■ عجز العرب ـ كالعادة ـ عن تعريب حل للمأساة السورية، وتدخلت الأطراف الإقليمية من إيران وتركيا للعب دور أساسي، ثم جرى اختصار الأدوار الإقليمية، وتدويل المأساة ما بين روسيا والصين من جهة، وأمريكا وأوروبا من جهة أخرى، ثم تضاءلت الأدوار الدولية للغرب بعامة، وتقدم الدور الروسى منفردا، وأصبح الرئيس بوتين هو «ضابط الإيقاع» في أي كلام أو مناقشات أو تصورات عن حلول مطروحة للمحنة السورية.
والمثير، أن تركيا مع أطراف خليجية، وقد دفعت عشرات المليارات من الدولارات لتحطيم سوريا، لم تعد تجد ترجمة سياسية لما دفعت إليه، وباتت تستحث أمريكا على القيام بدور يناهض الموقف الروسي، بينما واشنطن «قطعت النفس»، ولم يعد لديها من فرصة غير التحول إلى قطعة دوارة في لعبة «روليت» روسية، فقد ابتلع الرئيس أوباما لسانه، وابتلع معه لسان وزير خارجيته جون كيري، ورقصت الإدارة الأمريكية على إيقاع الموقف الروسي الحاسم، فبعد محاولات خائبة للضغط على بلغاريا واليونان، بهدف دفع البلدين لإغلاق المجال الجوي أمام طائرات نقل السلاح الروسي إلى سوريا، ردت عليها موسكو بخشونة ظاهرة، واستمرت في تسيير جسر دعم جوي إلى دمشق عبر إيران والعراق، وعبر البحار، ونقل أسلحة متطورة إلى الساحة السورية، وتحويل اللاذقية وطرطوس إلى موانئ مخصصة لرسو السلاح الروسي، وبناء قواعد عسكرية حصينة في البر، وإجراء مناورات بحرية روسية شرق المتوسط، وفي إعلان صريح من موسكو عن وضع بشار الأسد في حمايتها المباشرة، والتصرف مع سوريا على أنها «سوريا الروسية».
وبعد هذا التحول العاصف الذي له ما بعده، لم تجد واشنطن بابا للتصرف، غير التفاهم مع روسيا، فهي لا تستطيع أن تخاطر بالدخول في حرب عالمية مع روسيا من أجل عيون تركيا والحلفاء الخليجيين، الذين يواصلون النفخ في أبواق قديمة، وترديد اسطوانات مشروخة عن ضرورة رحيل الأسد قبل أي حل، وهو ما تخلت عنه واشنطن مع التطور في الموقف الروسي، وعدلت عن موقفها القديم الرافض لوجود بشار في أي حل، وصارت واشنطن تتحدث عن ضرورة وجود بشار في أي مفاوضات تجري، بل وفي المرحلة الانتقالية طبقا لبيان جنيف، وهو ما راح حلفاء واشنطن عبر الأطلنطي يرددونه كالببغاوات، فقد تغير الموقف البريطاني، ثم تغير الموقف الفرنسي، وزاد الموقف الألماني في تأكيده على ضرورة وجود الأسد في أي حل، وهكذا نجحت روسيا في لي ذراع ولسان الأطراف الدولية المخالفة، التي كانت تصف نفسها بأصدقاء المعارضة السورية، وتحولت إلى طلب صداقة بشار الأسد، خاصة أن الاندفاع الروسي العسكري باتجاه سوريا، سبقه تمهيد طويل مدروس من الإدارة الروسية، جعل موسكو قبلة المؤيدين والمعارضين السوريين، وبتعاون وتفاهم محسوس مع طهران والقاهرة، وبمد جسور اقتراب استخباراتي وعسكري إلى الرياض، وبهدف تخفيف نغمة المعارضة السعودية للموقف الروسي، وهو ما جعل طريق موسكو سالكا أكثر إلى دور في حاضر ومستقبل سوريا، تحفظ به مصالحها في المنطقة، وبحضورها المباشر، وليس عبر أدوار إقليمية للحليف الإيراني، وبمقدرتها الأفضل على التفاهم مع واشنطن رغم الخلاف الأوكراني، وباستثمار مخاوف الأوروبيين المتزايدة من موجات اللجوء السوري العارم إلى عواصمهم، ومن زحف «داعش» التي تأكل الأخضر واليابس، والتي فشل التحالف الأمريكي المنافق في صدها أو دفعها للانكماش، وهو ما يهيئ لروسيا فرصة التقدم للدور المركزي، خاصة أن موسكو هي التي مهدت لاتفاق إيران النووي مع الغرب، وتقدم نفسها الآن كوسيط لا غنى عنه، وكصانع ألعاب رئيسي ـ وحيد ربما ـ في توليف مخارج للمعضلة السورية.
وبالطبع، استفادت روسيا من درس أفغانستان القاسي، وربما لن تغامر أو تقامر بدور عسكري بري في سوريا، يستنزف طاقتها ودماء جنودها، وصاغت دورا تبدو ملامحه الأساسية ظاهرة، قد يصح تصورها على النحو التالي، فهي ـ أي روسيا ـ تصوغ مبادرة تحالف جامع لهزيمة إرهاب «داعش» و»القاعدة» و»النصرة» وأخواتها، وتصوغ بالتوازي مبادرة سياسية لحل الأزمة السورية، وترتكز في مبادرة حرب الإرهاب على دفع الأطراف الإقليمية لتقديم قواتها البرية، وعلى ساحة ممتدة تشمل أراضي العراق وسوريا بلا تمييز، يصحبها دعم سلاح متطور للجيش السوري المنهك، وإعادة بناء خططه، وتنظيم قواته، واستعادة نزعته الهجومية، في ظل تعهد روسي صريح بالدفاع عما تبقى من أراض خاضعة لسيطرة نظام بشار الأسد، والهدف: إعادة تقديم نظام بشار في صورة رأس الحربة ضد الإرهاب، وهو ما تبدو التطورات الإقليمية مواتية له، ولا يجد معارضة جدية يعتد بها، فقد غرقت تركيا أردوغان في بحور دماء الحرب الأهلية مع حزب العمال الكردستاني، فوق انكشاف وانفضاح لعبة أردوغان المزدوجة، التي ادعى فيها علنا أنه يحارب الإرهاب الذي صنعه النظام السوري، بينما كان يدعم «داعش» ضمنيا، ويسهل عبور المقاتلين القادمين إليها من كل أنحاء الدنيا، ويعقد الصفقات معها من وراء ستار شفاف، ثم أنه ـ أي أردوغان ـ دعم علنا وصراحة جماعة «جبهة النصرة» التابعة لتنظيم «القاعدة»، وكان وراء تكوين ما يسمى «جيش الفتح»، كقناع لجبهة النصرة، الذي شاركت في دعمه دولة خليجية معروفة بمليارات الدولارات، والمحصلة: إضعاف الدور التركي بعد الانكشاف، وبعد غرق أردوغان في أزماته الداخلية المتفاقمة، وهو ما دفع واشنطن إلى التصرف بنفسها في رسم حدود للدور التركي، وتهميشه إلى حد جعل القواعد التركية العسكرية مجرد نقاط انطلاق للطائرات الأمريكية، ورفض مطالب أنقرة بخلق منطقة في شمال سوريا خاضعة للحماية التركية، وإحلال فكرة أخرى هي الاستعانة بالعدو الأول للأتراك وهم أكراد سوريا، بصلاتهم الوثيقة مع أكراد تركيا المحاربين لأردوغان، وتركيز واشنطن على جعل «وحدات حماية الشعب» الكردية حليفا بريا أساسيا للحملة الجوية الأمريكية ضد «داعش»، خاصة بعد نجاح أكراد سوريا في ملحمة تحرير عين العرب «كوباني»، وطرد «داعش» من بلدات ومدن مهمة في شمال شرق سوريا، ثم التحامهم مع قوات الجيش السوري الرسمي في معركة طرد «داعش» من مدينة الحسكة، وهو ما قد يغري واشنطن بمضاعفة الاعتماد على القوات الكردية السورية، وبالذات في حرب تحرير مدينة «الرقة» عاصمة دولة «داعش»، وربما بالتحالف مع عشائر عربية مستعدة للعمل مع الأكراد، وهو ما لا يعارضه نظام بشار الأسد، وقد يرى فيه دعما يضاف إلى قوته المتآكلة، فأكراد سوريا لهم مطالب قومية لا تصل إلى حد طلب الانفصال، وقد يمكن الاتفاق معهم على شراكة حكم في مناطق مختلطة تجمعهم بالعرب، ولم تنقطع أبدا خطوط تواصلهم مع النظام وقواته، وقد يلعبون دورا مفيدا بالمستقبل في المعركة ضد «جيش الفتح» و»جبهة النصرة» في إدلب وشمال حلب، وهو ما تدركه حسابات الروس على ما يبدو، والذين يضمنون ولاء إيران وحزب الله، ويسعون إلى تنظيم «هدنة ضمنية» بين طهران وتل أبيب، والتفرغ لتنظيم جهد مكثف في سوريا، يهدف إلى زيادة رقعة الأرض التابعة للنظام السوري، وبالاستفادة أساسا من الأرض التي تجلو عنها «داعش»، وبما يستعيد أكثر من نصف الأرض السورية لسيطرة بشار، المحشور الآن في أقل من الربع، وهو ما قد يصنع موقفا تفاوضيا أفضل لسوريا الرسمية في مرحلتها الروسية، خاصة مع التسليم الأمريكي والغربي المستجد بضرورة وجود بشار في المرحلة الانتقالية على الأقل، ومع تهافت «الائتلاف السوري» المعارض المقيم في تركيا، وعجزه عن تنظيم جهد عسكري له مغزى على الأرض السورية، وتبدد دعوى «الجيش الحر»، والفشل المخزي لبرامج التدريب الأمريكية لمعارضين مفترضين في دول الجوار السوري.
وبالطبع، توجد معارضات أخرى غير معارضة ائتلاف الفنادق التركية، لعل أهمها جماعة «هيئة التنسيق الوطني لقوى المعارضة»، وهي تنشط أساسا في الداخل السوري، ورفضت عسكرة الثورة من أول لحظة، كما رفضت جماعات الإرهاب وديكتاتورية النظام الوحشية، وصلاتها وثيقة وتاريخية مع الحزب الرئيسي لأكراد سوريا، وحوارها مفتوح مع موسكو من زمن طويل، وقد يبرز دور هؤلاء أكثر من «الائتلاف» في مرحلة سوريا الروسية.
٭ كاتب مصري
عبد الحليم قنديل
ما يخص نركيا واردوغان هي فقط تمنيات يا سيادة الكاتب.فعندك من يعارض الانقلاب في مصر هوا فاشل ومن يقف بجانبه هوا الفالح.لماذا لا تقل لنا رايك في خطاب السيسي في الامم المتحدة عندما طالب الدول العربية بخطوات لتطبيع العلاقات مع اسرائيل.