ما نُكِب العربُ في المرحلة الراهنة من تآكل أو نضوب شرعية نظم حكمهم قدر ما نكبوا بمصطلح «الشرعية» نفسه.
وزادت النكبة جراء اختلاط الحابل والنابل بين «الشرعية» التي من «شرع»، أي الشرعية ذات المصدر السمعي أو النقلي، على غرار «السياسة الشرعية» التي دار حولها جزء من مصنّفات الفقه السياسيّ في العصر السلطاني، وبين «الشرعية» المحاكية لمفهوم الليجيتمية الغربي، والتي لا صبرَ عند معتمديها بيننا لتدبّر تاريخ تحوّل المفهوم في مجاله الحضاريّ المسيحي – الأوروبيّ، من «شرعيّة الحق الإلهي» التي كانت سارية في الدم الملكيّ حالما يُكرّس من «الحق الإلهيّ الموازي» المجسّد كنسياً، إلى شرعيّة هذا الإله الاصطناعيّ، المخترع لذاته بذاته، كإله وملك وكنيسة في الوقت نفسه، والذي اسمه «الشعب»، والذي تعمل مؤسسات الدولة البرجوازية الحديثة في الوقت نفسه على تأكيدها التحدّر منه، والاحتكام اليه، والتجدّد من خلاله، واعادة تصنيعه وتشذيبه وصيانته على الدوام، وعلى تذكيره عملياً ودائماً بأنّه اصطناع، فلا يمكن أن تُشبّه شرعيّته بأية حال بشرعية الحقّ الإلهيّ الأصيلة التي كانت للملوك، ولا شرعية التكريس الإلهي للملوك، والتي كانت للأحبار.
وبهذا المعنى، فالشرعية الحديثة، كما عرّفها ماكس فيبير، هي شرعية ممأسسة ومقوننة، لكنها تدرك في الوقت نفسه إنّ الإسراف في مأسستها وقوننتها سيأتي على «رَوبة السحر» اللازم أن لا تتحلّل فيها كلياً، مثلما أنّ تراجع فعالية المؤسسات، وارتفاع نسبة من يعتبر نفسه في حل من عهدتها بشكل أو بآخر، سوف يعني أزمة شرعية في المقلب المعاكس للأوّل.
فالشرعية الحديثة مفهوم مأزقي بامتياز، لا مستقرّ له إلا بشكل نسبي، واستقراره فوق اللزوم يعني ركوده وتعكيره، كما أنّ الشرعية تحاكي مفهوم الايمان عند الأشاعرة، اذ أنّها هي الأخرى ليست مطلقة الحضور أو مطلقة الغياب، بل أنها شرعية تزيد وتنقص. ليس هناك والحال هذه، دول أمم أمّنت نهائياً مطلق الشرعية، كما أنّ كل مجتمع يعيش حالة من السلم الأهليّ ممتدة ومزمنة لا بدّ أن يكون نظام الحكم فيه قابضا على بعض من مصادر أو أسباب الشرعية، حتى ولو لم يكن نظاماً دستورياً تعدّدياً، أو ديمقراطيّاً ليبرالياً. فحتى الشرعية بمفهومها الحديث لا يمكن أن تختزل تماماً في شكلها الأمضى، أي الشرعية الدستوريّة، مثلما أن ثنائية «الشرعي والقانوني» (الليجيتمية والليغالية) لا يمكنها أن تكون حاصرة لكل معاني الشرعية.
لا يمكن حصر الشرعية الحديثة بتلك الدستوريّة، أي بتلك التي ينبثق فيها الحاكم عن عقد اجتماعيّ بين من هم في الوقت نفسه تأسيسيون ومحكومون ومختارون للحاكم من بينهم ومتداولون له وخاضعون لقانون مستقل عن الحاكم. بل يمكن أن «تتعايش» هذه الشرعية الدستورية، أو تتداخل، مع شرعية من نوع آخر، تتأتى من عقد فوقي، بين الحاكم والمحكوم. فتسلّطية نظام الحكم لا تلغي بالضرورة شرعيته، خاصة إذا نجحت في حياكة ستار قانوني متماسك إلى حد ما. تسلطية الحاكم تحصر شرعيته طبعاً، تجعلها متخلّفة عن الشرعية الدستورية، تجعلها عرضة للتآكل بسرعة أكثر، لكنها لا يمكن أن تلغيها تماماً، إلا في الشعار السياسي للساعين إلى تغيير الأمور بالضد من ذلك.
طالما أن الحاكم المتسلّط لا يزال يحتفظ بقاعدة اجتماعية لحكمه، وبحد أدنى من السلم الاجتماعي في ظلّ حكمه يظلّ يحتكم على شرعية ما، حتى إذا اختل أحدّ هذين الشرطين، أو كليهما، ذهبت «شرعيته غير الدستورية» هذه.
يمكن القول أن شيئاً من هذا حصل عام 2011، فشرعية لادستوريّة ما ظلّ يحتفظ بها حسني مبارك حتى انفجار الانتفاضة الشعبية ضده واتخاذها لمسار تصاعدي، مع كون القاعدة الاجتماعية لنظام حكمه أوسع من تلك التي كانت لنظام زين العابدين بن علي، الذي تهاوى قبله.
لكن حسني مبارك لم يقدّمها كشرعية لادستوريّة، بل كشرعية دستوريّة، واستفحل غيّه في أيّامه الأخيرة وهو يتلاعب بذكر مواد الدستور كأرقام في لعبة حظ. وفي الوقت نفسه، لم يتخلّ كلياً عن «الشرعية الثورية» أي تلك التي يعتبر من خلالها نظام حكمه، وطموحه التوريثي لأولاده، امتداداً لـ»ثورة 23 يوليو» والضباط الأحرار.
ومن جهة الانتفاضات الشعبية حصل التخليط أيضاً، بين «الشرعية الثورية» للميادين وبين مفهوم الشرعية الدستورية. يوماً بعد يوم، وعلى امتداد الرقعة العربية المشمولة بما صُنّف «الربيع»، صار الانزلاق واسعاً ومتنوعاً.
فالشرعية الثورية للميدان يمكنها على الأكثر نزع الشرعية عن حاكم، لا سيّما إذا كان حكمه غير مستند لقنوات دستورية جدية، واذا كان حكمه لم يعد قادراً على ضمان السلم الأهلي، واذا صارت القاعدة الاجتماعية المساندة لحكمه مغلولة اليدين أو متصدّعة (في سوريا حدث العكس، القاعدة الاجتماعية للنظام، الطائفية أساساً، برهنت عن حيوية دموية ملفتة، فافتتحت اللعبة الجهنمية بنسف السلم الأهلي، بل المجتمع نفسه).
لكن الشرعية الثورية لا يمكنها أن تنقل الشرعية من الحاكم إلى الميدان إلا بشكل مؤقت جداً، ومحدود للغاية، وبتبعات وخيمة ان جرت المكابرة على الاستحالة العملية للتعبئة الدائمة للجماهير، ووهم التعبئة الدائمة مصاحب في الغالب للانتفاضات الجماهيرية. الانزلاق سهل وخطير من «الشعب يريد» إلى «الشعب هو» إلى «نحن الشعب».. إلى «أنا الشعب».
الشعب كائن اصطناعي. الأمة جماعة متخيلة. الثورة استعارة قبل أن تكون شيئاً آخر، ثورة في المجاز وبه وعليه في آن. اغفال هذه الأبعاد الثلاثة يؤدي دائماً إلى الانزلاق من «شرعية ثورية بالسلب» إلى «شرعية ثورية بالايجاب». الأولى أكثر من مبرّرة: عندما تخرج نسبة جماهيرية متحركة من الناس وتسحب الشرعية عن الحاكم لا يمكنه أن يتصرّف معها كما لو أنّ شرعيته ثابتة، حتى ولو كان في نظام دستوري تعددي، وحتى لو جاءت به صناديق الاقتراع في الأمس القريب، فكيف ان لم تكن هناك صناديق أو دساتير جدية، وكيف إن توهّم بأن شرعيته تزيد ان تمسّك بها أكثر، أو تمسّك بها أنصاره أكثر، فيما أنصاره يبلعون ما بقي منها ساعة تحويلها إلى عنصر تشطير المجتمع، أو الاطاحة بالسلم الأهلي.
«الشرعية الثورية بالايجاب» فهذه غير محمودة العواقب. تتوهّم أولاً امكان «التأسيس من عدم». تفترض لحظة قصوى يمكن من خلالها افراز كل الأمور من جديد، ولهذا مضاعفات عكسية، وارتكاسية بامتياز، خاصة ساعة لا يرتبط المناخ الانتفاضي بوضع ثوري على صعيد الحسبة بين الطبقات الاجتماعية. التأسيس من عدم يضرب المخيلة العملية لدى أهل الانتفاضات. قد تكون النظرة للشعب ككائن اصطناعي لها جوانبها السلبية بامتياز، والتي تساعد على اعادة انتاج هيمنة أصحاب الثروة واعادة تشكيل مراكز القوى لدى أصحاب الشوكة في الأمن. لكن النظرة المقابلة للشعب ككائن حي عضويّ جماعيّ هي الكارثة بعينها. فهذا يريد في لحظة أولى أن يكون للشعب «قدمه»، وذاك «ساعده» أو كتفيه، ففمه وعيناه، فرأسه، لننتهي إلى الحاكم بوصفه تلخيصاً للشعب، والشعب كأطراف لجسد الحاكم.
الشعب ككائن اصطناعي اعتباري، يمكنه ان يسحب الشرعية من حاكم، لكنه لا يمكن أن يحتفظ بالشرعية لنفسه حتى ولو لوقت انتقالي، إلا كشرعية سلبية، اي اسقاط شرعية كل ما ليس شرعياً أو يدّعي الشرعية دون استجماع شرائطها، وليس كشرعية ايجابية، فهذه ممكنة فقط بالعقد، سواء كان عقداً فوقياً، بين حاكم ومحكومين، أو عقداً اجتماعياً، بين تأسيسيين لن تسحب منهم بشكل نهائي سلطتهم التأسيسية، مثلما أن شرط انبثاق الحاكم من بينهم تداول الحكم فيما بينهم.
بعض من الطابع السحري، الاطلاقي، لمفهوم الشرعية، وبعض من تفشي المفهوم العضوي للشعب ككائن حي بدلاً منه ككائن اصطناعي، زادا من المشكلات الذهنية والمجتمعية التي علقت بها الانتفاضات الشعبية، وهذا تكرّر مؤخراً، ولو في رقعة أكثر انحساراً، في الحال اللبنانية، مع الحراك المدني الشعبي على خلفية أزمة النفايات.
مرة أخرى، الانزلاق السريع من «الشعب يريد» إلى «نحن الشعب» قاد إلى هوة بين الشعب بناسه، والشعب متخيلاً ومشتهياً. وفي وقت يعيش فيه نظام «الجمهورية الثانية» أزمة شرعية واسعة النطاق، بان مرة جديدة، بأن تآكل شرعية نظام لا تجعل الشرعية تتطير كطائر السيمرغ الذي هو الحقيقة الناصعة الخالدة كلها في تصوف فريد الطين العطار. الشرعية ليست / أو لم تعد: هذا ما يمكن أن يقوله الميدان. الشرعية الآتية أو المقبلة ليست موجودة في أي ميدان سحري. هي تصنع بالعقد الاجتماعيّ إذا ما أريد لها أن تتشكّل كشرعية حديثة، دستورية تعدّدية. في وضع لبنان هذا يعني، ان الموت السريري للجمهورية الثانية لا يعني اوتوماتيكياً ولادة جمهورية ثالثة من رحم هذا الموت. هذا يعني نطاقا واسعا للأفكار.. الانتقالية.
٭ كاتب لبناني
وسام سعادة
عندما يصل البل إلى الذقن يصبح الجميع فجأة مدافعين شرسين عن نظام الأمر الواقع و يكتشفون أن الحرية , الشعب , المحاسبة , الميادين الخ , كلها أمور اصطناعية , و أن النخب على فسادها هي الحقيقة الوحيدة التي يجب الدفاع عنها , لأن محاولة الشباب الغاضب تحويل أشياء “اصطناعية” كالشعب و الميدان و الثورة و الشرعية الثورية إلى حقائق و وقائع , لا تهدد فقط هذه النخب و هيمنتها , بل تهدد أيضا المجتمع و السلم الأهلي , الخ , هكذا تفتح النار على “أوهام” الحراك الشبابي اللبناني , دفاعا عن النظام , الذي مهما كان فاسدا و عاجزا الخ , فهو أفضل من فوضى الحراك و مخاطره .. لا جديد هنا لا يقله من قبل منظرو أنظمة مبارك و الأسد و القذافي , عندما يبدأ الناس بالفعل أن يأخذوا مصيرهم بيدهم , يصبحون فجأة خطرا على أنفسهم و مجتمعاتهم , التي طالما كانت بأمان , طالما كانت في يد النخب , حتى لو كانت فاسدة …