إذا ذكرت عنوان «المشروع النووي»، فأنت تتحدث عن خزانة أسرار، وعن اتجاه لكسب استقلال وطني حقيقي، وهذا هو المعنى الذي نقصده حين نتحدث عن «غزوة» السيسي النووية.
وعلاقة المشروع النووي بالاستقلال الوطني في مصر وثيقة جدا، ومرئية للمراقب بالعين المجردة، فقد وقعت مصر عبد الناصر اتفاقية جلاء الاحتلال البريطاني في 18 يونيو 1954، بعدها بعام واحد، صدر قرار إنشاء «لجنة الطاقة الذرية» في 1955، ثم تحولت اللجنة إلى «هيئة الطاقة الذرية» في 1957، وجرى إنشاء مفاعل «أنشاص» الذري ـ بمعونة روسية ـ في 1961، وجرى تطوير قاعدة علمية واسعة ضمن المشروع النووي، استنادا لقسم الهندسة النووية الذي أنشئ في جامعة الإسكندرية، ثم إدخال الاهتمام المكثف بالفيزياء النووية في مناهج «الكلية الفنية العسكرية»، التي نشأت في ما بعد. ووضعت الدراسات الأولى لإنشاء أول محطة نووية مصرية أواسط الستينيات من القرن العشرين، ثم تراجع الإنفاق على المشروعين النووي والفضائي بعد هزيمة 1967، وتوجيه غالب موارد البلاد للمجهود الحربي، وإعادة بناء الجيش من نقطة الصفر. كل ذلك أدى إلى ما يشبه التجميد الموقوت للوضع النووي، وكان التصور أن حرب العبور في 1973 سوف تنهي التجميد، وتظاهرت سلطة السادات بالعودة إلى المشروع النووي مع تيسر الأمور المالية، وتدفق معونات عربية هائلة على مصر بعد الحرب، وجرى الإعلان عن مناقصات عالمية لإنشاء أول محطة نووية في منطقة «سيدي كرير» على ساحل البحر الأبيض المتوسط، جرى الإعلان في 1974، ثم أعلن السادات وقف المشروع في 1978 زمن عقد «كامب ديفيد»، وكان ذلك جزءا من خطة الانقلاب بالكامل على ثورة واختيارات جمال عبد الناصر، وخضوعا للضغط الأمريكي الآمر، الذي لا يريد للمصريين اقترابا من المشروع النووي، وهو ما تكرر ثانية في الثمانينيات بعد اغتيال السادات، وتولي مبارك، فقد جرى الإعلان في 1981 عن اختيار منطقة «الضبعة»، بدلا من «سيدي كرير»، التي حولوها لمنطقة سياحية، وكلفوا شركة فرنسية بإعداد الدراسات والبنية الأساسية، ودفعوا لذلك 500 مليون جنيه بأسعار وقتها، ثم جرى الإعلان رسميا عن مناقصات عالمية لإنشاء محطة «الضبعة» النووية في عامي 1983 و1984، وكان الاعتراض الأمريكي هذه المرة معلنا، فقد أعلن بنك التصدير والاستيراد الأمريكي اعتراضه، بسبب ما سماه ضعف الاقتصاد المصري، وعدم قدرته على تحمل تكلفة مشروع بحجم المحطة النووية، وكانت التكلفة وقتها أقل من مليار دولار، بينما تصل الآن إلى خمسة مليارات، وكان ذلك تكرارا حرفيا لدعوى «البنك الدولي» في اعتراضه على تمويل مشروع «السد العالي»، لكن عبد الناصر رفض الحجة الركيكة في 1956، وأمم قناة السويس، وبنى «السد العالي» ـ أعظم إنجاز هندسي في القرن العشرين ـ رغم أنف الأمريكيين، وكانت هذه الإرادة الوطنية الصلبة غائبة في الثمانينيات، وكلفوا مبارك ـ التابع العاجز ـ بإخراج صيغة الانسحاب من مشروع الضبعة، ووجدوا لمبارك ضالته في حادث انفجار محطة «تشرنوبيل» الأوكرانية التابعة للاتحاد السوفييتي وقتها، ووجدها مبارك فرصة مواتية لإغلاق الملف كله، ومحاولة التخفي بالضغوط الأمريكية المانعة، رغم أن حجة تشرنوبيل ـ هي الأخرى ـ غاية في الركاكة، ففي العالم مئات المفاعلات الذرية ومحطات الطاقة، وحدوث تسرب إشعاعي من محطة قديمة ليس نهاية الدنيا النووية، خاصة أن نظم ونسبة الأمان في المحطات الحديثة تصل إلى مئة بالمئة، ثم أن المحطات النووية لا يصدر عنها أي تلوث ضار للبيئة، وبعكس محطات الطاقة الكهربية المستعينة بوقود البترول أو الغاز أو الفحم أو المازوت، والخلاصة: أن كذبة مبارك المصطنعة كانت مكشوفة، وأن الأمر الأمريكي كان ساريا، وهو ما استمر أثره حتى خلع عائلة مبارك بالثورة الشعبية، رغم لجوء نظامه إلى التلاعب بالورقة ذاتها مجددا في سنوات تلميع جمال مبارك بالورنيش النووي، والعودة إلى «المشروخ» لا «المشروع» النووي، بدءا من سنة 2005، والإعلان الصوري عن الرغبة في تجديد مشروع «الضبعة»، وهو ما لم يتم الشروع في تنفيذه، ولا صدقه الناس أبدا، بل أعلنت جماعة «رأسمالية المحاسيب» عن رغبتها العلنية في تصفية المشروع، وبدأت في حملة ضغوط لاقتناص أرض الضبعة، وتحويلها إلى مناطق سياحية، كما جرى مع سابقتها «سيدى كرير» في أيام السادات، وكادت جماعة «رأسمالية المحاسيب» ـ المحتمية وقتها بنفوذ جمال مبارك ـ أن تكسب الأرض، لولا أن الجيش أبدى اعتراضه، وأشعل «اللمبة الحمراء»، وأجرى مناورات عسكرية غير مسبوقة بالقرب من منطقة «الضبعة» ذاتها، ثم تكرر العدوان على أرض «الضبعة» بعد ثورة 25 يناير 2011، وكادت السلطة تفقد سيطرتها على الأرض بسبب الانفلات الأمني، وجرى نهب وتدمير منشآت البنية الأساسية التمهيدية للمحطة النووية، وأرادت سلطة الإخوان ـ في أيام حكم مرسي ـ أن توجه الضربة القاضية للمشروع، ولم يكن ذلك بعيدا عن هوى الأمريكيين، الذين رغب الإخوان في كسب رضاهم، وأعلن عالم الجيولوجيا والقيادى الإخواني د. خالد عبد القادر عودة، الرغبة في طي صفحة «الضبعة»، وتوزيع أراضي المشروع على قبائل مطروح لكسب أصواتهم في الانتخابات، وبدعوى أن «أرض الضبعة» لا تصلح لإقامة مشروع نووي، وكانت تلك حجة ركيكة تشبه دعاوى مبارك الساقطة، وضعت ثورة إنهاء حكم الإخوان حدها النهائي، وجرت عملية استعادة منطقة الضبعة المخــتارة، وتأهليها لمشروع نووي، تعود إليه مصر في عهد السيسي المغضوب عليه من الأمريكيين.
ولم يكن التحايل بإغلاق ملف المشروع النووي بعيدا عما جرى لمصر المنكوبة، التي دخلت في زمن انحطاط تاريخي طويل بعد حرب أكتوبر 1973، فقدت فيه استقلالها الوطني وحرية قرارها، وجرى استبدال المندوب السامي الأمريكى بالمندوب السامي البريطانى القديم، وأعلن فيه الرئيس السادات أن 99٪ من أوراق اللعبة صارت بيد أمريكا، ثم زادها مبارك ـ أعظم كنز استراتيجي لإسرائيل ـ إلى مئة بالمئة، وهي ذاتها النسبة التى تصرف على أساسها الإخوان، وظنوا أن بوسعهم حكم مصر لمدة 500 سنة، كان الظن أن مصر ماتت، وأن «الضوء الأخضر» من الأمريكيين يكفي ويزيد، وهي المعادلة التي سقطت في 30 يونيو 2013، وتحرك الجيش لنصرة ثورة الشعب بالمخالفة لرغبة الأمريكيين، وبدء سياسة الخطوة ـ خطوة في تقليص التبعية الموروثة للأمريكيين والإسرائيليين، وبتكتيك فرض الأمر الواقع، والإلغاء العملى لمناطق نزع السلاح في سيناء، ومد وجود قوات الجيش المصري إلى خط حدودنا التاريخية مع فلسطين المحتلة، والاستفادة الفورية من درس وقف توريد السلاح الأمريكي لمدة 14 شهرا، بدأت في سبتمبر 2013 بقرار من إدارة أوباما، والاتجاه المصري لتنويع مصادر السلاح، والالتفات إلى تطوير صناعة السلاح الذاتية، وتعظيم قوة الجيش، وزيادة معدلات حضوره في إنجاز قناة السويس ومد شبكة الطرق واستصلاح الأراضي وصناعات السفن والقطارات والبتروكيماويات، وهو ما خلق كيان دولة اقتصادي قوي يحرم «رأسمالية المحاسيب» مزيدا من الفرص، ومع التركيز على أولوية الاقتصاد والسلاح، والتركيز بالذات على مضاعفة حجم الطاقة الكهربية المطلوبة، لبدء حركة تصنيع شامل، مع هذه التطورات وغيرها، جرى رد الاعتبار لأولوية المشروع النووي ومحطات الطاقة الذرية، وبالتعاون مع الروس مجددا، الذين تطورت معهم علاقة شراكة استراتيجية نامية، تعززت بوجود «كيمياء شخصية» مميزة تربط الرئيس السيسي بالرئيس الروسي بوتين.
والنقطة الأهم في القصة كلها، هي السياق الذي يتم فيه إحياء المشروع النووي المصري، الذي بدأ مبكرا، وفي زمن أسبق بكثير من البرنامج النووي الهندي، ومن البرنامج النووي الباكستاني، الذى بدأ أواسط السبعينيات، وإلى حد أن عبد القدير خان ـ أبو القنبلة الذرية الباكستانية ـ قالها صريحة في حوار معه في جريدة «الأهرام» أواخر 1998، «تعلمت الفيزياء النووية في القاهرة خلال الستينيات»، والمعنى ظاهر، وهو أنه ليس المطلوب مجرد إنشاء خمس محطات نووية في «الضبعة»، وبتسهيلات مغرية قدمها الروس، بل المطلوب ـ بالدقة ـ إعادة بناء القاعدة العلمية النووية، وتكثيف الاستعانة بعلمائنا المهاجرين والمقيمين، ومضاعفة الإنفاق على البحث العلمي النووي، وانتزاع حقوقنا في اكتساب دورة الوقود النووي وتخصيب اليورانيوم للأغراض السلمية، فقد كسبت إيران حقوقها النووية، وبوسعنا نحن أيضا أن نكسب حقوقنا، ولدى إسرائيل 300 رأس ذري في أقل تقدير، وقد لا نريد ـ الآن ـ صناعة قنابل ذرية، ولدينا حق الردع الكيماوي والصاروخ الذي لم نوقع على معاهدات حظره، لكن ما نريده هو الاكتساب الكامل للمعرفة النووية، ونحسب أن ما نقوله ليس بعيدا عن طريقة تفكير الرئيس السيسي، الذي أصر على تصنيع أغلب مكونات «المحطات النووية» في مصر، وعلى نقل الخبرة الروسية إلى العلماء والفنيين المصريين، وفي «غزوة» نووية وطنية نعتبرها أجرأ وأخطر قرارات الرئيس إلى الآن.
٭ كاتب مصري
عبد الحليم قنديل
كلام إنشائي يا أستاذ قنديل لا يسمن ولا يغني من جوع وفقر وبطالة وفوضى أمنية وأزمة ماء وكهرباء وتصفيات جسدية لأنصار الشرعية….
الشمس لا تغطى بالغربال والشرعية لا يمنحها بوتين ولا غيره بل يمنحها الشعب المصري عبر صندوق الاقتراع وليس صندوق الدخيرة الحية وهذا الأمر لم يحدث إلا مرة وحيدة في تاريخ المحروسة ولكن العسكر كان لهم رأي آخر. مع التحية.
أكثر مايعجبنى وأقرأه فى المقالات الأسبوعية للأستاذ عبد الحليم قنديل وبصدق…هو تعليقات القراء !
اخيرا اكتشفت السر!! كنت احتار عند قراءة مقالات الاستاذ قنديل: كيف يرى الدنيا بشكل لا يراه احد غيره و عدد قليل معه ممن يعيشون في فقّاعة عجيبة. او بالاحرى عندما لا يرى ما لا تخطئه عين او حتى عقل بسيط. الان صرت اظن ان نظّارات الاستاذ هي السحرية، فهي تمكّنه من رؤية نكساتنا التاريخية على انها انتصارات مجيدة و احلك ساعات حاضرنا المزري على انها صفحات مشرقة. مع ان الحقيقة الحقيقة الساطعة الوحيدة هي ان السيسي يقف في وجه المصريين ليمنعهم من تذوّق اي طعم للكرامة او اللحاق بباقي اهل الدنيا.
أمريكا والسعودية هم من إختاروا النظام الحالي , بعد فترة قد يتم نسيان الموضوع كل لعدم إغضاب إسرائيل وأمريكا , رغم أهميتة القصوى لمستقبل مصر . إعطني دولة طبيعية في العالم يسيطر فيها الجيش علي السياسة والإقتصاد والإعلام والقضاء ..و.. الخ . مصر أكبر من جيشها والجيش جزء صغير منها . التعميم خطر , ليس كل رجل أعمال , خلق فرص عمل , من رأسمالية المحاسيب , النقد , وليس المدح , هو أول وظائف العقل الصحفي من أجل الإصلاح .