بعد الحرب العالمية الثانية أصبح مسؤلو الولايات المتحدة الأمريكية وكذلك الأكاديميون المرتبطون بقضايا السياسة الخارجية، يعتبرون منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ذات أهمية استراتيجية عظيمة وساحة أساسية للحرب الباردة. ولذلك أنشأت الجامعة الأمريكية على وجه السرعة برامج دراسية سريعة مصممة لاطلاع العسكريين على طبيعة البلاد التي ربما يحاربون فيها قريبا، والشعوب التي ربما يتولون إدارتها. ما نتج عنه دخول عدد مهول من الباحثين الأمريكان والبريطانيين ممن لديهم أي معرفة بالبلاد «الغرائبية» ولغاتها في المؤسسات الحكومية للعمل في المخابرات أو إدارة البحوث في الخارجية أو الجيش. وهناك التقوا وتعاونوا مع باحثين آخرين ممن تدربوا على علوم اجتماعية مختلفة (التاريخ، الانثربولوجيا، العلوم السياسية، الاقتصاد) ولكنهم يشتركون معهم في الاهتمام بمنطقة معينة في العالم، ويسعون إلى جمع معلومات عنها ومعالجتها وتقديم تحليلات يمكن أن تفيد في المجهود الحربي. الأمر الذي أفرز في نهاية الأمر حقلا جديدا بات يعرف بـ «دراسات المناطق» تقوم فكرته بحسب المؤرخ الأمريكي زكاري لوكمان – كما عبر عن ذلك في كتابه المهم «تاريخ الاستشراق وسياساته»- على مسألتين أساسيتين:
الأولى: ضرورة عدم اقتصار الباحثين على الحدود الضيقة لعلومهم، وانفصالهم عن بعضهم البعض، بل توجب على كل المهتمين بمنطقة معينة من العالم، أيا كان تخصصهم العلمي، أن يعملوا معا لإنتاج معرفة مفيدة ومتصلة بالسياسة.
الثانية: ترى ان الحقول التقليدية كالاستشراق تميل إلى اعتبار الحضارات التي تدرسها ساكنة وغير قادرة على التغيير، بينما افترض ان تأسيس دراسات المناطق على العلوم الاجتماعية ينقل بؤرة البحث إلى ديناميكيات التغير السياسي والاجتماعي والاقتصادي في العالم المعاصر مما يفضي إلى خبرة متعددة العلوم والأبعاد تكون مفيدة في صناعة السياسة.
وقد حظيت المقاربة الثانية بتأييد أساطين المدرسة الاستشراقية، أمثال هاملتون جب الذي اعترف بقصور الاستشراق الكلاسيكي بحكم تركيزه على «الثقافة الكبرى» أي المعايير الكلية كما يعبر عنها أو يتضمنها الأدب والدين، وإلى ضرورة جعل المستشرقين وعلماء العلوم الاجتماعية يعملون معا لإنتاج معرفة عن الشرق الأوسط والإسلام، لا تكون فقط أكثر شمولا ولكن أكثر فائدة للسياسات الحكومية.
لكن رغم هذه الاعترافات بقي أبناء المنظومة المعرفية الاستشراقية يصرون على أن المستشرق وحده هو الذي يفهم الخواص الجوهرية للحضارة الإسلامية لأنه قادر على رؤية المعلومات في سياق أوسع ومنظور طويل المدى للعادات والتقاليد الثقافية، وعلى أنهم أفضل من يفسر ما يجري في الشرق الأوسط. بيد أن علماء العلوم الاجتماعية الذين لعبوا الدور القائد في الخمسينيات والستينيات لم يكونوا مأخوذين كثيرا بهذه الادعاءات، وبدلا من ذلك أعتنق معظمهم برادايم جديد أصبح يعرف بـ «نظرية التحديث» التي أخذت تسود في دراسات المناطق عموما في الولايات المتحدة الأمريكية .
وفي هذا السياق، يمكننا تتبع الجذور الفكرية لنظرية التحديث بالعودة إلى ما كتبه ماكس فيبر عالم الاجتماع الألماني في منعطف القرن العشرين. حيث ميز فيبر بين المجتمعات «التقليدية» والمجتمعات «الحديثة «. فالأولى فيما أكد ريفية وزراعية إلى حد كبير، ويكون التغيير الاجتماعي والنمو الاقتصادي فيها بطيئا وتدريجيا. وتقوم العلاقات بين الناس فيها إلى حد كبير على عوامل من قبيل القرابة والانتماء الديني والوطنية، في المقابل فالمجتمعات الصناعية مدينية وصناعية إلى حد كبير، والتغير الاجتماعي والنمو الاقتصادي السريعان هما القاعدة وليس الاستثناء. كما لا يتم تصنيف الناس بمعايير عائلاتهم أو جماعات قراباتهم أو دينهم، ولكن وفقا لمعايير عقلانية وموجهة علميا وديمقراطيا ومساواتية نسبيا.
كما أن التحديث عملية وحيدة الخط، بمعنى أن كل مجتمع معاصر يمكن أن يوضع في نقطة ما على طول مسار ثابت للتطور التاريخي يقود من التقليد إلى الحداثة الحقة. ولذلك فان التغيير يجب أن يأتي من الخارج، وهو ما يعني إلى حد كبير النفوذ السياسي والثقافي والاقتصادي للغرب.
مع ذلك يلاحظ زكاري لوكمان أنه بينما ركز علماء الاجتماع على القطيعة مع الرؤية الكلاسيكية الاستشراقية، فان هناك تشابها في كيفية اقتراب نظرية التحديث والاستشراق الكلاسيكي من العالم، من حيث افتراض أن كل منهما قام على مقدمة منطقية ترسم تمييزات حادة بين الغربيين وبين اللاغربيين. فبينما مال الاستشراق إلى رسم تمييز حاد بين الإسلام والغرب فصورهما كحضارتين مختلفتين جوهريا، مالت نظرية التحديث إلى وضع تمييز لا يقل عنه حدة بين التقليد والحداثة.
بيد أن الجديد في هذا الحقل (ونعني هنا دراسات المناطق) هو ما يراه د. حميد دباشي (أستاذ الأدب المقارن في جامعة كولومبيا) في كتابه الصادر حديثا بالعربية عن دار المتوسط/ميلانو «ما بعد الاستشراق: السلطة والمعرفة في زمن الإرهاب، ترجمة باسل وطفة، مراجعة حسام الدين محمد».
حيث يرى انه مع انهيار الاتحاد السوفييتي وصعود الوهم الامبراطوري الأحادي القطب، فقدت الأقسام المتخصصة بوضع دراسات الشرق الأوسط أو «الشرق الأدنى» في الجامعات الأمريكية والأوروبية أسباب وجودها آنذاك، وانحسرت هذه الأقسام إلى شكل مستقل من اللاعلاقية، أو توجهت نحو تعليم لغات أمنية (أو كما تسمى عن جدارة «اللغات الهدف» العربية والفارسية والاوردو على وجه الخصوص» في أوساط الاستخبارات، أو مضت في إظهار محاسن النظرية أو المفهوم عن طريق الجدل مع الضد بحسب المنظور الهيغلي، أو أضحت أقساما نشطة للدراسات الما بعد كولونيالية.
ولذلك فان المعرفة اليوم حول الشرق الأوسط والعالم الإسلامي لم تعد ترتبط بالأنساق الاستشراقية أو المناطقية السابقة، بل يمكن النظر لهذا الطور المتأخر من إنتاج المعرفة بمثابة نسق جديد يمكننا تسميته «ارتشاحا معرفيا». حيث لم تعد الجامعة أو معهد الأبحاث مراكز لهذا النوع من المعرفة، وانما يجري ذر هذه المعرفة على نطاق واسع ضمن المنتديات العامة والخاصة المختلفة بحيث لا يمكن تبويبها وتصنيفها، فيغدو فعلها أقرب إلى العزف النشاز : يشير الارتشاح هنا إلى تدفق المعلومة/التضليل باتجاه الداخل عبر غشاء نفوذ من الإعلام الجماهيري ـ شبكة خلوية معقدة واسعة الانتشار أو تجاويف مغلقة حيث تجري عملية التحويل نحو المجال العام الجماهيري.
وفي هذا الوضع الجديد، يجتمع النقاد والخبراء ومراقبو الأمن القومي، والوشاة المحليون (والذي يعني بهم دباشي الباحثين في أمريكا من اصول غير أمريكية أمثال الإيراني ولي نصر واذر نفيسي صاحبة رواية «أن تقرا لوليتا في إيران» وكذلك الراحل فؤاد عجمي وسلمان رشدي وغيرهم) وكذلك المسلمون المرشحون ليكونوا «مارتن لوثر» العالم الإسلامي أمثال طارق رمضان ورضا أصلان لاستحداث وتخريج نمط بعينه من المعرفة حول موضوعات ومجالات الرضة المسببة، ثم تتم موضعة هذه المعرفة من خلال تدويرها في فضاء الإعلام الجماهيري واكسابها الشرعية عبر تداولها علنا في منطوق السلطة بما يؤدي بالنتيجة إلى استدخالها كحقيقة ناجزة.
وربما ما يثير قلق دباشي، أن هذه الأنماط من إنتاج المعرفة عن الإسلام والشرق الأوسط باتت تحظى بشعبية غير محدودة، وهي أكثر فعالية على المستوى السياسي، وأكثر اسهاما في قولبة الآراء والمحاكمات وحتى عمليات التصويت في السياقات الديمقراطية على المستوى الاجتماعي من المكتبات العامرة بالأبحاث التفصيلية التي أعدها باحثون مسؤولون ومؤهلون.
ففي هذه السوق المعرفية الجديدة، يتنافس اولئك العاملون في الإعلام مع شركات العلاقات العامة لانتزاع حصة الأسد من الاهتمام الجماهيري من خلال معرفة منتجة، خبيثة العواطف، تلقائية التسويق، والأهم من ذلك انها تستعمل مرة واحدة في الحيز المؤثر الذي تولده. وعلى هذا النحو، فهم لا يخاطبون جمهورا بعينه، أو يشكلون جزءا مكملا في بناء الموضوع. انهم آنيون يستعملون لمرة واحدة في عملية تلفيق القبول الجماهيري، مقنعون في نبوءاتهم السياسية التي تحققت اليوم، منبوذون في الجولة التالية من مغامرة القوة العسكرية الأمريكية في الغد.
وبناء على ذلك، يخلص الكاتب إلى ان ما نشهده اليوم في سياق حرب الولايات المتحدة على ما يسمى «الإرهاب» قائم في الأصل على وهم امبراطوري احادي القطب، ينتج معرفة متداولة معدة للاستعمال مرة واحدة بمعدل مغامرة عسكرية أمريكية واحدة تلو الأخرى . ففي السابق، كانت الحقبة الكلاسيكية للاستشراق، ويعني هنا الاستشراق بوصفه الذراع الذكية للكولونيالية، منسجمة مع السيادة المطلقة للذات العارفة الأوروبية، حيث مضت جيوش من المستشرقين المنتفعين حول العالم ومثلته في إطار معرفة مقولبة تمكن من استملاكه وحكمه معا على حد تعبير ادوارد سعيد .
أما اليوم لم يعد لذلك النمط من إنتاج المعرفة والذات السيادية التي انتجته وجود، وما يجثم فوق صدورنا اليوم هو عصر «الحياة العارية» في ظل دولة الاستثناء (الحكم الامبراطوري)، حيث تكون المعرفة هي تلك المعرفة المقدمة بطريقة الارتشاح ـ إنتاج المعرفة المعنية في مراكز الفكر وارتشاحها إلى المجال العام وهي أجناس مختلفة من معرفة منتجة معدة للاستخدام مرة واحدة، لا تقوم على معرفة ثابتة أو مشروعة أو قائمة على منظومة معينة كما كان يفعل الاستشراق ولاحقا دراسات المناطق، وانما باتت تنتج معرفة أشبه بالسلع ذات الاستعمال الواحد وغير القابلة للاستبدال. معرفة منتجة على شاكلة الوجبات السريعة، أكواب وأشواك وملاعق بلاستيكية، لا سلطة فيها لكتاب من امثال ولي نصر ونوح فيلدمان على أي شيء يذكر، فهم مخولون فقط بإنتاج معرفة عمومية واسعة الانتشار وبعيدة عن نطاق تخصصهم ومعرفتهم، وخاصة أن هذه المنتجات قد وجدت في ذروة مخاوف ما بعد الحادي عشر من ايلول/سبتمبر الكثير من الزبائن المتقبلين لهذا الهراء.
كاتب سوري
محمد تركي الربيعو
تحياتي للكاتب محمد الربيعو..وأهنئه على مقاله الرائع والجريء ( والدسم ) برؤيته
المعرفية المليئة بالمداخل والمخارج ( المتعشقة ) رغم كثافة المادة وتكثيف المقال.
A very well written journalism, the depth n academy of the article is insured . The west has achieved a very advanced stage of manipulation of the Middle East n northafrica . I can hardly say that we re running n controlling our own life . Time to reconsider every issue with our fellow subjects n let set decent targets n goals , cause it s not worth not fighting n struggling for proper n decent life .
مستشرقين وجواسيس!