المسير السياسي إلى الكيان الأردني

حجم الخط
1

بعد اندحار جيش الخلافة ووصول جيش الشمال بقيادة الشريف فيصل ولورنس الى دمشق، ومن بعد تتويج الشريف فيصل ملكا على بلاد الشام بإرادة أهلها، أصبح الاردن منذ ذلك الحين جزءا من هذا الكيان السياسي، الأمر الذي وافق هوى الاردنيين، إلا أن الامور لم تجر حسب طموحات وآمال أهل البلاد، فبعد اتفاق رئيسي وزراء بريطانيا وفرنسا على تنفيذ اتفاقية (سايكس- بيكو) سقط الحكم العربي في دمشق بقوة السلاح بيد الفرنسيين، وبهذا أصبح شمال بلاد الشام أي (سورية ولبنان) في ذمة الفرنسيين، وجنوب بلاد الشام (أي فلسطين والاردن) في ذمة بريطانيا العظمى، وكانت مهمة الانتداب البريطاني في فلسطين محددة بأن يعمل المندوب السامي البريطاني بجد وبجهد وبظلم على تحقيقها، وهي اقامة دولة يهودية في فلسطين.
أما شرق الاردن، فبعد سقوط الحكم العربي في دمشق التي كانت جزءاً منه سقطت وحدتها، وتجزأت وتشظت إدارتها وصار في كل لواء حكومة وفي بعض الألوية حكومتان، الأمر الذي وافق هوى إدارة الانتداب في فلسطين فعينت لكل حكومة مستشارا عسكريا وسياسيا. لقد أحدث سقوط الحكم العربي في دمشق بواسطة القوة الفرنسية هياجا وطنيا في كل بلاد الشام والحجاز، فراحت كل القوى والشخصيات الوطنية في بلاد الشام تنادي بحمل السلاح وتدعو لتحرير الوطن، يقودهم في هذه المرحلة رجالات حزب الاستقلال هادفين الى جعل الاردن أرض الرباط التي ينطلق منها التحرير. أما في الحجاز فقد كلف الامير عبدالله بن الحسين من قبل والده الحسين بن علي (طيب الله ثراه) بقيادة حملة لتحرير سورية، وجرت له مراسم وداع رسمية قبل رحيله لتنفيذ هذه المهمة.
توجه الامير في القطار الى الشمال ليحط رحاله في مدينة معان، التي كانت في ذلك الحين أرضاً حجازية. ومن معان ارسل رسله ورسائله الى قادة الحكومات في الاردن وإلى زعماء العشائر وكان الامير (وهو الخبير في العمل السياسي والمناورات السياسية) يهدف إلى فرض نفسه على الواقع، وفي هذه المرحلة من تحرك الأمير أدركت الحكومة البريطانية مقصد الأمير، ولكن لم يظهر لدى الحكومة البريطانية أي موقف واضح من ذلك: ففي حين طلبت حكومة الانتداب في فلسطين من تابعها الحاكم الاداري لمدينة السلط في الأردن أن يطلب من الامير عدم التقدم من معان، نجد أن مستشار حكومة الكرك الضابط الين كيركبرايد يستقبل الامير مع وفد حكومة الكرك وزعماء عشائر اللواء في محطة القطرانة، الامر الذي أسعد الامير فقرب هذا الضابط منه لأنه يعلم أن هذا الضابط أقرب إلى تمثيل الرأي الأهم في الحكومة البريطانية. وكان لدى السلطة البريطانية رأيان مختلفان: رأي تمثله سلطة الانتداب في فلسطين، الذي يدعو إلى ضم شرق الأردن إلى وعد (بلفور)، أما الرأي الآخر الذي تتبناه وزارة الخارجية ووزارة المستعمرات كان يتعارض مع رؤية سلطة الانتداب في فلسطين. فالحكومة البريطانية حتى حينه لم تكن قد قررت بعد مصير شرق الاردن، إلا أنها كانت تريد واقعاً في شرق الاردن يخدم مصالحها الذاتية في الإقليم ولا يتعارض أو يعيق التقدم نحو تحقيق مضمون وعد (بلفور).
ولم يكن حال الانتداب البريطاني مريحاً في الأقليم في حينه، ففي العراق لم تكن إفرازات ثورة العسكريين قد انتهت، وفي فلسطين مقاومة شديدة لوعد (بلفور). كما أحدث سقوط الملك فيصل في دمشق سوء علاقات بين الهاشميين وحليفهم البريطاني، وزاد الامور تعقيدا نزوح وطنيي سورية وقادة حزب الاستقلال الى الاردن وجعله قاعدة للأعمال العدائية ضد حلفائهم الفرنسيين. هذه الظروف الاقليمية لم تساعد البريطانيين على البت بشأن شرق الاردن. ولكن تفاعل الأحداث (في ظروف معينة) يأتي من خلاله فرج من الله.
ركب الامير القطار من معان متوجهاً الى عمان، وفي طريقه تأكد أن الحكومة البريطانية لا تقف موقفاً عدائياً من رحلته، يدفعه لهذه المغامرة حالة ذاتية وهي هروبه من واقع (ضيق العيش) في الحجاز بعد هزيمته أمام الوهابيين. ولقد أنعشت آماله النتائج التي جاءت بها رسائله إلى أهل الأردن، وزاده اطمئناناً الاستقبال الحسن الذي حظي به من قبل عامة الناس في كل محطة وقف بها قطاره المتوجه إلى عمان. وهكذا شعر الامير بأنه فرض نفسه على الانتداب البريطاني، كما أعطى استقبال الأردنيين الحسن للأمير بعض المسؤولين البريطانين رؤية لما يستطيع الأمير أن يقدمه من خدمات للأهداف البريطانية في كيفية استقرار الامور، ولهذا قررت السلطات البريطانية الاتصال بالامير وابلاغه أنه مدعو للقاء السيد تشرشل وزير المستعمرات في ذلك الحين في القدس في موعد محدد. وكان السيد تشرشل يعقد مؤتمراً في القاهرة مع بعض المسؤولين في الاقليم للتقرير في القضايا الشائكة، وهكذا نال الامير ما كان يطمح اليه وهو الاعتراف البريطاني به كأحد أطراف المعادلة في الاقليم.
لقاء القدس، في هذا اللقاء تقرر مستقبل شرق الاردن وكذلك مستقبل الامير: ففي هذا اللقاء قبل الامير أن يكون موظفا في ادارة الانتداب البريطاني أميراً على شرق الاردن وتحت التجربة لمدة ستة أشهر (مددت مرة واحدة) مقابل الالتزام بالانتهاء من الدعوة لتحرير سورية، وأن يساعد بجهد صادق على امتصاص معارضة وعد (بلفور) إن كان في الاردن أو على الحدود مع فلسطين، أي منع التواصل مع مقاومة الشعب العربي الفلسطيني لسلطة وعد بلفور، وبهذا أصبح الامير حاكما هو و هلبرت صموئيل، يحكم كل منهما أرضاً كانت موحدة وكلاهما يخدم أهداف الحكومة البريطانية، وهكذا اصبح شرق الاردن الحاجز الذي يمنع التواصل بين أطراف الجسم الذي كان واحدا، فمنعت سورية من الوصول الى البحر الاحمر ومصر، ومنعت فلسطين من الوصول إلى العراق وجزيرة العرب، وكذلك منعت سورية من الاتصال بجزيرة العرب الامر الذي خدم ولازال يخدم أعداء العرب في منعهم من التواصل، والأهم أنه أضعف الجهد المقاوم للمشروع الصهيوني والداعمين له. وبهذا فلا أحد في العالم كان يمكن أن يحقق استراتيجية بريطانيا العظمى في الإقليم غير سمو الامير في حينه.
المثال الاصدق هو الواقع السياسي للعرب في فلسطين والاردن، فكلاهما متشابه لأنه من صنع قوى موحدة ومعادية، فهو أولا ومن خلال دعوته لتحرير سورية وحد الاردنيين خلف رايته بعد أن صاروا عدة دول بعد انهيار الحكم العربي في دمشق، وهذا الأمر خفف حمل الحكومة البريطانية المادي والأمني، وهو ثانيا شكل للوطنيين السوريين أملا كقائد لحركة تحرير سورية، وهو ثالثاً شكل للفلسطينيين والاردنيين محط أمل يعينهم ضد سلطة وعد (بلفور)، وهكذا نرى أن كل طموحات هذه القوى تجسدت بسمو الأمير. ولهذا حينما قبل الامير بوظيفته أميرا على شرق الاردن تحت الشروط البريطانية أجهضت آمال وطموحات هذه القوى مجتمعة، لا أحد في العالم في حينه يستطيع أن ينجح في ذلك غير سمو الامير، وهكذا استطاعت بريطانيا التي كانت تعرف طموحات الامير وسقف مطالبه هزيمة طموحات وآمال كل هذه القوى بوضع الامير في الواقع والموقع الذي يخدم مصالحها.

‘ كاتب وسياسي اردني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول نبيل شقير:

    تحليل عميق لمناضل عريق تحية خالصة للعروبي المناضل ابو ضافي

إشترك في قائمتنا البريدية