منذ فترة، زارني مريض تعدى الخمسين، كان متأنقا للغاية، يرتدي ثيابا منغمة، ويمشي بخيلاء، ودخل إلى غرفة الكشف ورأسه مرفوعة أكثر من اللازم، وحين جلس على مقعد الفحص أمامي، وبدأت أسأله عن أعراض مرضه التي قادته إلينا، لم يرد بتلقائية، كما يفعل المرضى عادة، لكنه استنكر بشدة عدم معرفتي به، وهو روائي مشهور، تعرفه الدنيا كلها، ويتسابق الناس إلى تحيته والتقاط الصور التذكارية معه، كلما ظهر في مكان.
تلك اللحظة انتبهت، ألقيت بصري كله على وجهه فلم يبد لي وجها مألوفا منتشرا في صفحات الثقافة في الصحف والمجلات، التي أزعم بأنني أعرفها وأعرف محرريها، جيدا. طالعت اسمه على الكمبيوتر أمامي، وكان اسما عاديا مألوفا كإسم فقط، لكنه لا ينبئ عن علم، ربما فاتتني معرفته. ارتبكت قليلا، وبدأت أعصر ذهني بحثا عن أثر يدلني لتلك الشخصية ولم أعثر، كنت حقيقة أتابع ما يحدث في عالم الثقافة بقدر المستطاع لكن بالتأكيد، لا يمكن الإلمام بكل شيء. وذكرت من قبل أنني تعرفت إلى كتاب مهمين في العالم، مؤخرا فقط، وكان من الغرابة أنني لم أسمع بالكاتب النيجيري العظيم بن أوكري إلا منذ عامين فقط، ولم أسمع بالسيرلانكي راميش جودسيرا إلا حينما اشتركنا معا في أمسية ثقافية من ضمن أمسيات معرض الشارقة، في العام الماضي. وحتى الآن تباغتني فجأة من حين لآخر، شهرة عريضة لمبدع ما، ولا أكون صادفتها.
كان المريض العربي، الكاتب الشهير كما ذكر، يطالعني بقهر، ونظراته ما تزال تستنكر عدم معرفتي له. كان أقرب تبرير قد تكون الآن على طرف ذهني، ونقلته للرجل بسرعة. قلت له: تعرف مهنتنا التي تصعب علينا حتى معرفة أبنائنا في البيوت. وكان تبريرا تقبله الرجل، وزودني بإسم رواية أصدرها مؤخرا، قد لا أعثر عليها بسهولة، لأنها تنفد من الأسواق باستمرار، وأنه قد يحضر لي نسخة خاصة، عليها توقيعه، في زيارة قادمة، بالرغم من أنه نادرا ما يهدي أحدا كتابا.
بعد ذلك انتقلنا إلى مرحلة الشكاوى المرضية، وعلاجات السكري والضغط وزيادة الشحوم في الدم، وإمكانية ممارسة الرياضة بانتظام، والإقلاع عن التدخين، وكانت مسألة التدخين بالذات، خطا أحمر. قال الروائي إن الأطباء لن يفهموا أبدا ضرورات الإبداع الكتابي، ومنها تلك السجائر المشتعلة في الفم والذهن، وتشعل النصوص على الورق.
تلك الليلة، وتحت ضغط الإحساس بالجهل، ولأن الأمور البحثية غدت أسهل في وجود باحثات مثل غوغل، كتبت اسم الكاتب، وذهلت حين لم تكن ثمة نتائج تقترب حتى من كلمة غرور واحدة نطقها في مكتبي. كان ظهور الاسم خجولا في نتيجتين فقط، ارتبطتا بكتاب خواطر وحيد، هو الذي أعطاني اسمه ولا شيء آخر. لم يكن ثمة كاتب مشهور، لم أتعرف إليه بسبب الجهل، لم تكن ثمة روايات عديدة يتناقلها الناس وتنفد من السوق بسرعة البرق. باختصار شديد، كان ثمة وهم كبير ومرضي، هو ما التقيت به ذلك اليوم.
شخصية ذلك الرجل ليست جديدة علي، ولا جديدة على الإبداع عامة، وأفهم أن يرتديها شخص في بداياته وأثناء تعجله لكتابة الأفكار كلها، ونيل الشهرة، والتي غالبا ما تتعدل حين يكبر الكاتب عمرا وإبداعا. لكنها تبدو غريبة فعلا في عمر، هو أقرب للنهايات، وحيث المبدع الحقيقي قد قال كلامه كله ويوشك أن يذهب، أو قال معظم ما في ذهنه ويوشك أن يختتم أعماله. وبالطبع هناك من قدم شيئا بسيطا لكنه يعادل في القيمة الإبداعية، ما يشكل حصيلة مكتبة عند غيره.
الوهم المرضي، في أي عمر كان، يبدو عائقا حقيقيا أمام الإنجاز، فما دام الشخص الذي يود أن ينجز شيئا، قد تخيل أنه أنجزه بالفعل، فلن يحدث أي تغيير، سيظل ذلك الروائي الواهم يتأنق ببدلة جيدة ورباط عنق حريري، ويتعطر بعطر فرساتشي أو توم فورد، ويلتقي بالناس في كل مناسبة ليردد بأنه كاتب مشهور، يقرأه القريب والبعيد، ويذهب إلى بيته برداء ذلك الوهم لينزعه ويتحسر وحيدا أو لا ينزعه على الإطلاق، ويرتديه حتى في وسط أسرته.
أذكر أيام كنت طالبا ثانويا، أكتب الأغنيات وأوزعها على المغنين في المدينة التي أسكنها، أن تعرفت بشاعر كان رقيقا جدا، وشديد الحساسية، وله قصائد رائعة في وصف العيون، والخدود المحمرة ساعة الخجل، والمشاعر الفياضة عند لقاء الأحبة وعند فراقهم، وقضينا أمسيات كثيرة، أسمعنا فيها قصائده بسخاء، وكنت أسمعه قصائدي وأستحي، ذلك أنني لم أقل شيئا مقارنة بما قاله. ثم لنفترق بعد ذلك، وبعد سنوات عدة، أجد نفسي أستمع لكثير من قصائده تلك مغناة، ولكن بأسماء شعراء آخرين، لم يكن اسمه بينهم، ولا سمعت بإسمه في أي أغنية بديعة كانت أم ركيكة، بعد ذلك.
ومنذ ثلاث أعوام، أرسل لي كاتب قصة شاب حوالي الخمس قصص، ذاكرا في رسالته أنه أهم حتى من بورخيس، وإن جميع من قرأوا قصصه لم يستطيعوا أن يجدوا له شبيها، وبذلك هو أكبر كتاب القصة في العالم. كانت مقدمة مغرية لقراءة القصص، وللأسف لم أعثر على قصص ذات جدوى، في كل ما قرأته له، كانت مجرد خواطر إنشائية، عن البحر الذي يشبه عينيك، والسماء التي أخذت صفاءها من وجهك، وأشياء أخرى ليست أفضل مما ذكرت. قلت للشاب الذي لا يشبهه كاتب، إن الوهم بأنك الأفضل والأقوى، والجدير بكل شي، لن يجعلك أفضل وأقوى وجديرا. لقد دفق خورخي لويس بورخيس، إبداعه المتجاوز، ومضى، ولم يكن يعتبر نفسه كاتبا جيدا، وماركيز قال ما لم يقله أحد، ولم يدّع امتلاك الحكمة ذات يوم، ومعظم الذين نطالع أسماءهم ونقرأ لهم، يكتبون في صمت، وبعضهم يعمى من كثرة القراءة، وبعضهم تتشقق أصابعه من كثرة ما يكتب، وبعضهم يموت مجنونا من شدة التفكير، ولكن لا ادعاء ولا وهم.
في حوار صحافي، العام الماضي، لا أعرف إن كان نشر أم لا، سألني المحاور عن جائزة نوبل: هل الحصول عليها، في رأيي يمكن أن يترك الحواس ثابتة كما هي، أم أن هناك هزة ما قد تصيب المبدع حين يحصل عليها، وتحوله إلى جبل من الأوهام؟
كان سؤالا جيدا، لكنه بالتأكيد من المفترض أن يوجه لأشخاص آخرين حصلوا على نوبل أو اقتربوا من الحصول عليها، لكني لم أسمع بهزة أصابت شخصا، أو وهم ارتدى أحدا، خاصة أن تلك الجائزة، تذهب لكتاب ترسخوا في الكتابة والشقاء، وبعضهم اختنق في الأذى والاضطهاد، ولا تأتي مصادفة إلا نادرا. وهناك جوائز أخرى بخلاف نوبل، تملك غواياتها الخاصة، وأيضا لا تصنع الوهم، فالوهم هو اختراع يتقنه البعض ولا يتقنه البعض الآخر، مثل الكتابة الحقيقية تماما، يجيدها البعض ولا يجيدها من يدعي إجادتها.
بالطبع لن يعود ذلك الروائي الموهوم حاملا نسخة موقعة، لأن إيقاع الوهم أدى دوره أمام طبيب ساذج في اعتقاده، لن يدقق كثيرا، وإن عاد مريضا مرة أخرى، سيقوم الطبيب بتبجيله، واحترامه، ومخاطبته بما يليق بكاتب مشهور، وإن سأل عن نسخته الموقعة، فتوجد عشرات الحيل، في عدم توافرها.
كاتب سوداني
أمير تاج السر
تحياتي للدكتورالرائع أميرتاج السر…فهويذكرني بالدكتوروالأديب الراحل المصري
يوسف إدريس…الذي جمع بين الطبّ والأدب.ياسيدي : الوهم ليس في عالم الرواية والأدب بل في الطبّ أيضاً.بل في كلّ شيء اليوم…وأكبروهم ينتشرهووهم السياسة.
بل هي السبب الأكبرللوهم المتشظي هنا وهناك.السياسة طغت على كلّ مناحي حياتنا
فلم يدع أصحابها من المحترفين والهواة مجالاً ولا مضماراً إلا ولجوه كالثعالب…لذا
المهمشون ومنهم مريضك العبقري ؛ يبتكرون أوهاماً تعويضية للولوج إلى عوالم ؛
لعلها تعوضهم ما هومسروق ؛ فهووهم يولد وهماً حتى يرث الله الأرض ومنْ عليها
وكل منْ عليها فانٍ إلا الدّفان فهوالوهم الأخير…لأنه لن يجد حفرة له مع الواهمين…
بالله عليك إنْ زارك ذلك العبقري ؛ أستقبله كعبقري وأعتذرله عن عدم معرفتك بـه
في الزيارة الأولى ؛ وأنك الآن تقف أمام المبدع الأكبر…ولتعفيه من أجــورالكشف الطبي ؛ ليصدّقك القول ؛ لعلك ترى شيئاً جديداً منه لتكتبه وتنشره لنا…مع الـــودّ.
لنسميه مرض العصر ، والذي هو هوس الشهرة والنجومية ، هوس المال والثراء السريع ، هوس النجاح والعظمة وغيرها من الهُوس التي تجتاح البعض كموجة عنيفة ، تجعلهم البحث عن اي طريق ووسيلة للوصول ، وكأنهم في سباق مع الوقت . فالكتابة من أجل الشهرة والأضواء سوف تستنزف طاقة الكاتب الذهنية وتعيقه من الابداع . وأن الكتابة الجادة هي عمل شاق ومسؤولية تجاه كل كلمة تُكتب .
مقال رائع يشخص ويدل على حالة مرضية يعاني منها الكثير منا في بلادنا العربية وهي(النرجسية).