طقوس الفرح الشعبي والاحتفالات الشعبية في المغرب ذات تاريخ عريق. ومن هذه الطقوس: عاشوراء التي تتخذ في المغرب طابعا خاصا يمتزج فيه التاريخ بالأسطورة، والدين بالشعوذة، حتى صارت تعبيرا عن الخصوصية المغربية التي تشكلت على مدى التاريخ لتعطيه مميزات خاصة يتداخل فيها اليهودي بالوثني والإسلامي. ولا يمكن فهم عاشوراء المغربية بدون التوقف على مظاهرها الحالية، ومحاولة قراءتها في ضوء صيرورات تشكلها عبر التاريخ.
يمكن تلخيص عاشوراء في ثيمتي: النار (الشعالة) والماء (زمزم). فالنار يتم التحضير لإشعالها واللعب فوقها ليلة عاشوراء، وفي اليوم العاشر يتم تقاذف الأطفال بالماء الذي يسمونه زمزم. ولا يمكن فهم هذه الثنائية بدون ربطها بمقتل الحسين، باعتباره جزءا من الذاكرة الشعبية. لقد أمر الحسين عند استعداده للحرب بجعل البيوت والخيام في ظهورهم وبحطب أشعلوا فيه النار مخافة أن يأتيهم العدو من ورائهم. أما الماء فقد حيل بينهم وبينه منذ السابع من محرم، فاشتد بهم العطش، فكانت معاناة النساء والأطفال شديدة، لذلك أعتبر الشعالة وزمزم تجسيدا للحظة زمانية مأساوية ترتبط بعاشوراء.
يبدو لنا هذا الربط بجلاء، في كون عاشوراء يوما يصومه المغاربة، ويذهبون فيه إلى المقابر للترحم على موتاهم، وبكل تأكيد لم يكن يدور في خلدهم الترحم على الحسين، فتلك جذور أتى عليها الدهر. وأتذكر، وأنا صغير، أننا ذهبنا إلى روضة الشهداء في يوم عاشوراء، وعلى طول الطريق إلى المسجد وفي مختلف جوانبه، التي لم يكن يحاصرها البنيان وقتئذ، كانت الحركة قوية، عربات لا حصر لها لبيع الفواكه الجافة، خاصة التين واللوز والجوز، وقطع الحلوى. كما كانت هذه الدكاكين ملأى باللعب الخاصة بالأطفال (دميات، رشاشات الماء…) إلى جانب الحلقات التي ينشطها الفقهاء والمغنون والبهلوانيون… الذين كانوا يأتون من كل مناطق المغرب. وداخل المقابر كانت تباع الأكواب الطينية الصغيرة، وماء الورد وأعواد الرياحين، حيث كانت توضع على القبور.
كانت عاشوراء مناسبة لصلة الرحم، وإخراج الزكاة، وتبادل الزيارات العائلية التي تنتهي بعد الصوم بالاجتماع على تناول الكسكس بالذيالة أو الكرداس أو القديد، أي ما يخزن من الأضحية لهذه المناسبة، وأكواب الشاي مع الفواكه الجافة. ولذلك كانت تتلاءم فيها رواسب من الحزن على مقتل الحسين، وقد حولت لتجاوز البعد المأساوي للحدث: فإشعال النار، وسقي الماء، أو رشه على المارة، وشراء لعب للأطفال، وإدخال السرور عليهم، وترك فسحة للفرح النسائي عبر الغناء، كل ذلك تعويض لما وقع لآل البيت جراء تخاذل شيعتهم عن نصرتهم، وتركهم يواجهون قدرهم المأساوي. وهنا تكمن خصوصية الاحتفال بعاشوراء على الطريقة المغربية. إنها استحضار لمأساة، وتعويض لما حصل فيها. وأرى أن السبب في ذلك هو أن المغاربة لم يكونوا من شيعة علي ولا من أتباع الحسين الذين عايشوا الرجلين، وساهموا في قتلهما وإقامة الحسينيات على أحدهما، بل إن جزءا مهما من المغاربة من آل البيت، ولا يمكنهم إلا أن يتذكروا ما وقع لهم، مع الشيعة، ويحتفلون بمأساة الحسين بطريقتهم التي تختلف عمن خذلوه؟
ظل المغرب بعد الفتح الإسلامي ملاذا للهاربين من سلطة الأمويين والعباسيين على التوالي. فلجأ إليه الخوارج، وآل البيت على مدى العصور. وكان من بين هؤلاء المولى إدريس، وهو من الدوحة النبوية. أسس المولى إدريس الدولة المغربية عن طريق اتصاله بالأمازيغ، وزواجه منهم. لذلك لا غرابة أن نجد العديد من الأمازيغيين، وفي مختلف مناطق المغرب، لهم وثائق تثبت نسبهم الشريف. لكن شر السياسة ظل يطارده من لدن العباسيين الذين بعثوا إليه من يسممه، تاركا ابنه في بطن أمه. يعزى إلى المولى إدريس بناء مدينة فاس، وعمل ابنه إدريس الأزهر على توسعة المدينة وقال في افتتاحها هذا الدعاء الذي تنقله كتب التاريخ: «اللهم إنك تعلم أني ما أردت ببناء هذه المدينة مباهاة ولا مفاخرة، ولا رياء، ولا سمعة، ولا مكابرة، وإنما أردت أن تعبد بها، ويتلى بها كتابك، وتقام بها حدودك، وشرائع دينك، وسنة نبيك ما بقيت الدنيا. اللهم وفق سكانها للخير، وأعنهم عليه، واكفهم مؤونة أعدائهم، وأدرر عليهم الأرزاق، واغمد عنهم سيف الفتنة والشقاق. إنك على كل شيء قدير».
في خطبة المولى إدريس دلالة واضحة على الانتماء إلى السنة النبوية، وإقامة الدولة على أسس إسلامية صريحة لا إشارة فيها إلى التشيع، ولا إلى موالاة شيء آخر غير الكتاب والسنة. وظل المغرب على هذا النهج الذي سار عليه المولى إدريس، لذلك نجد المغاربة يتعاطفون مع آل البيت، وما نجاح السعديين، وبعدهم العلويون، وهم من آل البيت، في إقامة الدولة المغربية إلى الآن، سوى دليل على ذلك.
تبدو لنا هذه الخصوصية في كون أغلب أسماء المغاربة، سواء كانوا من أصول عربية أو أمازيغية، لا تخلو من أسماء الصحابة، وآل البيت معا. كما أن العديد من العائلات والقبائل ما تزال تحتفظ بظهائر تثبت انتسابها إلى آل البيت.
عاشوراء المغربية دورة زمانية: مزيج من مأساة الماضي، واستشراف فرح بالمستقبل.
كاتب مغربي
سعيد يقطين
شكرا لكل القراء الذين علقوا على الموضوع. ولعل هذا يبين أن بعض عاداتنا وتقاليدنا ذات جذور عريقة، وترسبات بعيدة في الزمان. ولقد ساهم هذا في تعقدها. وفي غياب دراسات تاريخية كلية أو جزئية (جهوية) تظل هذه الموضوعات عصية على الفهم.أو التفسير لذلك فكل مساهمة يمكن أن تغني الموضوع بمده بتفاصيل خاصة، توفر مادة مهمة للقراءة والتحليل. ولعل فرسان الدراسات الاجتماعية والتاريخية وفي كل الاختصاصات المساهمة في هذا العمل. تقديري واحترامي للجميع.
د.خالد علي ياس/العراق
مقال واعٍ جدا بالموروث والسرديات الكبرى التي تنتج من قبل المنظومة الاجتماعية وهو يدل على قرب فكر الناقد من السوسيولوجية التي سبق لي أن تتبعتها في أعماله النقدية في كتابي(سوسيولوجية النقد القصصي العربي الحديث-مقاربة في نقد النقد)وما زلنا ننتظر المزيد من أستاذنا الدكتور سعيد يقطين.