الثورة حررتنا. حررت أجسادنا. لكن تحرير الجسد، دون تحرير العقل واللسان، لا يجدي شيئاً. سيكون معطوباً، إن لم نعمل كما نحب، ونقول ما نحس به دون رقابة، حتى ولو ‘ثورية’، أو تدعي خدمة الثورة. والآن، لنكُنْ واضحين: الثورة ليست هي المعارضة. والمعارضة ليست بالضرورة ثورية. وهي، أحياناً، تكون العكس: مشروع ثورة مضادة. وإذا كانت السلطة الغاشمة تقتل الثورة، فإن المعارضة (أو جزء منها) تتَطَفّل على الثورة، وتقتات منها.
انفصام الحركة الثورية في سوريا فاجع: الجسم الثوري، أو الفعل الثوري، في الداخل. وصورة الثورة، أو ‘مسْوَدَّتها’، أو صداها اللَّغْويّ في الخارج. ‘معارضة الداخل المدنية ‘ مأزومة، و’مُقَلَّصة’ لأسباب كثيرة، أقلها الأسباب الأمنية. وهي على أية حال، لا تملك حرية الحركة والتعبير. و’معارضة الخارج’ ليستْ كياناً متماسكاً. هي مجرد صُوَر وكلمات. لا تستند على مرتكزات متينة داخل البلاد. ولا تتحدث بلسان واحد. واللسان الواحد ليس ضد التعددية، كما قد يُفهَم دون حق. إنه التعبير الأسمى عنها.
‘ظاهرة التطفُّل على الثورة’ ليست غريبة على التاريخ. ولا هي بعيدة عن منطق الحياة. إنها الأمر الأكثر احتمالاً في مثل هذه الحال : حال الثورة السورية، وبالخصوص، في ‘فضاء محايد، وبعيد’، حيث وَجَد، فجأة، أشتات السوريين المبعثرين في أنحاء الأرض، وجدوا، نَبْعاً ثورياً يُبَـلِّـل ‘ترابهم السياسيّ الناشف’. فهجموا على الفرصة بكل قوتهم، مدفوعين بنار إحباطاتهم المزمنة: يتكتَّلون. يتفَرَّقون. يجتمعون. ويجتمعون من جديد. و… إلى أنْ سئمنا من الاجتماعات، والاجتماعات المضادة. لكأن القيامة ستقوم الآن. وهي في الحقيقة، لا زالت بعيدة، وتتطلّب الكثير من الجهد والعمل والتضحية والإصرار. ولكَثْرة مذاهبهم، ذهبتْ جدواهم سُدى. فصاروا عِبْئاً على الثورة، بدلاً من أن يكونوا سَنَداً لها.
جدل المعارضة البيزنطيّ، الذي تضخَّم كثيراً في ‘المنافي’، حول جنس الثورة، ودينها، ودنياها ( وهي لا زالت في مراحلها الأولى)، صار خطراً على الثورة، إن لم يكن من أكبر الأخطار التي تهدد استمرارها. ثم هذا الدوران الذي رافق ذلك الجدل، وكأنه نتيجة طبيعية له ( للجدل المغرض والملتبس في هذه المرحلة بالذات)، الدوران حول الشرق والغرب، من أجل التسليح والتشليح ، كيف نفهمه؟ وأخطر ما في الأمر أن هذا الدوران اللامجدي قد استحوذ على اهتمام العالَم (وربما كانت تلك خدعة لئيمة من الغرب والشرق على السواء)، وتُرِك الثوارُ على الأرض يواجهون مصيرهم المأساوي، بلا عون! لكأن مهمة العالَم هي عَزْلهم، وإفشالهم. لكنهم تابعوا نشاطهم الثوري بشجاعة لا مثيل لها، غَيَّرت الكثير من الحسابات.
أما ‘المعارضة التقليدية’ فقد ظلت، للأسف، تدور في المدار المرسوم لها دون أن’ تحيد عن الصواب’. تبحث، فقط، عن الحلول الملائمة لها، حتى ولو لم تكن تلائم الثورة. ماذا تفعل الثورة، في هذه الحال، وفي هذه المرحلة التاريخية الحاسمة، غير أن تُبدِع، أو تُفْرز، معارضتها الخاصة، بعد أن أصبحت المعارضة الكلاسيكية لا تليق بها؟ شكل المعارضة السائد، ونشاطها ‘المرموق’ اكتسبَتْهما عندما كانت تعارض السلطة القمعية التي انهارت، أو هي في طريقها إلى الإنهيار. وبسقوط صنم الطغيان، ستسقط، بالضرورة، ‘معارضته التاريخية’، أو سيخفُّ دورها إلى أبعد الحدود. فالتآكُل الذي سيصيب السلطة القديمة، لن يستثني المعارضة المعاصرة لها، والتي كانت الوجه الآخر لعملة الحياة السياسية التي مرت عليها عقود. التاريخ ليس انتقائياً. لا يمحي سلطة، ويبقي على معارضتها. تصوروا، مثلاً، بقاء التنظيمات التي كانت تعارض النظام الإقطاعيّ البائس، بعد انهيار هذا النظام!
لا توجد ثورة نقية، ولا معارضة. نحن نعرف ذلك من وقائع التاريخ. لكن الأمور تتعقّد، كثيراً، عندما تتسَيَّد المعارضة اللاثورية على الثورة، كما يحدث في سوريا، اليوم. ‘معارضة الخارج’ ذات ‘البُعْد المشهديّ’ الصارخ، أصبحت عابرة للقارات. تتنَقَّل بين عواصم العالم. تتحدث على الهواء بطلاقة، وكأن ‘حرب الكلام’ تكفي لإنهاء النظام، وتخريب بنيته القمعية. لكأن أعضاءها، أو على الأقل أغلبهم، صدَّقوا اسطورة : ‘في البدء كانت الكلمة’! فصاروا يكتفون بها، نائين بأنفسهم عن وُحول الحياة الحقيقية، ومُشْتقّاتها. تاركين، هكذا، ‘مآسي الثورة’ للثوّار الحقيقيين الذين يموتون، كل يوم، من أجل الحرية التي يحلم بها الشعب.
تغَيَّر التاريخ السياسي ونحن فيه. وكثير منا لا يرون حتى علامات هذا التغيُّر الجذري. وأتصوّر أن تلكُّؤ الغرب حيال الثورة السورية العظيمة، ناجم بشكل من الأشكال، عن هذا الإعتبار اللامُدْرَك ،على حقيقته، بعد، والذي يمكن أن يكون مرعباً. لأنه سيغيِّر، بالتأكيد، تاريخ المنطقة، كلها. والثورة التي هي ‘نقد عنيف’ للواقع الذي ثارت عليه، تسمح بالنقد، أو هكذا يُفْتَرَض فيها. ولكن هل تسمح المعارضة الهشة والمفتتة بذلك؟ نتساءل. لنكن، على مستوى الثورة، إذن. على مستوى التضحيات العظمى التي يقدمها الشعب السوري الأبيّ. لنـكُفّ، الآن، عن إيذاء الثورة ، والثوار، بلَغْونا، وهياجنا اللامجدي. عسى أن يكون ذلك آخر مهازلنا…
قد يُقال، أن مانكتبه يمكن أن يصبَّ في طاحونة السلطة. لكن السلطة المجرمة لم تعد هي المعيار.لا لأحكامنا الأخلاقية، ولا لأفعالنا، ولا لآمالنا. المعيار الوحيد، اليوم، هو الثورة. ولو حكمنا على المعارضة بهذا المنطق الأعوج والتلفيقي، لحذفنا الكثير منها. هدفنا مما نقول ونكتب ونفعل، وحتى عندما يبدو أننا لا نفعل شيئاً، هو خدمة الثورة، وليس أي شيء آخر. حياة القمع المزمن والقهرالمعمم عَلَّمتْنا ألاّ نُجَمِّل عيوبنا، وألاّ نَكْتُم أصواتنا، ولا أن نغضّ الطرف عن أخطائنا، بعد الآن. لأن وضع غطاء من حرير على مزبلة لا يغيِّر من حقيقتها شيئاً، حتى ولو خَدَع الآخرين. على المعارضة أن تدرك ذلك، وأن تتخلص من عيوبها، إذا أرادت أن تلحق بالثورة، لا أن تكتفي بلَعْقها.
شكرا على هذا المقال المنور.