تاريخ مضطرب من العلاقات بين لندن وطهران

حجم الخط
3

قديم العلاقات يفرض نفسه على جديدها واجواء التفاؤل والاحترام الظاهري المتبادل ميزت زيارة فيليب هاموند، وزير الخارجية البريطاني، وفريقه هذا الاسبوع لطهران، عاصمة الجمهورية الإسلامية. وهي الاولى منذ اثني عشر عاما حين زار وزير الخارجية العمالي آنذاك، جاك سترو، إيران في عهد الرئيس الإيراني السابق، محمد خاتمي. ولكن وراء الابتسامات المتبادلة ثمة مشاعر متباينة لدى الطرفين، تتميز بالشك وانعدام الثقة بالاضافة للتباين في السياسات والمواقف ازاء العديد من القضايا المهمة الاقليمية والدولية. وبهذا تصبح «علاقة الضرورة» بين طهران ولندن، نسخة اخرى من العلاقات السابقة التي طالما عصفت بها الخلافات وانتهت إلى القطيعة.
وفيما حاول السيد هاموند التغاضي عما حدث لسفارة بلاده قبل اربعة اعوام حين اجتاحها المتظاهرون الإيرانيون الغاضبون بسبب العقوبات الصارمة التي فرضت على بلادهم، حاول نظيره، الدكتور محمد جواد ظريف، التظاهر بنسيان المواقف البريطانية التي كانت داعمة بقوة لفرض العقوبات على بلاده بالاضافة للسياسات البريطانية الاخرى خصوصا الاقليمية منها. بل من الناحية العملية يخوض الطرفان حربا شرسة في اليمن. فقد اعترفت بريطانيا مؤخرا، على لسان الوزير بوزارة الخارجية، ايرل هاو، بانها تشارك في الحرب بدعم السعودية في جوانب ثلاثة: دعمها بالصواريخ والقنابل الموجهة، والمعلومات حول المواقع اليمنية، والخبراء الذين يشاركون في توجيه العمليات في مراكز القيادة والتحكم. وإيران لم تخف دعمها حركة أنصار الله التي تسيطر على مناطق في اليمن. وهناك قائمة طويلة من القضايا موضع الخلاف والاختلاف بين لندن وطهران، حاول المسؤولون غض الطرف عنها مؤقتا، ولكنها ستفرض نفسها على العلاقات في المستقبل غير البعيد.
العلاقات الإيرانية – البريطانية معقدة وصعبة على الفهم وخارجة عن المنطق احيانا، وتتميز بالحب والكره في آن واحد. ولا ينسى البريطانيون دور علماء الدين الذين يحكمون إيران حاليا في التصدي للهيمنة البريطانية على بلادهم، خصوصا في قضية «التنباك». ففي 1892 اصدر المرجع الكبير، الميرزا حسن الشيرازي، فتواه الشهيرة بتحريم استعمال مادة التدخين تلك بهدف كسر الاحتكار التي كانت الشركات البريطانية تمارسه على إيران، فكانت الفتوى ضربة قاصمة لذلك. وفي بدايات الثورة وقفت إيران مع الايرلنديين الذين اضربوا عن الطعام في سجن «ميز» في ذروة نشاط الجيش الجمهوري الايرلندي، واطلقت اسم «بوبي ساندز» وهو اول من توفي نتيجة الاضراب عن الطعام على الشارع المحاذي للسفارة البريطانية في طهران.
ثم جاءت قضية سلمان رشدي الذي اصدر كتاب «الآيات الشيطانية» الذي ازدرى فيه رسول الله واثار غضب المسلمين، واصدر الراحل الامام الخميني فتواه الشهيرة باهدار دمه، الامر الذي ادى لقطع العلاقات بين الطرفين. يضاف إلى ذلك السخط البريطاني من السياسة الإيرانية تجاه امور عديدة من بينها فلسطين ورفضها الاعتراف بوجود «اسرائيل» ودعمها حركات المقاومة مثل حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله، وعلاقاتها المتوترة مع بعض دول مجلس التعاون الخليجي خصوصا السعودية والبحرين، ودورها غير المحدد في «امن الخليج».بالاضافة لتوقيع الاتفاق النووي ثمة قضية جوهرية دفعت البريطانيين للاقدام على خطوة التواصل مع الجمهورية الإسلامية، تتمثل بعودة بريطانيا للمنطقة بعد انسحابها قبل اقل من نصف قرن. فقد كان انسحابها من عدن في 1967 ومن مشيخات الخليج في 1971 من اهم اسباب التواجد الأمريكي في المنطقة. ويبدو ان تطورات المنطقة في السنوات الاخيرة، خصوصا في دوائر ثلاث (الربيع العربي، وصعود مجموعات الإرهاب والطائفية، وتصاعد دور إيران ونفوذها وقوتها) احدثت «انقلابا» في التصور الاستراتيجي الانكلو -أمريكي. ولذلك اعلن السيد فيليب هاموند العام الماضي ان قرارا مشتركا قد اتخذ مفاده نقل الولايات المتحدة مركز ثقلها العسكري إلى جنوب شرق آسيا والمحيط الهادىء، وعودة بريطانيا (وحليفاتها الاوروبيات كغطاء لها) إلى المنطقة. ولا شك ان التطورات الثلاثة المذكورة قد دفعت لمثل هذا القرار. فالوجود الأمريكي احدث اضطرابا سياسيا وامنيا وفكريا في المنطقة ولم ينجح في احتواء تلك التطورات، وان المملكة المتحدة بما لديها من تاريخ وعلاقات بالمنطقة وسياستها التي تتمثل بالتخطيط الهادئ والتدخلات الخفية قد تستطيع احداث شيء من التوازن خصوصا إذا تحالفت مع السعودية و«اسرائيل»، ونجحت في «تحييد» موقف طهران ازاءهما. ولذلك يمكن تفسير الحساسية المفرطة في اوساط المؤسسة البريطانية الحاكمة في الاسابيع الاخيرة بسبب صعود نجم المرشح لقيادة حزب العمال، السيد جيريمي كوربين، بانه ناجم عن الخشية من حدوث تغير جوهري في السياسة الخارجية البريطانية، خصوصا ان الرجل معروف باتجاهه الليبرالي الرافض للحرب والاستبداد والديكتاتورية، ودعمه قضية فلسطين ومجموعات المقاومة.
زيارة هاموند لطهران، واعادة فتح سفارتي البلدين وتغير الخطاب الرسمي بينهما مؤشرات لعلاقات ايجابية، وتعبير عن رغبة في التبادل السياسي والاقتصادي.
فبريطانيا تعلم ان إيران تمتلك رابع احتياطي نفطي في العالم وثاني مخزون من الغاز، وانها تسيطر على نصف الخليج ولها نفوذ في بلدان كبرى في الشرق الاوسط خصوصا العراق وسوريا ولبنان واليمن، وتتمتع بعلاقات ودية مع الدول العربية الكبرى الاخرى خصوصا الجزائر.
وتعلم طهران ان بريطانيا لولب السياسة الغربية في الشرق الاوسط، وانها قادرة على التأثير على الولايات المتحدة وبمستوى اقل، دول الاتحاد الاوروبي. وعلى الصعيد الآخر فان طهران تتوجس خيفة من السياسات البريطانية، ولديها اختلافات جوهرية في دوائر ثلاث: اولها مشروع الإسلام السياسي الذي تمثل إيران تجسيده العملي الفاعل، وما يمثله ذلك المشروع من تحد استراتيجي للمنظومة الغربية.
وثانيها، مشروع الحريات والتحول الديمقراطي الذي وقفت بريطانيا ضده عمليا وتحالفت مع انظمة الاستبداد علنا، الشخصية. ثالثها: ان إيران تعتبر بريطانيا رائدة المشروع الطائفي في العالم الإسلامي، وان إعلامها يروج لذلك بشكل مستمر، ويعكس تطورات المنطقة في اطار التمايز المذهبي. هذه القضايا الثلاث تمثل تحديا للطرفين، فلا تستطيع إيران التغاضي عنها، وتسعى بريطانيا للتقليل من شأنها لكي لا تصطدم بالجدار الإيراني الصلب. فالعودة البريطانية للمنطقة ستواجه تعقيدات كبيرة إذا وقفت إيران ضدها بقوة، وعبأت الرأي العام العربي والإسلامي لغير صالحها. اما الحكومة البريطانية فتنطلق في سياتها تجاه إيران وفق مقولة «العصا والجزرة»، وانها قادرة على الاستعانة بالولايات المتحدة إذا استدعى الامر. ولكن أمريكا نفسها بدأت تنأى بنفسها عن السياسات البريطانية خصوصا تلك الداعمة لحركات التطرف، وتبني مواقف واضحة تدعم انظمة الاستبداد. وترى واشنطن انها دفعت ثمنا كبيرا لتلك السياسات بلغت ذروتها بحوادث 11 أيلول/سبتمبر الإرهابية، وانها تدفع ثمن سياسات غيرها كبريطانيا. ولذلك فمن الصعب التنبؤ بازدهار العلاقات الإيرانية ـ البريطانية في ظل الواقع الراهن الذي يمارس الطرفان فيه دورهما برعاية هذا الطرف او ذاك.
ربما من السابق لأوانه التنبؤ بمدى نجاح زيارة فيليب هاموند لطهران، وبشكل ادق، مدى قدرة الطرفين على الاحتفاظ بعلاقاتهما الدبلوماسية في ضوء التاريخ المضطرب لتلك العلاقات، فذلك مرتبط بمدى حلحلة اوضاع المنطقة خصوصا القضايا الثلاث موضع الاختلاف بينهما. مع ذلك تعتبر عودة العلاقات بين لندن وطهران مؤشرا لواقع جديد في المنطقة، وقد يؤدي لحلحلة قضايا عديدة تستطيع بريطانيا القيام بدور فيها خصوصا اليمن والبحرين وسوريا. فالعلاقات الدبلوماسية شرط لاية مبادرة مشتركة، ولكن الاهم من ذلك توفر رغبة الاطراف في الالتزام بمبادئهما وقيمهما خصوصا الاحترام المتبادل والتعامل بالمثل، وتطوير قضايا الحريات لقطع الطريق على التطرف والإرهاب، والصدق مع المبادىء خصوصا في مجالات الديمقراطية وحقوق الانسان واقامة حكم القانون ورفض الاحتلال والتدخل واحترام خصوصية الاطراف جميعا. وبدون ذلك لن يكون هناك مجال للتعايش السلمي بين الدول المعنية، الاقليمية والدولية.

❊٭ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

د. سعيد الشهابي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول د محمد شهاب أحمد / بريطانيا:

    وهل ايران رفضت الاحتلال الأنجلو أمريكي للعراق ؟!

  2. يقول S.Jalmood-FRANCE:

    اي تاريخ مضطرب؟ قامت بريطانيا باكبر خدمة في التاريخ لايران باهدائها الاحواز العربية ونقلها من الفقر المدقع الى ثراء نفطي..

    1. يقول الكروي داود النرويج:

      صدقت يا عزيزي جلمود
      فلولا غدر بريطانيا بالشيخ خزعل ما استولى الفرس على الأحواز
      تحياتي ومحبتي واحترامي لك وللدكتور محمد وللجميع

      ولا حول ولا قوة الا بالله

إشترك في قائمتنا البريدية