بعد روسيا الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالصين تحد من دور مجموعة البريكس في العالم

حجم الخط
3

الأزمة المالية التي تعيشها الصين تعتبر من أهم الأحداث العالمية خلال السنة الجارية وربما خلال العقد الجاري، فهي أزمة تصيب الدولة التي يفترض قيادتها للعالم ابتداء من منتصف القرن الجاري، وتطرح تساؤلات حول نوعية الاقتصاد الذي تتبناه الصين بليبرالية تحت قيادة شيوعية. ويبقى الأهم هو أن أزمة الصين تأتي بعد أزمة روسيا ومشاكل البرازيل لتشكل ضربة قوية لمطامح تجمع «دول البريكس» التي تطمح إلى إنشاء بنيات مالية وسياسية بديلة للغرب وهيمنة الولايات المتحدة.
وطيلة سنة 2014، ودراسات مستقلة تتحدث عن اقتراب الأزمة المالية العالمية من الصين، إذ لا يمكن لدولة تحتل المراتب الثلاث الأولى بين الدول في الإنتاج القومي وفي التبادل التجاري أن تبقى بمعزل عن الأزمات الاقتصادية الدورية التي تعصف باقتصاديات الدول الكبرى والناشئة منذ أكثر من عقد. في الوقت ذاته، لا يمكن لدولة المحافظة على نمو اقتصادي مرتفع ومتواصل طيلة عقد من الزمان. فقد شهدت الولايات المتحدة سنوات الرخاء في عهد الرئيس بيل كلينتون وسقطت في الولاية الثانية للرئيس جورج بوش الابن متسببة في أزمة عالمية ضربت أساسا الغرب.
وبعد بدء استعادة العالم عافيته الاقتصادية، تحدث الأزمة الصينية، وتتزامن هذه الأزمة في الوقت الذي اعتبرت فيه مؤسسات دولية أن الناتج الاجمالي الحقيقي للصين اعتمادا على تعادل القدرة الشرائية قد تجاوز الولايات المتحدة سنة 2014. وتفيد دراسات صندوق النقد العالمي بانتظار تحول الصين إلى أكبر قوة اقتصادية بـ 27 ألف مليار دولار سنة 2019 مقابل 22 ألف مليار دولار للولايات المتحدة.
كل هذه المعطيات جعلت الصين تشكل ما بين 10 في المئة إلى 13 في المئة من الناتج الإجمالي العالمي. يتغير الرقم حسب المنهجية المستعملة في احتساب الناتج الإجمالي الخام. وبينما يسود الاعتقاد باقتراب تحول الصين إلى الدولة الاقتصادية الأولى، بدأت الأخبار تحمل في بداية السنة الجارية معطيات عن تباطؤ النمو الاقتصادي الصيني وابتعاده عن معدلات ما بين 8 إلى 10 في المئة إلى معدلات أقل تصل إلى 5 في المئة أحيانا. وخلال الصيف الجاري تقترب الصين من «الكارثة الاقتصادية» التي تسببت في «الاثنين الأسود» بفقدان البورصات العالمية نسبة هامة من قيمتها المالية.
وهناك شبه إجماع على ثلاثة عوامل رئيسية تفسر هذه الأزمة وهي: تراجع الاستثمارات الأجنبية في الصين بعدما ساعدت على نمو اقتصادي قوي طيلة العقدين الماضيين، وسحب المستثمرين أموالهم من الصين. ويكتب الخبير الاقتصادي باتريك أرتوس في جريدة «لوموند» يوم الثلاثاء الماضي أنه منذ نهاية 2013 جرى سحب المستثمرين الأجانب قرابة ألف مليار دولار من الصين، وبلغ الرقم خلال شهر تموز/يوليو وحده ما بين 80 مليار دولار و90 مليار دولار. والعامل الثاني يتجلى في ارتفاع الأجور في الصين رغم بطء النمو الاقتصادي وتزامن هذا مع تراجع الاستهلاك الداخلي في بعض القطاعات، وأخيرا تراجع الصادرات الصينية إلى الخارج بسبب انخفاض الطلب نتيجة الأزمات التي تمر منها الكثير من الدول.
 ولم تنجح خطة بكين بتخفيض قيمة عملتها اليوان ثلاث مرات في ظرف أسبوعين في احتواء الأزمة عبر تحفيز الصادرات ومنع انهيار البورصات. وتؤكد التجربة أنه عندما تحل الأزمة الاقتصادية، فهي تطول وتطول وآخرها الأزمة الاقتصادية التي ضربت الغرب.
وهناك عامل آخر لا يأخذه المحللون بعين الاعتبار وهو بدء استنفاد الاقتصاد الصيني طاقاته. فالاقتصاد الصيني لا يعتمد على الابتكار والمعرفة عكس الاقتصاد الأمريكي الذي يستطيع النهوض من كبواته بفضل البحث العلمي والابتكار المستمر والرهان على قطاعات جديدة مثل القطاع الرقمي، إذ تحولت ثلاث شركات رقمية في ظرف وجيز وبعد الأزمة الأخيرة وهي غوغل وميكروسوفت وآبل إلى الأوائل من أصل عشر شركات عالمية، الأمر الذي لم يحدث في أي دولة أخرى.
وتختلف التقديرات للخسائر التي تعرضت لها بورصات الصين والعالم، ولا تقل في أحسن الظروف عن ألفي مليار دولار ، وهو مبلغ ضخم للغاية. وتحمل الأزمة الاقتصادية انعكاسات سلبية للغاية على الوضع الصيني وتمتد إلى الساحة الدولية. وتقول الدراسات بتحول الصين إلى الدولة المرشحة لقيادة العالم ابتداء من منتصف القرن الجاري، لكن هذه الأزمة تأتي لتحد من الطموحات الاستراتيجية للدولة الصينية. ويتجلى هذا في ما يلي:
في المقام الأول، بدأت الصين تواجه وتشهد خللا وسط المجتمع الصيني، فالطفرة الاقتصادية خلقت طبقة غنية وطبقة متوسطة نسبيا وطبقة فقيرة تعتمد على الدولة، وتنهار الطبقة المتوسطة الجنينية بسبب هذه الأزمة التي يبدو أنها ستستمر. وانهيار الطبقة المتوسطة يؤدي دائما إلى اضطرابات سياسية واجتماعية. ومن ضمن الأمثلة، ارتفاع قوى اليسار الراديكالي واليمين القومي المتطرف في أوروبا وهو من نتائج الأزمة المالية التي تعرضت لها أوروبا. وانتعاش ظاهرة المرشح الجمهوري دونالد ترامب في الانتخابات الأمريكية هو من نتائج الأزمة التي ضربت هذا البلد. ورغم ما يقال عن القبضة الحديدية الأمنية للحزب الشيوعي في الصين، فالبلاد تعرف اضطرابات اجتماعية قوية ومرشحة للأرتفاع بسبب الأزمة الاقتصادية. وتفيد دراسات معاهد وخبراء مستقلين غير مرتبطين بمؤسسات استخباراتية ومؤسسات مالية منذ أكثر من ثلاث سنوات، اقتراب الصين من الأزمة المالية، لكن لم يكن يأخذ برأيها نهائيا. وهي الدراسات التي تتحدث عن تطورات سياسية مقلقة في هذا البلد العملاق. وإذا كانت التطورات السياسية في الدول الديمقراطية تحدث بشكل منظم ففي الدول غير الديمقراطية تتخذ أشكال العنف.
ودوليا، تحمل الأزمة الصينية ضربة قوية لعالم متعدد الأقطاب. فالصين دولة تنتمي إلى مجموعة البريكس (الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب افريقيا) وتعتبر الرائدة اقتصاديا بينما تتولى روسيا الملف السياسي. وبدأت موسكو وبكين في وضع أسس بنيات تسمح بعالم متعدد ومنها إنشاء شبكة انترنت موازية للحالية نظرا لدور هذه الشبكة في العالم حاليا ومستقبلا. وأسست دول البريكس خلال تموز/يوليو 2014 «البنك الجديد للتنمية» الذي يفترض أنه سيكون بديلا لصندوق النقد الدولي الذي يهيمن عليه الغرب. ورفعت الصين من استثماراتها في مناطق مثل أمريكا اللاتينية وافريقيا وآسيا بحكم ضرورة النفوذ الاقتصادي لتعزيز النفوذ السياسي.
وتحد الأزمة الحالية من نفوذ الصين اقتصاديا وما يترتب عنه سياسيا. فقد تراجعت صادراتها لدول في أمريكا اللاتينية وافريقيا وتعيد النظر في الكثير من استثماراتها الخارجية بحكم أولوية الداخل الصيني على الخارج. وتعيش بورصات أمريكا اللاتينية قلقا حقيقيا خلال الأسابيع الأخيرة بحكم ارتفاع ارتباط اقتصاد المنطقة بالصين.
وهذه هي الأزمة الثانية التي تضرب دولة رئيسية في مجموعة البريكس في ظرف قصير لا يتعدى السنة والنصف. فخلال السنة الماضية، تعرضت روسيا لأزمة اقتصادية قوية تحد من طموحاتها العالمية. ولم تتردد موسكو في اتهام واشنطن بالوقوف وراء الأزمة لجعل روسيا تغير من سياستها الخارجية.
وتمر دولة أخرى في البريكس وهي البرازيل بصعوبات سياسية واقتصادية، فقد تراجع الاقتصاد البرازيلي بشكل ملفت خلال السنتين الأخيرتين، وتشهد البلاد اضطرابات قد تقود الرئيسة الحالية يدلما روسيف إلى الاستقالة بسبب ملفات الفساد. وتعتبر البرازيل صوت البريكس في أمريكا اللاتينية.
وأمام الأزمة التي تمر منها الصين، لا تتهم بكين علانية واشنطن بالتسبب فيها، لكن بعض الصحف تتحدث عن الضرر الذي تسبب فيه سحب الشركات الأمريكية الاستثمارية لأموالها من الصين واحتمال تقليص الواردات الأمريكية خاصة بعدما بدأ بعض مرشحي الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية يؤكدون على ضرورة وضع حد للاتفاقيات التفضيلية مع عدد من الدول ومنها الصين حتى لا تصبح قوى كبرى على حساب الولايات المتحدة. وتعطي بعض الأقلام الصينية لهذه التطورات طابع المؤامرة الأمريكية على الاقتصاد الصيني.
وهكذا، فالأزمات المتتالية التي تعصف بدول البريكس تعرقل ولادة عالم متين متعدد الأقطاب، إذ لا يمكن لأي دولة فرض نفوذها والمساهمة في خريطة دولية جديدة في ظل الأزمات المالية التي تشهدها، فالطموحات السياسية تحتاج إلى ميزانية للتمويل.

د.حسين مجدوبي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الخيال:

    لا شك ان امريكا هي وراء ما يحصل في الصين الان. الصين اصبحت تهدد امريكا اقتصاديا وعسكريا وامريكا تريد وضع حد لذلك. هناك نقطه اخرى وهي ان امريكا لن تسمح ابدا باي عمله اخرى ان تنافس الدولار الأمريكي عالميا كعمله احتياطيه وهو ما تحاول الصين عمله الان. الدولار هو خط احمر لان سيطرته على العالم يعني استمرار سيطرة امريكا عسكريا و البنوك اليهوديه اقتصاديا على العالم ولن يسمحوا لاحد مطلقا بمنافسته حتا ولو استوجب الدخول بحرب نوويه. مثل بسيط، عندما تطبع امريكا ترليون دولار لتطوير اسلحه معينه فالحقيقه ان العالم كله المستخدم للدولار يدفع الثمن وليس امريكا فقط وهذا يوضح استطاعه امريكا طبع وصرف ترليونات من الدولارات لادامه مصاريفها بدون اي مشاكل.

    1. يقول ابن بطوطة - فلسطيني:

      تعليق سليم مئة بالمئة يا استاذ – الخيال

  2. يقول عزام:

    الاقتصاد لا يعوق دائما القرارات السياسية الكبرى وإن كان يضعفه مثل حالة روسيا والصين أمام الولايات المتحدة.طالما تستمر عملة الدولار هي المهيمنة عالميا، فمصير كل دولة صاعدة مثل الصين ستكون تحت رحمة الولايات المتحدة.
    تحليل رائع للأحداث الدولية ، شكرا للكاتب على مقالاته القيمة.

إشترك في قائمتنا البريدية