الحاكمة وما تملكه من دعم إقليمي ودولي فاعل تدرك قيمة وخطورة الأوراق الإقليمية التي بحوزتها وتلوح بالعبث فيها بين الحين والأخر، (خطورة انفجار الوضع في العراق وتداعياته على دول الخليج ـ خطورة انفجار الوضع الطائفي في لبنان وتداعياته على إسرائيل ـ خطورة انفجار الوضع في تركيا وتداعياتها على القضية الكردية والقضية العلوية داخلياً وعلى الوضع دولياً ‘أرمينيا ـ اليونان’ وخطورة التقسيم والانهيار الاقتصادي ـ الوضع الأردني شبه المنهار ليس أفضل حالاً والذي لا يحتمل أي اهتزازات سياسية أو اقتصادية ـ دخول المارد الإيراني بثقله الجغرافي والاقتصادي والعسكري في ساحة الصراع بشكل مباشر ليس في سورية وحسب، وإنما في إمكانية قلب الطاولة رأساً على عقب فوق رؤوس اللاعبين وتأثير انعكاسات ذلك على الساحة الخليجية والعراقية والتركية والأفغانية والسورية واللبنانية واليمنية والمنطقة بشكل عام وانعكاس ذلك أيضاً على صراع الضباع سياسياً وعسكرياً واقتصادياً في الساحة الدولية، لذلك فإن السلطة السورية رغم ضعفها وقلقها مطمئنة بعض الشيء للمناورات السياسية التي تدور هنا وهناك، مستفيدة من ضعف المعارضة السورية وانقساماتها وخلافاتها فيما بينها، فلا تدخر عصابات الأسد جهداً في تنفيذ العمليات الإجرامية والوحشية ضمن المهل الزمنية الممنوحة إليها بمهنية عالية في القتل والتدمير وارتكاب أبشع وأقذر الجرائم بحق الشعب السوري الأعزل على مرأى ومسمع شعوب دول العالم قاطبة.إن أمريكا وحلفاءها يدركان المعادلة الدولية والإقليمية والمحلية، ويدركان مدى معاناة السلطة السورية سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وحاجة الثورة السورية إلى الدعم العسكري والسياسي الخارجي، ويعلمان تماماً أن بقاء السلطة على قيد الحياة مرهون بمدى تأمين الأكسجين الروسي والإيراني إليها من ناحية، وعدم دعم الثورة السورية بشكل فاعل لحسم الصراع من ناحية ثانية، لذلك فإن أمريكا تلعب على الأوتار المختلفة بقذارة النخاسين مع النظام والثورة السورية معاً ‘الإستراتيجية والسياسة الأمريكية في التجربة الأفغانية’ بما يضمن استنزاف الدول الداعمة للنظام السوري من جهة، وبما يحقق التوازن بين النظام والثورة لإطالة مدى الصراع بينهما وتحقيق المزيد من المكاسب في تدمير كيان الوطن وخاصة في مجالات العلوم والمعارف والعقول وتمزيق الثقافة إلى ثقافات متعددة ومتصارعة فيما بينها وخلق بيئة اجتماعية منقسمة ومفككة تخاف من الآخر واقتصاد مرهون بشروط سياسية قادمة لإعادة الأعمار بما يضمن الطاعة والولاء.لقد رتبت السلطة الحاكمة أوضاعها على صراع طويل الأمد وأعدت نفسها للاحتمالات والبدائل الخطيرة ومن يعرف الأسد يدرك تماماً بأنه لن يقبل بمشاركة المعارضة في الحكم والسلطة مهما كان الثمن والتضحيات، وجل ما قد يوافق عليه تحديد حجم ومساحة مشاركة الآخر أي ‘المعارضة السورية’ باعتبارها جزء أساسي في النظام القادم، والنظام حسب رؤيته في نهاية الأمر وبحد ذاته لا يملك القرار ولا يشكل السلطة الحاكمة.من يعرف الأسد جيداً يدرك أنه لن يستسلم لإرادة الشعب إلا بالقوة، لأنه يؤمن بأن مصدر شرعيته للبقاء في السلطة ينبع من رضا السيد الأمريكي وليس من دعم شعبه ‘ولعل خطابه الأخير ووصفه المعارضة السورية مجدداً بالعصابات المسلحة والمجرمين والإرهابيين ومن ثم الإشارة إلى الحوار والحديث مع الأسياد وليس مع العبيد دعوة صريحة لتقديم كافة التنازلات المطلوبة للسيد الأمريكي وليس للشعب السوري ‘ولعل تعيين جون كيري وزيراً للخارجية الأمريكية إشارات لها مدلولات في العلوم السياسية ستكشف عن المستور في المرحلة القادمة’.إن السلطة التي لا تحتمل فكرة الحوار مع أركان نظامها وحلفائها وأصدقائها ومؤيديها ولا تقبل مناقشة أي خيار لحل سياسي معهم بديلاً عن الحل الأمني (فاروق الشرع وجماعته، مناف طلاس وتياره، عبد العزيز الخير وغيرهم) كيف لها أن تفتح حواراً مع أعدائها وخصومها في ‘المعارضة’ التي تطالب بالإطاحة بها وإسقاط حكمها ومحاكمتها مع رموز نظامها؟!. في النهاية لم يستفد بشار الأسد من قراءة التطورات الدولية التي حصلت في العالم، ولم يستطع الخروج عن خيارات أبيه السياسية رغم توفر المناخ الداخلي الملائم والظروف الدولية والإقليمية المناسبة خلال فترة حكمه، سقطت الاشتراكية في مرقدها وبقي النظام السوري الفاسد يتمسك حتى يومنا هذا بالنظام الاشتراكي المتهالك الذي دمر المجتمع والدولة داخلياً، سقط حلف وارسو الشيوعي وانهار الاتحاد السوفيتي ولم يخرج نظام الأسد عن المنظومة الأمنية والمخابراتية وخيارات الرهان على المقامر الروسي في الساحة الدولية، راهن الأسد إقليميا في بناء العلاقات مع إيران على حساب العلاقات مع الدول العربية وتركيا، فحلقت إيران في الأفق وانهار العراق في أحضانها ومات حافظ الأسد ودفن تحت الثرى وبقي نظامه الملعون يحكم من القبر حتى سقطت سورية في الجحيم. ألا يحق للشعب السوري أن يقول كلمته: كفى .. احمل يداك الملطختان بدماء الشيوخ والنساء والأطفال وارحل مع خيارات أبيك أيضاً إلى الجحيم وبئس المصير.’ كاتب وباحث سوري في ألمانيا[email protected] qmdqpt