إسطنبول ـ «القدس العربي»: حمص عام 1989 وفي ليلة شتوية باردة اطلقت الجدة زغرودة وعانقت الطبيبة (هي جارتها) التي تشرف على ولادة زوجة ابنها، هذا هو حفيدها الثاني الذكر، لنفس الابن، وهو إنجاز في عرف الجدة التي لا زالت ترى في مولد الذكور مناسبة تستحق الاحتفال، ربما لأن معظم أحفادها إناث، وهي ما زالت على عادة العرب لاتخفي حبها المفرط للصبية وتفضيلهم على الفتيات، ولم تقنعها كثيرا أفكار منظمات المرأة، أو ما كان يسمى انذاك بـ»شعبة الاتحاد النسائي» رغم انها من عائلة إقطاعية ثرية في حمص.
لم تعش الجدة طويلا لتر الفتى شابا، توفيت قبل ان ينهي مرحلته الابتدائية بجلطة قلبية حار فيها طبيب الأسرة (ط)، كان رحيلا سريعا، لم تقل الكثير قبل وفاتها، بضع كلمات فقط، ورسالة تركتها لابنها المبعد في إحدى الدول منذ ثلاثين عاما بتهمة «الإخونجية» سرعان ما كبر الفتى الصغير، كان مدلل أمه وعمته وأعمامه، وهو فتى محبوب ذو طباع مرحة وخلق دمث.
لكن البذور التي ورثها ربما من إعمامه «الإخوان» بدأت تظهر في آذار/مارس 2011 حين اندلعت الثورة، فالفتى وغيره من الشبان مصدر قلق دائم لأمهاتهم، يخرجون في المظاهرات، يغيبون طويلا، ويتمردون على أوامر أمهاتهم بالجلوس في المنزل، بل ويغلقون هواتفهم أيضا من باب الاحتجاج إذا استدعى الأمر.
الأم تعرف قسوة النظام السوري جيدا وتعرف ان كل مايفعله هؤلاء الفتية في مظاهراتهم ليس سوى تقليد لمظاهرات سلمية لن تزحزحه، المظاهرات والسلمية والقانون الدولي أمور كفت الأم عن تصديقها منذ الثمانينات، حين عانت العائلة خلال حملة النظام لقمع «الإخوان»،
يوما بعد يوم ازداد بطش السلطة وازدادت عمليات القتل والقمع التي يشنها النظام، ومع كل يوم يمر كانت ذاكرة الأم تستعيد أيام الثمانينات وبدأ هذا الهاجس يسيطر عليها، لا تزال تذكر كيف غيب شقيقها في السجون أيام الثمانينات وكيف قضى عدد آخر من أبناء عمها برصاص الاعدامات الميدانية، أيام «الاحداث» أو «الثمانينات» كما يسميها جيلها، يقولونها بصوت خافت مطبوع برهبة كبرى.
توالت الأيام بسرعة كبيرة، فقدت جارة العائلة، الطبيبة إياها التي أولدتها، فقدت ابنها الأصغر وهو شاب عشريني.
صديقتها هذه كانت قد فقدت أيضا شقيقها الوحيد قبل ثلاثين عاما أيضا، في الصراع مع النظام السوري، هاجس «الثمانينات» كان يطارد المرأة في كل وقت، ولم يكن أمامها لتحمي ابنها الفتى المتحمس لمواجهة النظام الا ان استعانت بابنها الأكبر الذي يقيم في إحدى الدول الخليجية، ليبعد الفتى الصغير خارج سوريا، بأي ثمن.
الأيام كانت تحمل ماهو أصعب، فقد نزحت العائلة لمنطقة أخرى أكثر أمنا، ولكن تحت سيطرة النظام، وعانت الأمرين مع تقدم عمر الوالد الذي غدا عجوزا في السبعين، وظلت رغبة الأم جامحة بإخراج الفتى إلى لبنان لإبعاده عن المظاهرات أو الانضمام للجماعات الثورية، ومن هناك ذهب الشاب العشريني إلى تركيا بحجة إكمال دراسته.
في تركيا لم تعد الأم تقلق على صغيرها، كان يرسل لها صوره مرة في إسطنبول وأخرى في قونيا، كان يكلم شقيقه الأكبر المقيم في دولة خليجية بشكل شبه يومي، ليشتكي منه شقيقه بالقول «هؤلاء الفتية لا يكفون عن إلقاء الأسئلة والخوض في كل شيء»، في السياسة كانت أراؤه مع بقية أصدقائه مثيرة للتساؤل، فهؤلاء الفتية يتعاطون الأمور بنقائها من دون الخوض في التفاصيل والأيدولوجيات، خليط من الاسئلة المشتتة عن صدام حسين وصلاح الدين، عن الجهاد والتوحيد، أحيانا كان يسأل عن مروان حديد زعيم الطليعة المقاتلة المنشقة عن «الإخوان» في الثمانينات أو غيره.
كان الشاب يعيش ذلك المخاض، الذي يسبق تحديد الطريق، بعض الأحيان تكون اسئلته مبهمة غير مفهومة، لكن الملفت انه لم يكن يتحدث أبدا لا عن المعارضة ولاحتى عن أخبار الحل السلمي التي يتداولها الناس حتى وإن على سبيل السخرية بالطريقة الحمصية المعروفة.
في تركيا بدا ان الشاب الحمصي يخبئ شيئا عن والدته وشقيقه، ففي الفترة الأخيرة بدأ يتحدث عن عمله القريب في مخيمات الاغاثة داخل الحدود، حجج كثيرة ساقها على مدى 8 أشهر عن انقطاع التغطية لمكان هاتفه وعن مكان إقامته البعيد عن المدن في تركيا، اتصالاته القليلة ما كانت لتقنع الأم بسبب اختفائه، كانت تعلم ان ثمة أمرا ما أكبر من ذلك.
الى ان بدأ القصف الروسي، هناك وعلى جبهة جبال سلمى في اللاذقية بعث الفتى برسالته الأخيرة، وقضى مع «جبهة النصرة»، لم يكونوا يعرفون حتى اسمه الحقيقي، ولولا وصيته التي تركها لزملائه في «النصرة»، لقضى أهله أياما في البحث عنه.
كان الخبر مفجعا لوالدته التي ترك النزوح والمرض آثارهما على جسدها، ولأسرته كلها ولم يجد شقيقه من كلمات يصف بها ما حدث سوى التعجب من إصراره على ما يريد قائلا «هؤلاء الفتية الشبان أكثر قدرة على ترجمة أحلامهم منا نحن الكبار، هم يعرفون ما يريدون ويموتون لأجله، بينما يتركون لنا مرارة مواجهة أمهاتهم المفجوعات بالحقائق، هم حتى لايهتمون بما يهتم به الكبار أصحاب الأيدولوجيات والتنظير، بل يختارون الطريق الأبسط والأقل فلسفة وتعقيدا».
هناك وفي منزل الأسرة في الحي الذي لا يزال تحت سيطرة النظام، تجمعت النسوة مرة أخرى للبكاء، كم عزاء وكم من بكاء، بنفس الأوجه الباكية منذ ثلاثين عاما، الطبيبة وزوجة الطبيب وصديقة أم الفتى، وغيرهن، كان عزاء صامتا رغم انه لم تبق بالحي أي أسرة لم تفقد عزيزا، وفي غرفة مجاورة كان الوالد العجوز جالسا بصمت، يسترجع شريط الذكريات الطويل عن ابنه، وعن احداث «الثمانينات» وفتية الأمس واليوم، كانت المأساة تتكرر، غير أن حقيقة واحدة اختلفت، فتية اليوم يعودون من الخارج مرة أخرى ليدافعوا عن أرضهم، بينما فتية الأمس يموتون في السجون أو يرحلون للخارج.
ما وصل لأسرته منه هو هاتفه المحمول فقط، في هاتفه وجدوا ما يلخص خياله السني المبعثر، صور لصدام حسين بالشماغ العربي، صور لمسجد «سيدي خالد» جامع خالد بن الوليد في مدينته حمص، وصور لبعض أحياء حمص القديمة، وأحاديث عن فضل الجهاد وأعلام التوحيد، هي صور الهوية السنية الحائرة، المسافرة بحثا عن رموز في مخيلتها بين الماضي والحاضر، انها قصة ابن حمص السني الذي اعتكف في مسجد ابن الوليد متضرعا، مبحرا باحثا عن شاطئ الذات بين أسرة «إخوان» و«نصرة» سلف و«صدام» قوم.
وائل عصام
رحم الله هذا الشاب المجاهد الذي اقتحم الموت بلا هيبة ولا رهبة
ومثل هذا الشاب آلاف رحلوا للدار الآخرة و آلاف ما زالت تنتظر
وبالطبع هناك آلاف من الشباب من رحلوا لأوروبا هربا من الموت
والسؤال هو : هل تمكن أحد من الهرب من الموت ؟
ولا حول ولا قوة الا بالله
منذ لحظات بثت قناة الجزيرة فيلما من ريف حمص يظهر فيه دمار في بلدة و تقول عن مقتل 84 مدنيا بينهم اطفال – لكننا لم نشاهد جثة واحدة – كل ما شاهدناه بعض المنازل المدمرة و لم نشاهد جثة و احدة و لم نشاهد مدنيا واحدا حيا – البلدة فارغة كليا –
الدب الروسي سوف يكون له الدور الحاسم في التخلص من التطرف والقتلوالدمار الذي حلقي سورياالحبيبة. . سحقا
مادة رائعة و مؤثرة تلخص مأساة أمة طوتها متاهاتها…شكرا وائل
رحمه الله وأحسن مثواه ونرجو من الله أن يتقبله شهيداً.
للاسف النفاق اوصل بعض الناس عندما تقرأ قصة بهذه الشكل من الروعة والحبكة في التضحية من البطليين الكاتب والممثل يختم نهاية تعليقه على نقد الضحية على انه ارهابي