خسارات وتجارب

حجم الخط
5

ليس سهلا أن نخرج من تجربة خاسرة بفرح لأننا تعلمنا درسا لحماية أنفسنا في المستقبل. فقد تعوّدنا أن نقرأ الخسارات بلغة الحزن، وإن تسنّى لنا أن نحوّل خساراتنا إلى بكائيات أبدية لما تردّدنا.
وأظننا بعيدين تماما عن مقولة مارتن لوثر كينغ، «إننا نكتفي بالبكاء حين نحزن، أما حين نغضب فإننا نحدث التغيير». ففي ثقافتنا المتوارثة البكاء جزء مهم من الحياة. وجزء من إبعاد العيون الحاسدة عنّا. وجزء من إيصال رسائلنا للآخر، ولا أدري إن كنا عاطفيين فعلا، أم أننا سلبيون ونعشق الشحنات السلبية لعواطفنا. إذ قلّما نجد من يتعامل مع خساراته بغضب ويتعلم من أخطائه، وينهض من جديد بشكل أقوى.
ثمة شيء أيضا لا نفهمه وهو أن التجربة لا تُصنَع على مقاساتنا، بل نجتازها، كما قال ألبير كامو. كيفما كانت يجب أن نجتازها. وقدرة الشخص على اجتياز تجارب صعبة تكشف عن قوة شخصيته وذكائه وصبره وإيمانه وطموحه… ومدى قدرته على التعامل مع مطبات الحياة وعقباتها. وهذا الشخص بالذات هو من يُعَوَّل عليه.
أي نعم هناك عباقرة فشلوا عند عتبات تجاربهم الأولى في حياتهم، وهذا يعني أن الحياة لها متطلبات أخرى غير المعطيات التي نعتقد أنها تكفي لتجاوز عقبات جمة تكاد تحطم الشخص أحيانا وترميه قطعا مهشمة. ولنقرأ ماذا قال عبقري عصرنا ألبرت إينشتاين: «المعرفة ليست المعلومات، فمصدر المعرفة الوحيد هو التجربة والخبرة».
إينشتاين نفسه كان مشكلة كبيرة بالنسبة لوالديه، إذ بدأ يتكلّم في عمر الرابعة، وبدأ يتحدث بنوع من الطلاقة في التاسعة، وأول جملة تفوه بها، كما تحكي سيرته الذاتية، أنه سأل عن الشوربة الساخنة جدا وهم على طاولة الغداء، والغريب أن والداه أصيبا بدهشة كبيرة، وحين سأله والده لماذا لم يكن يتكلم بهذه الطلاقة من قبل، أجابه لأن كل شيء كان يمشي بانتظام. وهذه القصة في الحقيقة أدهشتني، كما أدهشني أن إينشتاين كان يكره المدرسة ولم ينجح في شهادة البكالوريا لأنه ضعيف في كل المواد عدا الرياضيات والفيزياء.
وإن كانت عائلة إينشتاين تأزّمت بسبب ذكاء ابنها الحاد، فبعضنا يعيش كارثة عمره بسبب غباء أو إعاقة ولد لديه، وعلى هذا الأساس فإن النعمة أحيانا ليست في ما لا نملكه، بل في ما نملكه مهما كان بخسا أو تافها في أعيننا. وأتذكر قصّة الفنان راي تشارلز حين فقد نظره، كيف أمسكته أمه بقبضة قوية وهمست له أنه سيكون قويا حين يتأقلم مع إعاقته ويتصرف وفق قدراته التي يملكها لا حسب ما فقده. وكانت تلك الهمسة أقوى قاعدة استند إليها ليصبح ما أصبح عليه.
توماس إديسون وصفه أستاذه بالتلميذ الفاسد، لأنه كان شارد الذهن دوما، ضعيف الاستيعاب، وذاكرته ضعيفة جدا، وكان مصابا بصمم جزئي، ولم تتقبله المدرسة لأكثر من ثلاثة أشهر. وهو نفسه يقول : «أمي هي من صنعتني»، لأنها لم تتقبل فكرة أن يكون ابنها فاشلا في الحياة. ظلت تحارب على جبهات عدة ورفضت تماما أن يكون ابنها الأصغر توماس خسارة لأمومتها. فأصرت على أن تعلمه كل تجاربها. باع الخضار وباع الصحف واشتغل في شركات عدة قبل أن يصبح صاحب شركة ثم سلسلة من الشركات ثم رجل أعمال ومخترعا وصاحب ثروة كبيرة.
ألا نقول دائما أن الحياة ظلمتنا؟ ألا ننظر لممتلكات الآخرين ونشفق على أنفسنا لأننا نملك أقل منهم؟ ألا نقيس نجاحاتنا بنجاحات الآخرين فننطفئ لأننا لم نحقق ما حققوه؟
كثيرة هي الأمور التي ننظر إليها فنرى ما حققه الآخرون، وننسى تماما أن ننظر إلى أنفسنا ونسأل: ما السبيل لتحقيق أهدافنا؟
لكن ما لفت نظري حقيقة لأكتب هذا المقال هو كم كلمة «خسارات» أو «خسائر» التي صادفتها في قراءاتي، خاصة أثناء تكثيف هذه القراءات في تجربتي مع قائمة الأعمال المرشحة للبوكر، وقد لمست كما هائلا من الحسرة وعدم الرضا، والحزن والألم والغُبن… وهذا حقل دلالي مرعب نغرق فيه بالجملة ولا نعرف الخروج منه.
أما الفعل الذي يفرض نفسه في بناء الأحداث الروائية فهو «الفعل الماض»، يا الله..
وكأن ما نكتبه مجرّد تأريخ لما مضى. بالطبع الأدب يعكس صورة المجتمع، هو مرآة تكشف نمط حياته وتبلغ أعماقه، لكن من يعرف ذلك؟ اليوم ونحن أمام هذا الكم الهائل من الخسارات، هل يمكننا أن نتخطاها؟ إلى أي مدى يمكن للأدب والشعر أن يغير أعماق الإنسان ويمنحه رؤية أخرى لخساراته حتى يراها بمنظار التجربة لا بمنظار ركام الخسارات التي لا تعوّض؟ إلى أي مدى يمكن أن نفتح حوارا مع الذات من خلال الأدب، ونناقش زمننا الداخلي حين ترفض عقارب ساعته أن تتحرّك وتقفز للحاضر؟
تجهل الأغلبية أن الشعر والأدب منتوجان من الإنسان إلى الإنسان، وهما مثل الخلايا التي ترمم نفسها، ومثل كل شيء في الطبيعة حين يعيد التوازن إلى نفسه. فوحده الأدب يرمم انكسارات النفس. حتى حين يكون سوداويا فإنّه بقدرة قادر يحرك شيئا ما في نفس القارئ ويجعله يرفض كل ذلك الانكسار ويتصرف بإيجابية. الخسارات بمفهوم أوضح هي أعباء سقطت عن أكتافنا، وأثقال تخلّصنا منها ومع هذا نبقى عند أطلالها نبكيها.. لماذا نفعل ذلك؟ هل لأن حجم ما خسرناه أهم من الحياة نفسها؟ أم أنّه لا يعوّض؟ أم أنه يحدِّدُ بالأرقام ما نملكه، ويجعلنا نتوقف دوما عند تلك الأرقام التي ذهبت هباء؟
عواطفنا التي لا تقاس بالأرقام، أيضا نحوّلها إلى سنين وأشهر وأيام أهدرناها من أجل الآخر، بحيث في لحظة ما حين تكسرنا الخسارة نبدأ بعدِّ ما فقدناه وما صرفناه وما بذّرناه وما تحوّل في غفلة منا إلى فاتورة ثقيلة لا يمكن تعويضها، وكأن الأمر منذ البداية كان مجرّد لعبة قمار بدأت بالإمتاع وانتهت بالإفلاس التام.

تراني لامست ما أعنيه؟

أعرف سلفا أن للخسارات طعما مرا، وحزنا يشبه السهام القاتلة. كثيرون يموتون عند صدمات الخسارة، ينهارون وتتوقف أرواحهم عن الاستمرار في القتال والنضال في عالم مادي محض. يحدث ذلك بدون نقطة نهاية لتلك النكبة الشخصية، لأن الخسارة التي يتبعها الفقدان تصبح دائرة حلزونية تبتلع من هم في محيط الخاسر. وتتضخم الكارثة الفردية حتى تسمم الجميع. وقد عايشت مآسي كثيرة لأفراد من العائلة والأصدقاء وأقارب ومعارف. وقفت على خساراتهم تماما مثلهم واستلهمت القوة من الذين يسلمون أمرهم لله وينهضون. أحببت دوما تلك العبارة السحرية التي يرددونها في ما تحيلنا مباشرة لله «الله جاب، الله خد، الله عليه العوض».
وحين يكون العوض على الله نصغي جيدا لرسالته على ألسنة أقوياء الإيمان «إسع يا عبد وأنا اسعى معاك». ذخيرة مهمة للاستمرار… فكل الخسارات الدنيوية تعوّض وكلها في الغالب محطات تزداد أهميتها بمقدار حجمها.

شاعرة وإعلامية من البحرين

بروين حبيب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول zak:

    تحية لك اختي على هذه الكتابات المعمقة, التي تثري و تحفز العقل العلربي النائم علي التفكير. ليس بوسعي الا ان اقول ان الانسان هو اعقد المخلوقات و ليس سهلا فهمه فكلما فكرت في امر من احوال الانسان و ظننت اني فهمته طرأ سؤال آخر و سؤال آخر, يقول ارسطو “ان الانسان في رحلة لاكتشلف ذاته” و قد لا يكتشف ذاته و قد يكتشف ذاته متأخرا. موضوع مهم يتعلق بما ذكرتِ و هو كما اظن انه مصدر لامور كثيرة تعاني منها الشخصية العربية و هو الخوف, اعتقد اننا نتربي على الخوف, الخوف في علاقتنا بالوالدين الخوف بعلاقتنا بالمدرسين و بأشياء كثيرة, هذا ينتج عنه علل كثيرة لاحقة مثل.. تظل شخصياتنا حبيسة داخلنا و لا تنمو بشكل طبيعي و هذا الامر يؤثر في فهمنا لانفسنا و بالتالي يحد من ابداعنا و انطلاقنا. الخوف ينتج عنه النفاق و ينتج عنه الكذب. لاحظي اطفالنا لانهم يخافون فانهم يكذبون و هكذا تنشأ شخصية غير سوية و عندما تكبر ترين المصائب عندما يصبح هذا الشخص مسئولا, نهم للمال و لجمع الثروة, نفاق لمن هو اعلي منه في المسئولية و غير ذلك. اكتفي بهذا القدر.

  2. يقول نسيمة حرة - الجزائر:

    سلام عليكم سيدة بروين
    قراءة الأدب، الروايات في درجة أولى و خاصة تلك التي كتبها العظماء كنجيب محفوظ على سبيل المثال لا الحصر مكنتني من رؤية شريط حياتي بمنظار مختلف و أن الأحزان و التجارب الفاشلة ليست كارثية غالبا. أحيانا كثيرة ألمس في نفسي فرح أو لأقل رضا ، قناعة و تفاءل أسعد بهم بعدما أقرأ رواية جيدة أو حتى نص جيد.
    بالنسبة لي الأدب “شفاء”.

  3. يقول Ahmad ismaeil.Holland:

    افراح البشرية جائت من احزانها
    فلو لم تتأثر نفوس العلماء والفنانيين من خيبات الامل المتكررة،ومرارة التجارب القاسية و صنوف الحرمان المتنوعة لما انتعشت حياة الناس بتلك الابداعات الرائعة التي خرجت من اعماق الفنان نتيجة للاهات المكبوتة التي اختزنها طوال ايام وليالي و قلق والعذاب والمشقة والشجن…..ايضاً ان المرض المزمن او النقص البدني او احدى درجات الاعاقة البدنية ترهف الحسّ عند اصحابها نتيجة لرد فعل طبيعي للجسم و درجة شعوره بها.ولكل فعل رد فعل.وايضاً الانسان عندما يتعرض لتجارب قاسية كالصدمات والمعاناة والالم النفسي ايضاً يكون هناك رد فعل،المشاكل النفسية والازامات هذه ردود افعال،واحياناً الصعوبات والمعاناة تجعل الانسان يدرك انسانيته ويصبح اقوى واكثر حكمة.

  4. يقول أفانين كبة . مونتريال ، كندا:

    الاختلاف بين البشر في القابلية الذهنية والقوة الجسدية والمهارات اليدوية ، ضرورية لبناء اية حضارة للمجتمعات .علينا ان نتقبل هذه الفروقات بيننا ، فلايوجد انسان متكامل ، كلنا نحمل نقاط ضعف .كذلك ليس هنالك انسان فاشل ان وُضع في المكان المناسب له ، ضمن قابليته التي مُنحت له . فلا يمكن ان يُرغم الشخص الأعسرعلى أن يكتب بيده اليمنى .
    شكرا للأعلامية بروين حبيب على هذا الموضوع المهم ، واسع للجدل والنقاش
    لما فيه من تشعبات وتداخلات .

  5. يقول aicha abbache Alger:

    رؤية رائعة لبعث الامل في الحياة اشكرك بروين حبيب

إشترك في قائمتنا البريدية