السودانيات ومهنة «الخادمة»

انشغل الرأي العام السوداني خلال الفترة الماضية بقضية مفادها أن خادمة سودانية في إحدى دول الخليج اشتكت من أنها تعمل في ظروف صعبة، كما أنها تتعرض بشكل دائم للتحرش ولمحاولات الاغتصاب، وأنها حين فكرت في اللجوء إلى الشرطة من أجل إعادتها إلى بلادها، فوجئت بأن القانون لا يقف بصفها بقدر ما يقف مع المواطن الخليجي الذي تعمل عنده والذي تحمّل تكلفة استقدامها من بلادها.
وبغض النظر عما إذا كانت هذه قصة واقعية أو كانت من مبالغات المواقع الاجتماعية، إلا أنها أثارت اهتماماً كبيراً، حيث أعادت إلى الواجهة مرة أخرى الرفض العام لعمل السودانية كخادمة، وتزايدت المطالبات بمنع التصريح للسودانيات للعمل كـ»عاملات منزليات»، واعتبار ذلك إن حدث تقصيراً من الجهات المسؤولة.
ربما يرى البعض أن هذه الحساسية السودانية مبالغ فيها، وأن مهنة «الخادمة» هي مهنة شريفة لا تقلل من شأن صاحبتها أو احترامها، باعتبار أن العمل ليس عيباً، بل إن بإمكانها عبرها أن تقدم مساعدة مهمة لنفسها ولعائلتها، أو ربما يرى آخرون أن يترك الأمر ببساطة للفتاة، فإن رضيت بهذا العمل فبها وإلا فلن يجبرها أحد.
هنا رأيت أن أوضح بعض الحقائق التي قد تجعلنا ننظر للموضوع بشكل مختلف، وأهمها أن طبيعة المجتمع السوداني هي طبيعة متماسكة لحد كبير، مقارنة بغيرها من الشعوب المجاورة، وهي ما يجعل أي قضية اجتماعية، حتى إن لم تؤثر فعلياً إلا على شريحة معينة من الناس، مثار تفاعل كبير.
على سبيل المثال فإن السودانيات اللواتي يعملن في مهن غير شريفة، ورغم كونهن في مهاجر بعيدة عن الوطن، إلا أنهن يلجأن لإنكار جنسيتهن وادعاء انتمائهن لأي دولة مجاورة أخرى، لأن هناك احتمال أن يسبب لهن أحد مواطنيهن مشاكل وتعقيدات، قد تؤدي لتهجيرهن، أو على الأقل إبلاغ أسرهن باعتبار أنهن يسئن إلى عموم البلاد.
لا يهدف المقال بطبيعة الحال لإظهار السودانيين بمظهر ملائكي، فهناك أشرار في كل مجتمع، وهناك صفات دخيلة خبيثة بدأت تنتشر وتؤثر في عموم الناس، لكن التواضع على سبيل المثال هو صفة ملازمة للغالب منهم، فلا يمكن لأي سياسي أو حاكم أو رئيس حزب أن يظهر تعاليا أو تكبرا، وإلا فإنها ستكون نهاية لشعبيته ولمستقبله العملي. نجد ذلك واضحاً في اللغة اليومية فأنت تقول بالعامية السودانية إن هذا العامل يعمل «معي» وليس «عندي»، كما هو متبع في الدول الأخرى، وقد تفاجأ برئيس شركة كبيرة وهو يتحدث عن موظف صغير أو سائق مثلاً بقوله إن هذا السائق يعمل «معه».
في السودان أيضاً توجد خادمات في البيوت منذ وقت طويل، لكنهن يعاملن كأحد أفراد الأسرة فيأكلن من الطعام نفسه وينمن في مكان مريح ويحق لهن، في الغالب، متابعة التلفزيون، بل إن عليك ان تستأذن الخادمة أحياناً إذا رغبت في تغيير المحطة التي كانت تشاهدها!
هذه الخلفية مهمة لأن الفتاة المهاجرة طلباً لـ»الخدمة» تضعها أمام عينيها فتفكر أنها ستعيش بسعادة وأنها ستحظى بجو أسري، كما ستحظى بعيش هانئ في أحد منازل أو قصور العرب التي تسمع عنها أو تراها على المسلسلات.
من هنا تأتي ضرورة تبصير هؤلاء بما ينتظرهن، فهن في الغالب لم يسمعن عن الظروف الصعبة التي تعيشها العمالة الأجنبية، تلك الظروف التي تقود العشرات في كل عام إلى الانتحار، أو على الأقل إلى الشروع فيه، خاصة العمالة الآسيوية التي تعامل بامتهان وتعيش في ظروف غير إنسانية في غالب دول المنطقة. الطريقة الوحيدة للرد والانتقام من العائلات الظالمة تبقى ضرب وتعذيب الأطفال، الذين لا ذنب لهم، والحكايات في هذا الباب كثيرة ندرك حين نسمعها شدة الضغوط التي تعرضت لها هؤلاء النسوة والتي حولتهن من سيدات وفتيات بسيطات إلى مجرمات بلا قلب. لقد حاولت الدول الخليجية التي شاعت فيها مثل هذه القصص أن تحل المشكلة بشكل ما، حيث تقوم بتركيب كاميرات على مساحة البيت المختلفة لمراقبة الخادمة من بعد وطريقة تعاملها مع الأطفال في غياب الأسرة، وهي طريقة، رغم تكاليفها التقنية، إلا أنها ليست فاعلة تماماً، حيث يمكن إيجاد مكان لا تصله الكاميرا من أجل إيذاء الطفل أو على الأقل يمكن للكاميرا أن تصور كل شيء لكن بعد أن يكون الأوان قد فات. الحل الآخر هو أيضاً حل جزئي وهو استبدال الجنسيات التقليدية التي كانت تعمل بهذه المهنة بأخرى من دول أخرى، على رأسها السودان الذي لا يعرف عن أهله الوحشية ولا الإجرام، لكن ما فات على أصحاب هذا التفكير هو أن المشكلة ليست مشكلة جنسيات، فليس هناك أكثر وداعة من الفتيات الآسيويات ولا أكثر طواعية من فتيات شرق افريقيا وكلهن ليست لديهن أي نوايا شريرة مسبقة، لكن المشكلة تكمن في الطريقة التي يتم التعامل بها معهن، فهي التي تقودهن لهذا الطريق الذي سينتهي بهن في الغالب إلى السجن أو القتل أو الانتحار. وحتى نخرج من دائرة التعميم نقول إن الدول الخليجية ليست سواء فيما يتعلق بحقوق العمال المنزليين أو العمالة بشكل عام، فمنها من خطا خطوات جيدة ومتقدمة وأكثرها ما يزال يتعامل معهم على أساس من التكبر والقسوة والاضطهاد.
كان للسودانيين المغتربين في تلك المناطق الفضل بعد الله- سبحانه وتعالى- في تبصير أهلهم بهذه المخاطر التي تبدأ من ساعات العمل غير المحدودة، التي ليس فيها وقت للراحة أو وقت حتى خاص وتنتهي بالتحرش شبه المشروع مجتمعياً، باعتبار أن هذه الفتاة هي بالأصل لـ»راحة» العائلة، فيبدأ التحرش من الكبار وينتهي بالصبية المراهقين الذين يحاولون تجريب كل شيء للمرة الأولى.
وفي مجتمع يتحرش فيه الجميع بالجميع ولا تنجو فيه حتى المنقبات من محاولات الاختطاف والتحرش ويعيش فيه الغالب من الناس حياة الكبت التي تجعلهم فريسة للممارسات الشاذة والجرائم الغريبة، في مثل هذا المجتمع نستطيع أن نقول ألا مبالغة في كل ما فات وأن إمكانية حدوثه لو أصبحنا حتى في قمة تفاؤلنا ستكون على الأقل خمسين بالمئة، وهي نسبة كافية لدق ناقوس الخطر والتعامل مع الأمر بالجدية اللازمة. لكن الحل لا يكمن، برأيي، في سن قوانين هجرية تمنع النساء من الالتحاق بمثل هذه المهن، فمثل هذا القانون يمكن التحايل عليه بسهولة، كما أن بإمكانه أن يزيد من تعقيد المشكلة كما حدث في بلدان أخرى، حيث نشأت عصابات تساعد في انتقال الفتيات بشكل فيه تحايل على القانون، وهنا تصبح الخادمة فريسة مزدوجة لأصحاب العمل من جهة ولمن «استوردها» من بلادها من جهة أخرى. ربما لو كان الأمر يتعلق بالعمل كخادمة في دولة أوروبية لما كان ليثير كل هذه الضجة، لكننا نتحدث عن دول عربية، أعني من المحيط إلى الخليج، تتشارك في النظر باحتقار وازدراء إلى مهنة الخادمة وتنكر عليها أي حقوق، ورغم التفاوت في هذه النظرة من بلد لآخر، إلا أنه على الصعيد القانوني فإن قوانين حماية العمالة المنزلية هي إما غير موجودة أساساً أو بدائية ومصممة لمصلحة صاحب العمل.
في بلد عربي غير نفطي على سبيل المثال يروي تقرير حديث، أن معظم العاملات لا يأخذن راتبهن ولا جزءاً منه لضمان بقائهن وعدم لجوئهن للهرب، هذا غير حرمانهن من أوراقهن الثبوتية ومن حقوق أساسية كحق الإجازة السنوية الممنوعة دائماً حتى في حالات الطوارئ كوفاة قريب أو مرض عزيز، لافتراض أنهن كاذبات وأنها مجرد ذريعة. في ذلك البلد يقول سفير لإحدى الدول المصدرة للعمالة المنزلية: «لا أحس أنني أعمل في سفارة، بل في مشرحة»، لتزايد حالات الانتحار وترحيل الجثث بشكل غير مسبوق. لا يمكن بطبيعة الحال تجاهل الجانب الاقتصادي الذي يدفع إلى الدخول في مغامرات كهذه غير مأمونة ويقود إلى مغامرة أشبه بمغامرة من يرمي نفسه في البحر بغية الوصول إلى العالم الأول.
الموضوع متشعب وله وجوه كثيرة تصعب الإحاطة بجميعها في هذا المقام، خاصة الجوانب المتعلقة بالاقتصاد ومحاربة الفقر، لكنني أكتفي بالقول إنه ما لم نضرب مثالاً حياً للتكافل والرحمة، وما لم نمنح البائسين خيارات أفضل، فإننا لن نســتــطيع أن نمنعهم من السفر إلى المجهول.

٭ كاتب سوداني

د. مدى الفاتح

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    العمالة الأجنبية بدول الخليج سلاح مدمر ضد العمالة العربية ومجتمعاتهم
    فمقابل الأجور المنخفضة للأجانب تزداد نسب الفقر والبطالة بالدول العربية
    فمن أولى بالشغل يا عرب ويا مسلمين ؟

    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول kogak leil:

    الجدل الذى اثير حول استقدام الخادمات من السودان للعمل في احدى دول الخليج لا مبرر له أولا لأن خروجهن من بلادهن كان بطريقة مشروعة ومعروفة أسباب مغادرتهن لبلادهن للعمل كخادمات لا مديرات مصارف أو مستشارات أعمال. ماذا يضير لو عملن خادمات بالنظر الي ضيق فرص العمل في السودان فالعمل أي عمل شريف لا مجال أبدا لاستنكافه. مالم يقله القارئ هو أن هناك تعاليا سودانيا مبطنا وفي داخل السودان يشار الي بعض الإثنيات للقيام بأعباء معينة وهذا هو سر هذه الهوجة المضرية..فلماذا تخفي السودانية هويتها وهي تعمل فيما أشار اليه الكاتب في متن مقاله هل لأن تلك الجنسيات أدني مرتبة وهو ما يعني بالضرورة ان السودانية أعلي مرتبة وهنا بيت القصيد. نعم العقد شريعة المتعاقدين فإذا ما أخل أي طرف بشروط العقد فان الحكم ستكون السلطات المعنية في البلد المعني.
    أما المجتمع السوداني فهو كغيره من المجتمعات الإنسانية يموج بالطواهر التي تشهدها تلك المجتمعات والإدعاء بالتفرد والتميز إدعاء موغل عدم واقعيته ولكنه للأسف يسيطر علي أذهان السودانيين بشكل غريب فغالبا ما تسمع عبارة( الخلق السوداني ..القيم السودانية..التقاليد السودانية..الي أخرها) وهي مطاطة لا إطار معرفي لها بل ولا يظهر في الشارع السوداني لها أثر مما يعني وجود حالة أنفصام عمقة بين ما يدعيه السودانيون وبين ما يتوقون أن يكونوا وواقعهم الفعلي فإطراء الذات بإستمرار دون انعكاس ذلك في الشارع العام أو إنجازات مادية بادية للعيان ، يؤكد عمق الهوة بين ما يعتقده ويرومه السودانيون والواقع الذي يمثل أمامهم؟؟؟؟

    1. يقول سامي الفكي السودان:

      اخي الكريم … منذ القدم والشعب السوداني معروف بدمث اخلاقه وطيب معشره وكثير من الصفات الحميده .. وانا اخشي ان تكون سودانيا … اما والحمد لله فستكون من خارج ربوع وطني العزيز ..الذي اهواه برغم اندثار صفاته الحميده التي لاتعرف في الشارع كما تظن… السودان رائد وبشهاده الجميع وللتدليل اسأل اخوتنا العرب عن السودان … لا اريد ان اقول انك حاسد فانا لا اعرفك .. فقط ابحث في التاريخ عن السودان والسودانيين.. نعم انه تاريخ ويكفينا فخرا اننا امتداد لعظماء حتي ولو تقزمنا لظرووف فالغرس ثابت … مع شكري وسامحك الله

  3. يقول musa:

    لا اعتقد بان الكاتب قصد ان المجتمع السوداني مجتمع متفرد بقدر ما قصد بانه مجتمع تميزه بعض الصفات و ان اختلفوا في سحناتهم او الوانهم .فهنالك دول تعتبر هذه المهنه مثل غيرها من المهن التي تتطلب تريبية وتكيفا ما مع المجتمع الذي تذهب اليه الخادمه و لذلك فانها لا تفاجأ بمثل بعض التصرفات كالتحرش الذي قد لا يقتصر على فرد واحد بل قد يمتد لاكثر منه كما ان مجتمع محافظ مثل المجتمع السوداني ينظر للخادمه نظره لا نقول دونيه ولكن مهنه قد تكون غير لائقه للبنت او لاسرتها و قد تلصق بها كتهمه رغم ان الوضع الاقتصادي هو الذي اجبر الكثير منهن الى ذلك . هنالك بعض الجنسيات لا ترضى ان تسمى الاشياء بمسمياتها فقد يطلق صفة مديرة منزل وهي اخف ثقلا من خادمة منزل و بالتاكيد ترجع التسميه لحساسية المهنه لدى بعض الشعوب

  4. يقول امينة ابراهيم عيسى:

    المجتمع السودانى مجتمع متفرد بدون ادنى شك الطيبة والبساطة والتواضع ميزة واضحة لكل من يعرف السودان واهله
    وعمل السودانيين فى الخليج او الدول العربية كانوا معلمين اكفاء وقضاة وفى وزارة الدفاع والصحة كان قسم الاعارة والانتداب يرسل خيرة المعلمين وافضلهم
    لم يكن السودان يصدر عاملات للمنازل(خادمات ) ليس استنكارا وليس استخفافا
    وليس استكبارا ولكن هذه هى الحقيقة . رغم ظروف السودان والتى لا تخفى على على العالم من حروب وكوارث وانظمة بغيضة ارهقت المواطن الا انه لم تكن حاجة لخروج النساء خارج الوطن كخادمات خرجن معلمات وممرضات وطبيبات هذا ما نعرفه
    ولكن عندما ضاقت واستحكمت حلقاتها وضاقت مرة تانية وبدا الحوجة الماسة للعمل حتى ولو خادمات واصبحت ضرورة فلا ارى ان هناك ما يمنع العمل كخادمة
    ولكن بشروط ..خاصة فى بعض الدول المشهورة بمهانة وتعذيب العمالة المنزلية
    ويجب على سفاراتنا الاهتمام بمواطنيها الذين تجبرهم الظروف للعمل فى هذه المهن
    ويجب على كل من تجبرها الظروف للعمل كخادمة ان تعرف حقوقها وواجباتها وان لا تقبل بمهانه او مذلة وان لا تسمح لكائن من كان ان يستغلها ..

  5. يقول ناجي السودان:

    لماذا

إشترك في قائمتنا البريدية