سقوط «لاهوت» الرواية العربية

يُفترض أن تكون تلك الاندفاعة الكبرى لكتابة الرواية طوراً من أطوار توسيع هامش المشاركة المجتمعية، أو انعكاساً لها، وذلك في إطار مواز يتمثل في إنتاج المعرفة وتوليد الإبداع، وهو أمر تقره العلاقة الديالكتيكية بين التحولات التاريخية ورحابة الأجناس الإبداعية، حيث يمكن التقاط دلالات الانزياح التي يؤدي فروضها اليوم جيل عريض من المعنيين بكتابة الرواية عربياً، إذ لم تعد خطابات الخاصة قابلة للتأثير في ما بات يُعرف بزمن الحداثة الاجتماعية، بما هي المعادل لحركة الرواية وإحدى قرائنها، بمعنى أن علاقة الإنسان العربي بمفاهيم القراءة والكتابة لم تعد حكراً على فئة مصطفاة، بل صارت مشاعاً لكل فرد يعي حقه في الوجود والتعبير عن وجوده بأي كيفية.
الرواية العربية اليوم ظاهرة اجتماعية أكثر من كونها حالة إبداعية، فالوقائع البشرية الجديدة للإنسان العربي هي التي أنتجت هذه القوالب واللغة الجديدة بمعزل عن إملاءات النخبة، أي استيلاد لغة الحياة الحيّة مقابل اللغة البيانية المصقولة في مختبرات الأدب، أو هذا ما يفترضه الزمن التاريخي الجديد، الذي مارس نقل العلاقات الاجتماعية إلى مواضعات مغايرة، حيث بدأ المقدس يتقّوض ويتبدد في طيات العادي، كما تفككت رومانسية الوحدوي المتجانس لتذوب في شظايا التنوّع والتعدّد والاختلاف، تماماً كما صار الشمولي والمركزي يفقد قدرته على ضبط إيقاع الحياتي بوجه عام، وهو ما حتّم بحث القارئ والكاتب عن لغة ذات وظائفية مختلفة، أكثر فاعلية وملاءمة للحظة.
هذا هو ما يفسر ذلك الكم الهائل من كُتّاب الرواية، حيث لا ينتمي هذا الجيل الكتابي إلى سلالة أدبية، ولم يتأسس ضمن مدارات إبداعية بقدر ما استأنف الكتابة من منصة الحداثة الاجتماعية التي لا تخضع لمرجعية النص باشتراطاته الأدبية، وثقل قضاياه الموضوعية، إنما تتجاوب مع مقتضيات التعبير عن الذات والوجود الشخصي، ليس بالمعنى السِّيري، ولكن بما يحقق الحد الأدنى لمفهوم الفردانية من الوجهة السردية، أي الرغبة في استحضار الأنا داخل كُليات اللحظة المعاشة، بمعنى مجاورة سيرة الآخرين بمشتبهات سيرية للـ( أنا ) التي تحاول انتزاع نفسها من الهامش والتعبير عن وجودها في مدار التحولات.
هكذا يمكن النظر إلى جانب كبير من المنتجات الروائية المتدافعة بلا هوادة، فهي علامة على تاريخ اجتماعي تؤسسه وتصوغ ملامحه ذات تعيش حالة تبدّل مستمر، وهذا هو مبدأ الكتابة الروائية الجديدة التي انتبهت إلى ضرورة الحد من غلواء البطولة في الروايات القديمة وابتداع شخصيات على درجة من العادية، تمثل مطامح وهواجس وواقع الذات الكاتبة، وهذا هو ما يفسر أيضاً ضحالة الخيال في معظم المنتجات الروائية الحديثة، نتيجة اغترافها المباشر من الواقع، والتعامل مع المادة الخام للأحداث كمادة جاهزة وقابلة للاستدخال في النسيج الروائي.
إن ما يحدث على مستوى كتابة الرواية العربية آنياً يشبه إلى حدٍ كبير سقوط لاهوت الرواية القديمة بكل أركانها وأدبياتها، وتلك نتيجة طبيعية لاستخدام فائض الحرية التعبيرية بما يفوق احتمالات الخطاب الروائي، فما يتشكّل خارج الرواية من مجريات ينعكس بشكل آلي داخلها، بمقتضى ذلك التلازم البنيوي ما بين الرواية والحرية، ولذلك تعمل الرواية ضد العقائد الشمولية والمركزية، وتقف على الضد من كل مفاعيل السلطة الدينية والسياسية والاجتماعية، الأمر الذي مكّن الجيل الروائي الجديد من التقاط إشارات الديمقراطية، باعتبارها قرين الفعل الروائي، وباعتبارها أيضاً، ضمن القاموس الحديث، المعنى الأكثر عصرية ومرونة وجاذبية لمفهوم الحرية، وهو الأمر الذي بدا على درجة من الوضوح، سواء في تكثُّر عدد الروائيين، أو طبيعة الموضوعات المطروقة، بدون أي سقوف أو محرمات.
الثالوث المقدس للرواية القديمة لم يعد على تلك الدرجة من الحساسية في الروايات الجديدة، فلا الجنس ولا الدين ولا السياسة يمكن أن تكون سبباً للكتابة أو المساءلة الرقابية، لأن الفضاء بات مفتوحاً على اتساعه، إنما مفهوم الفردية الإنسانية هو الذي صار يفكك كل الحميميات، وما تحيل إليه تلك التماديات التي لا يبدو أنها ستتوقف عند أفقٍ أو محطة، إذ يبدو أن الحيز الثقافي الذي تتحرك على إيقاعه وضمنه الرواية الجديدة، بقدر ما يتمدد، بقدر ما يبهت، فكل شيء يقبل التسريد بوعي لغوي على درجة من العادية، أي بلغة توصيلية مباشرة، فارطة في المدرسية والإخبارية أحياناً.
الرواية العربية براهنها تطرح وبقوة حوارية القدامة والحداثة ولو بشكل مبتذل، حيث الكثرة التي تحاول الحضور بأدواتها البسيطة والعادية والمباشرة لتدفع النخبة الروائية بكل خطابها المركب المؤسس على الخيال والمجاز والاستعارات إلى الوراء، فهذا زمن تاريخي لا يحتمل هدوء وروية وتأمُّل الحكماء، ولا يقر المرجعية الأحادية أو جاهزية النموذج وصرامة النصاب الأدبي، والأهم أن هذا الزمن عرضة لمؤثرات خارجية عاتية تربك الذات والهوية وبالتالي فهو قادر، بل مؤسس على مفهوم الإزاحة عندما يتعلق الأمر بالكتابة الروائية.
لم تتأسس الرواية العربية في فضاء ثقافي ديمقراطي، ولا بموجب نظرية معلومة الأبعاد، بل نشأت في ظل ثقافة مدرسية ترفض أي مساس بالمعتقدات والقيم والعادات والتقاليد، ولذلك صارت منذ لحظة انطلاقتها في حالة من الخصام والخوف في علاقتها مع المدونة السياسية والنص الديني والعرف الاجتماعي، حيث تحتفظ الذاكرة العربية بمحطات لذلك التصادم، ويمكن التمثيل هنا برواية «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ، ورواية «وليمة لأعشاب البحر» لحيدر حيدر، ورواية «قصر المطر» لممدوح عزام وغيرها من الروايات التي تحركت في الأرض الحرام اجتماعياً ودينياً وسياسياً، حيث كانت الرواية ضمن هذا المنعطف تشكل المروية الموازية أو المضادة للتاريخ الرسمي وللعقل الفقهي التلقيني، أما رواية الجيل الجديد المكتوبة بأقلام شابة منقطعة عن المرجعيات التراثية والسياسية والفكرية والحزبية فهي على درجة من الانفلات التعبيري، إلا أن تأثيرها أقل على القراء، وخطرها على مفاعيل السلطة لا يكاد يُذكر.
الروايات الحديثة على درجة من الصراحة ولا تقبل التأويل، فهي أشبه ما تكون بالخطابات التي تشكل بدورها امتداداً للظاهرة الاجتماعية، فهي لا تتكئ على رصيد تنظيري وتجذيري للوعي كما كانت بدايات الرواية العربية تتأسس في ظل خطاب الكواكبي المقاوم للاستبداد مثلاً – ورواد حركة النهضة، وما تلك الغضبة الجماهيرية التي تدفعها بقوة في ما يشبه المهرجان إلا رافعة حماسية لا تعمل داخل الخطاب الروائي نفسه، إلا بما يعزز فكرة تعدّد الآراء وحرية التعبير والتنوّع الكلامي، بمعنى أن السياق المعاش، خصوصاً في لحظة ما يُعرف بالربيع العربي، التي أعطت للإنسان العربي حق الصراخ، هي التي أعطته حق كتابة رواية بالإيقاع والإمكانات اللغوية والمفهومية ذاتها.
وعلى الرغم من أن المنتجات الروائية الحديثة تمثل آخر ما يعيشه ويعتقده الإنسان العربي، إلا أنها لا تمثل الحداثة الاجتماعية المفترضة، فهي كتابة جديدة مبرمجة وفق مسطرة اجتماعية لها ملامح جماهيرية، سواء على مستوى الذوات الكاتبة أو المجتمع القرائي، أو حتى الفضاء الإعلامي، حيث يفرض هذا الحقل الثقافي بكل أبعاده الكونية شروطه على الأداء الروائي، وإذ تتحقق المشاركة المجتمعية بكثافة تتضاءل فاعلية الحرفية الكتابية، حيث لا ينفصل أي نصٍ روائي عن البنية التي أنتجته، والنصوص العمومية لا تفتقر إلى فنية الأداء الإبداعي وحسب، بل تخلو من الجرعات التنويرية، وكأنها تبحث عن نظرية لتستوي على إيقاعها.

كاتب سعودي

محمد العباس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتورجمال البدري:

    تحياتي للسيد محمد العباس…أولاً لا يوجد شيء اسمه لاهوت الرواية العربية ؛ ولا
    لاهوت للرواية غيرالعربية.بل هناك شيطان للشعريقال إنه يقيم في وادي عبقر.أيّ
    أنّ الرواية ( رحمانية ) والشعرهو( الشيطاني ).واللاهوت يكون لمحاربة الشيطان.
    أما بشان الخطابة في الرواية العربية اليوم قياساً لمرحلة الرواد ( الرومانسية ) فليس
    الأمركما ذكرالسيد العباس بل يعود إلى غياب البلاغة في الكتابة العربية.وغياب هذه البلاغة يجعل الأسلوب العربيّ ؛ ( سطحياً ) وإنْ كانت الحجة التقرّب إلى مستوى
    الشعب..الشعب العربيّ ولوكان أمياً يفقه البلاغة ؛ لأنها أساس لغة القرآن.إنما حصل هذا الغياب بسبب ( انخفاض ) مستوى الكاتب بالعربية اليوم ؛ نتيجة التسطيح في التعليم والثقافة الجادة ؛ تقليداً لمدارس غيرعربية.غياب البلاغة يقتل الأسلوب العربيّ
    ولوكتب به الجاحظ أوابن العميد…والبلاغة تقوم على ثلاثة علوم فنية هي :
    البديع من سجع وجناس وطباق وتورية.والبيان من تشبيه ( مفرد وصورة وتمثيلي ) ومجازومن صوره الاستعارة بأنواعها التصريحية والمكنية والتمثيلية والكناية بأنواعها…ثمّ هناك علم المعاني من خبروإنشاء بأنواعه الطلبي وغيرالطلبي…فإذا لم
    يتقن الكاتب ( العربيّ ) البلاغة وفنونها الأدبية ؛ سيبقى مجرد ترجمان أحول.شكراً.

إشترك في قائمتنا البريدية