ثلاث رسائل عربية

حجم الخط
7

إلى سجين عربي: عزيزي معاوية الرواحي: صباح/مساء الخير أيها الأخ في اللغة وفي الوطن وعيد سعيد لك هناك، حيث تصفق بجناحيك كطير سجين، اعتاد السماء والأغصان، ولكنه أيضا تقلّب في أقفاص العالم اللامرئي، فقط لأنه يزقزق بحرية، وفقط لأنه صادق بشكل حقيقي، وليس بادعاء كاذب كما يفعل أكثرنا.
كل يوم أستيقظ وأنا قادرة على الخروج من البيت، وتناول ما أريد من طعام، والحديث مع من أحب، وممارسة أكثر الأفعال التي أحبها اعتيادية كالكتابة والقراءة والرياضة؛ أفكر فيك، كأنموذج صغير لكل سجين رأي عربي، لكل معتقل باسم الحرية والكلمة في كل أوطاننا المرعوبة من الكلمة التي هي البدء والخاتمة، وأفكر في أمك، يشغلني دائما التفكير في قلوب الأمهات، تلك القلوب المرهفة التي تقلق علينا من نفحة الهواء، ومن درجة ارتفاع الماء، ومن عارض صحي بسيط يلم بنا، فكيف بما أنت فيه؟
أفكر كثيرا فيك وفينا، وتشغلني تلك الأغنية التي طالما رددناها وصفقنا خلفها، وتمايلت أجسادنا الصغيرة عليها «خليجنا واحد وشعب واحد»، وأحاول أن أستجمع شجاعتي الأدبية لأحلل هذه الفكرة، هل نحن فعلا شعب واحد؟ ومكان واحد؟ فخارج موروثنا الثقافي والفكري والإنساني الواحد، وخارج مقومات عروبتنا من دين ولغة وتاريخ واحد، هل حياتنا الاجتماعية والمادية والثقافية الحالية واحدة؟ وهل جمعتنا السياسة أم فرقتنا؟ ثم يمتد بي السؤال الذي يحك دمي ووعيي، هل لدينا اتفاقيات أمن غذائي واقتصادي وثقافي وغيرها ليكون لدينا اتفاقيات أمن عسكري وضبطي؟ نحن الذين كنا نحلم بالعراق واليمن في خليجنا الواحد، ليحل الدمار بهما بسببنا الآن وربما منذ زمن بعيد، نحن الذين نحتاج إلى جوازات سفر من بلد لبلد، ونحتاج إلى الكثير للحصول على عمل أو إقامة، ولكنا لا نحتاج لأي شيء للدخول إلى السجن كما يبدو، إنه الأوسع والأكثر سهولة لمواطنتنا المجروحة، وإنسانيتنا المقيدة.
فهل أصبح لدينا أمان فعلا في ست دول كنا نظن أنها وطن واحد؟ لكن الرقيب والمقص والقيد تعددت ليشملها الآن جميعا، والحارس كبر فأصبح كثيرا، والسجن اتسع؛ ليجعل المكان حيزا أمنيا كبيرا للحرية والحياة والكلمة والفكرة. فالكلمة التي يقدسها الله، ويقدسها الوعي، أصبحت مصدر خوف لأرواحنا، والفكرة التي كنا نحلم أن تحلّق بنا فوق السحاب، أصبحت تضعنا تحت الأرض أيضا. لا تخف يا صديقي/يا أخي، ليس هناك الكثير مما ينبغي أن تعرفه، خارج الأشياء البليدة المعتادة كالعيد، وخارج النفاق العربي والكذب العربي في السياسة والإعلام والمجتمعات، لم يفتك شيء على الإطلاق صدقني، ما زال الوجع العربي من الماء إلى الماء مشتعلا، وما زال الموت متصدرا، وما زال الإنسان جاهلا وساذجا وقاتلا ومقتولا ومهجَّرا، ومهجِّرا، وما زال الإعلام كاذبا، وما زال الخير والجمال والحب قليلا ومواربا.
فقط كن بخير واصمد بجنونك الجميل، وقلبك الطيّب لتعود إلى قلب أمك فقط، بلا مزايدات على كل الأوهام الجاهزة كالأوطان والأحلام والثقافة وغيرها.

إلى مهاجر عربي:

عم سلاما ونجاة وأمانا يا أخي، أعرف أنك تمضي وأنت تحمل حلمك على ظهرك، وأنك لن تلتفت حتى لتوسلات أمك بالرجوع عن قرارك هذا، وأعرف أنك لا تأبه لما يقولونه لك عن الموت المتربص، فأنت تعرف جيدا أنه هناك قريب بما يكفي ليأخذك إليه، لكن تدرك أنه حل آخر، في مقابل الحياة التي تحلم بها، وأنه لا وسيط بينهما، وأكاد أرى خبايا حقيبتك الصغيرة التي تحمل فيها صورا لأمك وحبيبتك التي رفضت الزواج بك كي لا يموت أحدكما فيحزن عليه الآخر أكثر مما ينبغي، وأعرف أنك تحمل في قلبك شظايا الوجع ورائحة البن، وصوت الشارع ينادي فيه الباعة على كل شيء من الكتب حتى الفجل، فهو الوطن كما ندرك الآن، وليس أي معنى آخر. أعرف أنك تحمل ذاكرتك التي جمّدتَ بها الحنين في الجيب السري لروحك، وأنك لن تفرغها أبدا مهما أفرغت حقائبك لو حدثت المعجزة ونجوت، وأنك تقف على مشارف الغياب، وتتذكر وداع محمد لمكة: «لولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت».
وأنك تحمل ما خف من الثياب، وما ثقل من الوجع والشوق، لأن القارب لا يحتمل الأولى، والموت لا يعترف بالثانية، وأنك ربما تخبئ صورة خاصة بك في جيب سترتك، ليتعرف عليك رجال الأمن اذا أكلت أسماك البحر بعض وجهك، وأسطوانة موسيقية عربية كي تشعل الحنين إذا انطفأ ذات غربة، ودفتر مذكرات صغير أزرق كي لا تلتهمه الأسماك إذا غرق المركب، فستتوهم أنه سمكة صغيرة وستعفّ عنه، فالكائنات الأخرى لا تأكل بعضها مثلنا. وستكتب فيه كل شيء طوال رحلتك عن رجل مقعد، وامرأة لا تنفك تبكي حنينا، وطفل يرى البحر لأول مرة، لعل أحد الناشرين المتهافتين على قصص الموت يخرج ما فيه رواية تخلّد حكاية الأوطان التي تبيع أبناءها للموت، مقابل الكراسي الثابتة، أو لعل أحد المخرجين المهووسين بفكرة الظهور، يجعل حكايتك فيلما يحصد الجوائز.
أعرف أنك فكرت كثيرا قبل أن تبدأ الرحلة، وقلت في قرارة نفسك حسنا، ماذا لو متّ؟ ماذا لدي لأخسره هنا في أوطان سرقت منا حتى طعم الخسارة؟
أوطاننا تحتاج أن نبتعد عنها، لو متنا ستفقد فما وجسدا، ينجو من القسوة والجوع، ولو نجونا ستفرح بنا، إنها تحتاج لنا أقوياء لنرسل لها المال والدواء والكساء، أنها كالأمهات تماما تعاني الوهن، ويأكل المرض منها كل يوم بلا هوادة.
إنها مصابة بهشاشة الأوطان، هشاشة قصوى ليس في العظام فقط، بل في الإنسان، وفي القيادات وفي المسؤولين وفي الإدارة، وهشاشة في الوعي والحرية أيضا، نحن أبناء بلدان كسيحة، وتحتاج وقتا طويلا لتتماثل للشفاء، حين يتوقف عن سحب عناصر الحياة والحرية والوعي والشمس من جسدها وروحها، ربما تصبح قادرة على أن تستوعب أحلامنا، أو حتى تحترم إنسانيتنا.
أعرف أنك سمعت الكثير من القصص عن الغرق والموت، ولكنك لا تريد التفكير في رواية «رجال في الشمس» الذي كتبها غسان كنفاني يوما، وكررت نفسها بشكل أكثر وجعا وفنتازية الآن، كما يفعل التاريخ دوما في  رأي ماركس، «يعيد نفسه في المرة الأولى كمأساة وفي المرة الثانية كمهزلة»، ولا في الذين يغرقون كل يوم، ولا حتى ذلك الصغير الذي لفظه البحر احتراما لروحه الطيبة فقط.
لأنك تفكر أكثر في من يموتون في سجن الأوطان، ومجازر الأوطان، ورهاب الأوطان، ومن يزدردون الكلمات كي لا ينطقونها، ومن يرتعشون تحت جلودهم، ومن يقضون أيامهم بلا لقمة خبز، ومن ينتظرون حتفهم كل لحظة، ولذا قررت أن تمضي إلى الموت أو الحياة، فلا فرق بينها في أوطاننا العربية، بينما هناك فرق كبير خارجها. فأنت تحلم أن تصل وتحصل على فرصة للتعليم والحرية، وهذا حقك، فحين نشاهد الموت المتربص يحصد مئات الأرواح بسهولة ومرونة، تلك الأرواح التي ترى في الموت الخيار الوحيد مقابل الحياة، ندرك جيدا أن المهاجر الذي يخرج من بيته ليس بطرا أو طمعا في رغد العيش، بل رغبة أن يعيش إنسانا فقط. كن بخير، وكل الصلوات لروحك.

إلى قارئ عربي:

عم جمالا أيها الرائي الأكثر جمالا، أيها الواقف عند حدود مجزرة الكلمات التي نقدمها لك كل يوم، وكل ساعة ككتّاب مهووسين بفكرة الرصد والتحليل والتخليد، لنفتت أوجاعنا بين يديك وعينيك، وربما ذهبت بنا الرعونة أن لا نهبك يوما القليل من الفرح والحب الذي يليق بروحك اللاهثة وراء المعنى بشوق. ولك كل الاعتذارات التي تليق بك عن ذلك، فصدّقني لا أحد يريد أن يكتب عن القبح والقيح العربي المنتشر في كل مكان ليغرس شوكة في قلب وعين قارئه، إننا نريد بشغف أن نتبصر الجمال ونكتب عن الفرح، نريد أن نكتب عن مواطن يتبرع بشيء من دخله لرعاية أيتام بلا منّة ولا أذى، عن أم تربي أطفالها على الصدق كي لا يكونوا مثل قومنا الذاهبين في الكذب والنفاق، نريد أن نكتب عن أب عامل كادح يقاوم جسده المتعب، ليقدم التعليم المناسب لأطفاله بأكثر مما يستطيع كي لا يعيشوا مثله في العوز والحاجة، عن صناع الجمال الذين لا يسجلون أسماءهم في سجلات المبدعين ولن تُقام لهم المعارض ولن يكتب عنهم، عاملة المنزل التي ترتب حياتنا وتنظف قاذوراتنا لتعين عائلتها على الحياة، والعامل الذي يعتني بالحديقة العامة بإخلاص ليجعلها مزهرة لنستمتع بالجمال ويتحصل على مال قليل، والمزيّنة التي تقضي نهارها في جعل النساء أجمل، وصانع الأبواب الذي يبتكر كل يوم شكلا جديدا ليجعل الأبواب خارطة للأحلام، والخيّاط الذي يفصل الثياب المزركشة للأطفال ليكونوا بهجة للحياة. نريد أن نكتب عن ابتسامة تهب نفسها للغرباء بلا مقابل، وعطر يرتب فوضى العبور، وصدق يجعل نهارك مغمورا بالنقاء، عن معرض فني، أو فيلم يجسد رواية عالمية، أو أغنية تهب أيامك حنينا إضافيا، عن أطفال يجعلون العالم مرسمهم الكبير ومرقصهم الأجمل، وعن الثقافة والفنون ودورها في الخروج من المأزق والنفق، عن الحب والجمال والمستقبل المشرق. ولكن كيف يمكننا أن نكتب عن ذلك، والمخرز أمام العين تماما، والسكين تحز العنق؟ كيف نكتب عن الحرية في ظل القمع العربي، وعن الصدق في ظل الإعلام العربي، وعن الحب والجمال والفرح في ظل الوجع العربي والسقوط العربي، من الحكومات حتى الإنسان، ومن السياسة حتى الثقافة؟ إننا مضطرون يا صديقي أن نلبس سترة الطبيب لنشخّص الحالة، ونخبر المريض بالمرض؛ ليستطيع أن يتعامل مع حالته بوعي، أو يموت فنكتب فيه قصائد الرثاء لنوجعك أكثر، ولا نستطيع أن نتغافل كل هذا، فهذا هو قدرنا العربي حتى حين.
كاتبة عُمانية

فاطمة الشيدي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    # الحرية للمدون العماني معاوية الرواحي

    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول سفيان البطو العراق:

    ماتت القيم وهجرت المبادى وانحرفت الاقلام
    بلدان تشرذمت شعوب اصبحت كقطعان الاغنام
    الكل يسير في متاهات الدروب باحثين عن بقعة
    هنا اوهناك تحتضنهم بود و تنشرفيهم الوىام
    اوطان تتداعى وشعوبها اصبحت جيوش ايتام
    تتسول من هذا وذاك كسرة خبز ولقمة عيش
    كي تملي بطونها الخاويه وتنام
    فالرساىل جاءت متاخره وهي عاجزة عن ردعي
    من ترك هذا الشرق اللعين فانا عازم
    على تركه وترك حياة الاحلام

  3. يقول د.منصور الزعبي:

    كلنا العرب كناننظر الى تجربة مجلس التعاون كنواة لوحدة عربية ، و لكن بعد الشعور بان هذه الوحدة تتحكم بها دولة واحدة و هذا المجلس ينفذ سياسات بعيدة عن حلم المواطن العربي ،و ها نحن نكتشف ان هذه الوحدة الخليجية أصبحت كالسجن لمثقفيها و اصحاب القلم الحر فيها، و ليس ببعيد ان يكتشف مواطنون بعض دولها ان هذا السجن يجب تحطيم أسواره و العيش ضمن حدود الدولة الواحدة فقط ، ربما في هذه الحالة يخف عدد السجانين و ياخذ المواطن مساحة اكبر من الحرية ضمن دولته ، اذ ان من الصعب ان يكون اتحاد خليجي لتحقيق أهداف و رفاهية مواطنون دولة واحدة منه .

  4. يقول سامح:

    كان الله في عونك يا معاوية

  5. يقول الكروي داود النرويج:

    لا حول ولا قوة الا بالله

  6. يقول الكروي داود النرويج:

    ماذا هذا التعدي
    والله ظلم

    لا حول ولا قوة الا بالله

  7. يقول agurum.com; Empty Third, Zanzibar:

    What is the author email address? I like your writing style. Thanks Fatima.=..

إشترك في قائمتنا البريدية