سياسة الإلهاء الجنسي

■ لأول وهلة يبدو الأمر وكأن ثالوث المحرمات العربي قد كسر، وأن التابوهات القديمة قد تجاوزها الزمن، فمن ناحية لم يعد التنظير في المجال الديني ممنوعاً (الإسلام خاصة)، بل صار مباحاً لكل من يأنس، أو لا يأنس، في نفسه الكفاءة، ومن ناحية أخرى فإن التطرق للموضوعات الجنسية صار متاحاً على أصعدة الفن والأدب والإعلام، بشكل جعل ما كان نصفه بالجرأة قبل ثلاثين أو أربعين عاماً معتاداً ومتواضعاً اليوم.
أي أنه لم يتبق لنا من تابوهاتــــنا القديمة سوى السياسة، التي ستبقى محرمة في كثير من أوطاننا لوقت طويل على صعيد الفن والأدب، إلا في حال تماهيها أو تصالحها مع مشروع السلطة الحاكمة.
بالعودة إلى الجنس كـ»ثيمة»، أي محور للأعمال الأدبية والفنية، نلاحظ بوضوح أن الذي يحدث حالياً من خلال المنشورات، ولكن بصورة أوضح من خلال التلفزيون، قد تجاوز إطار الحرية الإبداعية ليدخل مجال سياسة ممنهجة لما يمكن أن نسميه بظاهرة «التحريض على الجنس»، التي تتجلى من خلال التوسع في قاموس الكلمات النابية تلفزيونياً، ومن خلال اشتهار مغنيات لا يملكن أي مؤهلات حقيقية غير أجساد عارية.
لن نجد أكثر تعبيراً من كلمة «تحريض» حين تتم استضافة «نجمة» لتتحدث بصراحة عن تعدد علاقاتها وتجاربها، وسط تصفيق جمهور من معجبيها، أو حين تتحدث أخرى بفخر عن كونها أصبحت نجمة إغراء لا تنافس. أما لو اعترضت على أي برنامج من تلك، فإنك لا شك ستسمع من ذلك المذيع ومن يسانده مرافعات عن حق الإنسان في التعبير، وعن المجتمع الحداثي التقدمي، وسيتم اتهامك ببساطة بالرجعية والتخلف، وأنك إنما تريد أن تقهر الناس، وما إلى ذلك من اتهامات تتناقض مع منع القناة ذاتها لكل الأصوات الناقدة، خاصة تلك التي يمكن أن تتناول بنقدها إخفاقات هذا الزعيم أو تلك الحكومة.
هي إذن حرية كاذبة، وأغلب الظن أنه لا يمكننا تجاهل الارتباط بين المشروعات السياسية العربية وأذرعها الإعلامية، لأننا ما نزال، في الغالب الأعم، ضمن الفضائيات المدعومة بشكل مباشر أو غير مباشر من الشخصيات السياسية النافذة والأسر الحاكمة، مما يرجح وجهة النظر التي تقول إن هناك تقاسماً للأدوار بين فضائيات التحريض على أبناء الوطن «الآخرين»، وفضائيات التسطيح والتحريض الممجوج على الجنس.
الحكومات العربية التي صنعت التابوهات هي ذاتها التي تقوم اليوم بكسرها، بتمريرها للبرامج التي تنتقد كتب التراث والنصوص المقدسة، بحجة محاربة التطرف والتجديد الديني، هي التي تخلق الفوضى بمنحها فرصة الإفتاء في الدين لمن لا يفرق بين ما هو اجتهاد خاص بمجموعة إسلامية معينة وما هو ثابت وأصيل، وهي نفسها من جهة أخرى التي تمول برامج الإلهاء الجنسي وفوضى التفاهة. أنظر على سبيل المثال لـ «برومو» الأفلام الجديدة، فعلى عكس الأمريكية التي تقدم للإعلان عن فيلم جديد ملخصاً للقصة ومشاهد تبرز لحظات أساسية سريعة فيها، فإننا نجد في الإعلان العربي مقتطفات لا تكاد تخبرك بشىء سوى احتواء العمل على الكثير من النكات الجريئة والرقصات الخليعة والفتيات شبه العاريات!
هل يمكن أن تلتقي السياسة مع الجنس؟ من الناحية النظرية فإن هناك الكثير من نقاط الالتقاء، فكل من رجال السياسة الفاسدين ورجال بزنس الإلهاء الجنسي يبحث عن الربح، الأول يريد البقاء في السلطة وإشغال الناس، خاصة الشباب، عن متابعة ما يفعل من جرائم ضد وطنه وأمته، والثاني يريد حرية أكثر من أجل الربح المادي.
كلاهما يرى أن السقوط مهم من أجل تطويق عقول الشباب وأسرها. لماذا الشباب؟ لأنهم يشكلون هاجساً كبيراً لكل الأنظمة فاقدة الشرعية، فهم من كانوا وقود الثورات، وهم من لا يملكون أحلاماً كبيرة ولا يخافون على وظيفة لم يحصلوا عليها بعد، ولا على عائلة لم يكونوها، فهم المستعدون، في حالة امتلاك الوعي الكافي، لقيادة التغيير والتضحية في سبيل ذلك بأرواحهم ببساطة لو لزم الأمر، وهي فكرة تؤرق كل طاغية بلا شك. قد يقول قائل إن الأفلام التافهة كانت حاضرة في كل وقت، وذلك صحيح بالتأكيد، لكن انتشارها عبر السينمات المحدودة التي لا يدخلها كل الناس، ثم عبر أشرطة الفيديو كان بأثر مختلف، حيث كان المشاهد يملك في الغالب حرية الاختيار من خلال القبول أو الرفض أولاً، واختيار التوقيت ثانياً. أما اليوم فإن القنوات تتنافس على إذاعة كل شيء بلا تشفير ولا حذف، وفي أي وقت، سواء كان ذلك ظهراً أو حتى في قلب رمضان.
رجال بزنس الإلهاء الجنسي لم يكتفوا بأن أتاحوا تلك الأفلام وجعلوها في متناول العين داخلة في كل بيت، بل قاموا بما هو أكثر باحثين عن مواهب فتنة جديدة بين مطربات وراقصات ملاهي الدرجة الثالثة، اللواتي لا يتورعن عن التعري أمام السوقة من أجل تقديمهم عبر الشاشات الصغيرة والكبير،ة ليس كشخصيات شاذة، بل كنماذج تحتذى أو أيقونات. هم مستعدون لاستيراد وجوه غـــير عربية من أجل الترويج لبضاعتهم، كما أنهم مستعدون، وبتعاون لا يخفى مع هذه الإدارة السياسية أو تلك، بأن يتكفلوا بأعمال ترجمة ودوبلاج لدراما أو أعمال تلفزيونية شرقية أو غربية شريطة أن تكون من الأكثر فراغاً وإثارة، ولا يهم مستواها الفني أو حتى ما إذا كانت ناجحة أو فاشلة في أوطانها الأصلية.
أما من يعتبر أن هدف هذا الانفتاح العشوائي هو الاقتراب من التقدم الغربي فهو واهم، ليس فقط لأن التقدم لا يقاس بالتعري والإباحية، ولكن، وهو الأهم، أن في تلك البلدان لا توجد مثل الفوضى التي نمتلكها، فتعرض الأفلام الماجنة ضمن قنوات خاصة مشفرة غالباً، في حين يصاحب الأفلام التي تحوي مشاهد جنس أو عنف تحذير في البداية من تعرض الأطفال لها. نحن لا نمتلك كل هذا للأسف، وحتى حين ابتكر البعض عبارة «للكبار فقط» كانت مجرد عبارة فارغة من المضمون ولا تحمل أي تبعات قانونية، بل على العكس تساعد في الإعلان عن المادة أكثر لتجلب جمهوراً أكبر من الشباب والمراهقين. لا يحدث في ذلك العالم أن يخرج عمل فني يدعو المراهقين ويحرضهم على الجنس، بل أن من اشتراطات التمثيل في الأفلام الأوروبية والأمريكية الخليعة أن يتجاوز عمر الممثل او الممثلة الثامنة عشرة من العمر. كل هذا لا نمتلك منه شيئاً ولا يوجد ما يحمي المراهقين أو حتى الأطفال، الذين تسممت برامجهم هم أيضاً للأسف، لا يوجد ما يحميهم من التعرض لما يلوث خيالهم أو براءتهم.
في آخر النهار يركب مواطن عربي شاب حافلة مواصلات مزدحمة تنطلق من مذياعها أغنية تتحدث عن شقاوة البنات. يجبره ضيق المكان على الجلوس قرب سيدة تفوح منها رائحة العنبر، أو هكذا يوحي له خياله، (لأنها في الواقع متعرقة أكثر منه بعد دوام عمل طويل ومرهق) يحاول التقرب منها حيث يلمح في وجهها، رغم ملابسها المحتشمة، رغبة حسية مكتومة.
يشجعه عقله الباطن على الاستمرار ويقنعه بأن ما ينوي فعله لا يدخل ضمن دائرة التحرش. ربما تنتهي القصة هنا، وربما تنتهي في نهار آخر مع فتاة أقنعتها دعوات التحرير وقنوات التحريض بأن لا شيء يمنع من تجريب أي شيء. تبقى النهايات مفتوحة على احتمالات كثيرة من الزواج العرفي إلى تراجيديات الانتهاك والاغتصاب، أما السياسي الفاسد فسيطل علينا عبر تلفزيونه من جديد متباكياً على أخلاق الشباب التي تضيع وعلى الغزو الثقافي الذي يهدد بلاده..!

٭ كاتب سوداني

د. مدى الفاتح

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    مقالة تتحدث الواقع المعايش ببلادنا الآن
    ومع الأسف تلك القنوات الممولة من بعض الخليجيين
    والهدف طبعا تشتيت فكر المواطن – والهائه عن ما يجري بالحكم

    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول السيد ابراهيم سراج النور - الخرطوم - السودان:

    مقال جميل يعبر عن الواقع المعاش وبي صراحة التحرر والانفتاح الحاصل للشعوب العربية يوحى بما هو اكثر من ذلك – ونسال الله السلامة

إشترك في قائمتنا البريدية