بنكنوت

هل يمكن للإنسان أن يعيش من دون تقسيمات؟ من دون فواصل إثنية وعرقية واعتقادية، من دون حدود جغرافية، من دون المؤسسات المتعددة التي صنعها وخدع نفسه بها حد تقديسها؟ يتساءل الكثير من المفكرين حول حقيقة وحقيقية الحدود والفواصل الجغرافية، يسائلون فكرة الوطنية والإخلاص للبقعة الجغرافية والارتباط العرقي بها. ماذا استفادت البشرية من تقسيم الأرض لبلدان وأوطان؟ ما هو الانتماء الوطني سوى تقسيم جديد يضاف لبقية التقسيمات، تصنيف آخر يضاف لقائمة التنصنيفات الطويلة التي اختلقناها بيننا كبشر، سلالم كثيرة اصطنعناها حتى يصعد الأغنياء ويهبط الفقراء، طوابق كثيرة بنيناها حتى يسكن عليائها الأقوياء وسراديبها الضعفاء؟ اليوم، يشكك مفكرو وفلاسفة القرن الواحد والعشرين في كل التنصنيفات البشرية، حتى الجنسية منها، فهناك توجه نسوي جديد لدراسة حقيقة التقسيم الجنسي لذكر وأنثى، ومدى احتياجنا لهذا التقسيم خصوصاً أنه لا يظهر إلا في حالات الحمل والولادة، انه الرحم الذي يفرق الأنثى عن الذكر، وفي غياب مهمته، يجب أن يغيب التقسيم، كما يقول هؤلاء المفكرون.
ذكور وإناث، أغنياء وفقراء، آريون وساميون، مسلمون ومسيحيون وبوذيون وتاويون وزرادشتييون ويهود وبراهمانيون، بيض وسود، أصيلو العرق وتقليديوه، قبليون وحضريون، مدنيون وريفيون، طوال وقصـــــار، أذكياء وغير أذكياء، متقدمون ورجعــــيون، ســـمان ونحاف، متباينو الجنس ومثليوه، متزوجون وعزاب، مطلقون ومترملون، تلك كلها نقطــة في بحر تقسيماتنا البشـــرية التي لا تنتهي.
إلا انها الدول والبنوك، السياسة والمال، هي القائمة، كما يعتقد المفكرون، خلف كل هذه التقسيمات، هي مصدر البلاء الأعظم والصـــراع الأكثر دمـــوية، فماذا لو لم تكن هناك دول ولم تكن هنــاك أموال، وكانت الأرض كلـــها لنا والمصادر الطبيعية كلهـــا لنا؟ هل نســـتطيع أن نتشارك فيمــــا لا نملك من هذه الكـــرة الأرضـــية أم أن البشـــرية هي كما الطفل المدلل الذي لا يبادل ألعابه وكما الفريك الذي لا يحب الشريك؟
الفكرة تبدو غريبة جداً، فنحن لا نستطيع تصور الوضع العائم، حيث كل شيء متاح لكل شخص، وحيث الرادع هو الضمير وحيث الواعز هو حب البشرية والمحافظة عليها، كما أننا لا نستطيع التعايش مع الوضع المتصلب، حيث الخطوط الوهمية التي تقسم كرة أرضية لا يملك أحد فيها شيء في الواقع وحيث الحدود الخيالية التي رسمها الأقوياء بالنار والدم.
بالطبع لا يمكن نكران فوائد التقسيمات الدولية، فمن خلالها يتجلى نوع من التنظيم و أسلوب للتعايش مما شكل طفرة باتجاه تطوير العلاقات البشرية، حيث أسست هذه الدول لمجموعات بشرية أصغر وأقدر على التواؤم من حيث تشاركها الجغرافي والتاريخي والإثني وأحياناً البيولوجي. ولقد أصبح هذا التقسيم واعداً بشكل أكبر حين طورت الدول مفهوم وحدة جماعتها البشرية، مبتعدة عن الفكرة البدائية لوحدة البقعة والعرق، ومقتربة أكثر من مفهوم التعاضد الإنساني ووحدة النظرة المستقبلية.
ولكن هذه الرؤية الحالمة، هذه التطلعات المثالية، هذه الأهداف النبيلة من التقسيمات الأرضية كلها تبدأ بكلام ليل يمحوه نهار حارق. فلا الكينونات الدولية تواءمت وتعاضدت إنسانياً ولا حتى المجموعة البشرية المتشاركة في البقعة والتاريخ والعرق استطاعت أن تستقر وتتسق مع تنوع أفرادها وتباين أفكارهم.
وعلى الرغم من الإنجازات التي حققتها البشرية مع دخول القرن العشرين متمثلة مثلاً في إنشاء الأمم المتحدة وفي إطلاق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفي تأسيس المعاهدة تلو الأخرى والاتفاقية بعد الاتفاقية، ولربما لم يحدث كل ذلك الا بعد أن تقسمت القارات إلى دول ودويلات، الا أن الثمن كان باهظاً والدفع لا يزال مستمراً ولربما فاقت الأضرار اليوم المنافع.
فأين الخلاص وما هو الحل؟ هل نجد الجواب في العودة للعهد القديم ببدائيته وتحريره للإنسان من كل القواعد والأفكار والمؤسسات والبتروكولات التي صممها هو ثم قدسها، لتصبح أرض الجميع للجميع، ولتنتهي فكرة الملكية ولتنفض فكرة العبودية لورق بنكنوت ليس له قيمة حقيقية، أم أن الجواب هو في الاستمرار في الأنماط المشيدة ومحاولة التغلب على نتائجها الدموية؟ تقول النظريات أن كل حرب، كل قطرة دم أريقت، كل أسرة تشردت، كل إنسان مات جوعاً أو مرضاً، كل تلك يقف خلفها بنك ما، وهذا البنك هو قاعدة رأسمالية لدولة ما، وهذه الدولة هي حاضنة لعقيدة ما، وهذه العقيدة هي صمام أمان التحكم في الجموع والذين يتمسكون بالدولة والتي ترتكز على البنك والذي يطلق شرارة الحرب ثم يعمل أجهزته لتحسب الأرباح.
لربما نحتاج لطوفان مثل طوفان نوح، مياه لا تنحو لتطهير عرقي للبشر ولكنها تغسل كل الماضي، وتمحو كل ما توصلت له البشرية بخيره وشره، مياه تغرق كل ورقة كتبها البشر، كل آلة صنعوها، كل فن خلقوه، ليعود البشر إلى نقطة الصفر، ويحاولون من جديد متخلين عن فكرة نفاسة الذهب الكاذبة، متخلين عن فكرة قداسة البقعة، متخلين عن فكرة الملكية، متمسكين فقط بالإنسان، في لحظته، في حاضره. هذه اللحظة وهذا الحاضر اللذان يمثلان الحقيقة الوحيدة له في هذه الدنيا الهلامية البائدة! مجرد فكرة مجنونة، ليست بأكثر جنوناً من واقعنا.

د. ابتهال الخطيب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    جيد أن يتم الاعتراف بطوفان نبي الله نوح
    بسم الله الرحمن الرحيم
    وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ (22) سورة الروم

    ان اختلافنا يا دكتورة ابتهال مرده الى أنها ارادة الله
    أما بالنسبة للفروقات بين جسم الذكر وجسم الأنثى فهي كثيرة
    والخالق سبحانه وتعالى يقول : ” وليس الذكر كالانثى” 36 أل عمران

    وللعلم فاءن الله سبحانه وتعالى لم يفضل الذكر على الأنثى مطلقا
    فلكل منهما واجب قد يختلف جسمانيا ولكن لا يختلف عقائديا

    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول michel:

    لذيذ هذا المقال دكتورة ! إن بك جانب شاعرى حالم يريد أن يحلق فى سماء المثالية الملائكية ! التى تنكر الجانب الأقوى المهيمن فى الطبيعة البشرية وهو الشر ! أود لو أشاركك هذه الأحلام ولكن الواقع البشرى يكذبنا !

    1. يقول michel:

      شكرا أخونا كروى أنك وصلت لنا إرادة الله ! لكن الدكتورة تتحدث عن التنظيمات والتقسيمات والتفريقات التى يفرضها الأقوياء والمستبدين على الضعفاء والشعوب !

  3. يقول كمال رمضان:

    ” مجرد فكرة مجنونة، ليست بأكثر جنوناً من واقعنا.”
    انها ليست فكرة مجنونة .نتيجة تقسيم العالم الحالى هى الدمار الشامل.الحل يكمن فى منظمة أمم متحدة ديمقراطية تدير العالم بأسره بدستورعالمى يضمن حقوق و حريات كل البشر.الدين فى المعبد و السياسة فى الشارع للجميع.

  4. يقول د محمد شهاب أحمد / بريطانيا:

    عنوان المقال طويل ، و بعربيةٍ فصحى جميله !….

  5. يقول م . حسن:

    فدان الأرض الخضراء الذى يوفر الكلاء والماء لخمس بقرات , تمرح وتسرح وتعيش في سلام نسبي مع بعضها . أما إذا كانت هناك خمسين بقرة علي نفس المساحة , فستكون الحروب والقتل من أجل الماء والكلاء . فهل كلما زاد عدد السكان علي الأرض كلما زادت المشاكل ؟ . مشاكل الإنسان تتمثل أساسا في الجهل والطمع والغضب .

  6. يقول Samir Obeidallah. usa:

    الم يقتل قابيل هابيل وهم أخوان قبل أن تبدأ كل هذه التقسيمات

    الا يتقاتل أبناء البلد الواحد والعرق الواحد والمذهب الواحد. …

    لنبحث عن السبب الحقيقي وراء كل هذه الدماء

  7. يقول للأسف الشديد ، عربي:

    منذ الأزل والتقسيمات للأرض والتعددية الدينية والعرقية القبلية والتميّزية
    سواءً كانت في اللون أو الأصل والمنشى موجودة ويعاني منها البعض من البشر
    منذ خلق الله البسيطة وخلق الإنسان ليعمرها ويحيا ويعيش عليها والاختلاف قائم
    فيما بينهم البين فلكل واحداً منهم توجهاته وتوجعاته صيحاته ومطامعه
    داخل كل إنسان خير وشر . هناك عقول تفكر وتدبر
    الفارق بين هذه وتلك .. التوجهات فالإنسان ليس آلة موجهة
    بالإمكان توجيهها في الإتجاه الذي يرغبون الأكثرية حسب قناعتهم
    في كل شيء صحيحا دون موافقته واقناعه
    دون إشباع رغباته وتحقيق احتياجاته وكبح احتجاجاته المتواصلة المستمرة
    لتحقيق اهدافه المشروعة المشروحه التي لا تتنافى مع ( ……) الطبيعة البشرية الكونية

    لكل شيئاً نهاية كما هو الحال لعمر الإنسان
    يأتي يوما معلوم وساعة محدده
    لايعلمها إلا الله لينقضي اجله وعمله
    أيضا سياتي الوقت الذي ستجدين الإجابات
    على تساؤلاتك .حينها ستعلمي أن السبب لوجودها هو مخلوق بشري يُدعى الإنسان !!

إشترك في قائمتنا البريدية