هل يقتضي الأمر تعريف العزلة أولا درءا لالتباس محتمل؟ فالدلالة الشائعة والمتداولة للعزلة لا تختزلها فقط، بل تسعى نحو تسطيحها، وتوحي بحكم سلبي عليها، لأنها وفق هذا المعنى انسحاب، وتهميش ونأي عن الجماعة، رغم أن العزلة حين تكون اختيارا وانعزالا إراديا وليس عزلا قسريا لا تعني الانسحاب، وقد تكون المسافة بين العينين واللوحة ضرورية لرؤية بانورامية لا تغفل الأبعاد والزوايا كلها.
وحين كتب برديائيف كتابه «العزلة والمجتمع» وهو الذي تعرّض لسوء فهم وتقويل تجاوز كل حدود التأويل أضاء مفهوم العزلة وحرره من تلك الظلال والشوائب التي علقت به، خصوصا في بلدان تحولت فيها الأيديولوجيا إلى خوذة وحذف الهامش، أو ما سماه دانتي في «الكوميديا الإلهية» اللمبو بين فردوس الحزب وجحيم الفرد، ولعلّ دفاع سارتر الشهير عن بيكاسو الذي تعرّض هو الآخر إلى سوء فهم وتقويل يختصر ما يمكن قوله عن هذا الاشتباك.
يقول سارتر إن الحزب أو الأيديولوجيا المنغلقة والمكتفية بذاتها أشبه بأفعى البوا، وحين تبتلع فنانا أو فيلسوفا فهي تختنق به لهذا تلفظه وتقول إنه عسير الهضم، ويثير الغثيان .
وهذا أيضا ما تكرر في كتاب روجيه جارودي «المسألة كلها»، الذي كرّسه للدفاع عن نفسه إزاء ما حكم عليه الحزب الشيوعي، وكان جارودي قد أعلن العصيان على تعاليم الواقعية الخانقة، فكتب كتابه الشهير «واقعية بلا ضفاف»، وجعل الواقعية بمعناها الواسع والعميق وغير المؤطّر والمؤدلج تتسع لأراغون وكافكا وسان جون بيرس، رغم أن الأول، كما تم تصنيفه، سوريالي والثاني كابوسي مضاد للواقع والثالث شاعر البحر وكائناته الذي لا علاقة له باليابسة وما عليها.
وإذا كانت العزلة أو بمعنى أدق الانعزال الطوعي طوق نجاة حين تستشري الأوبئة، فهي أيضا طوق نجاة حين تستشري الرّداءة ويصبح الجهل مقدّسا ومدججا بأسلحة إبادية، الانعزال في هذا الحال اتقاء ووقاية بقدر ما هو ادخار للعافية كي تمارس نشاطها حين يأزف الوقت.
وهناك قصة لألبير كامو من مجموعته القصصية «المنفى والملكوت» عن فنان يقرر الانعزال كي لا تتشوش رؤاه وحواسه أيضا، وأخيرا لا يجد أمامه سوى الإقامة في قفص معلّق على شجرة، والمفارقة أن ما كتبه كامو متخيلا، مارسه شاعر أمريكي في الواقع هو غنزبرغ فقد أقام بالفعل في قفص معلّق على شجرة عملاقة وكانت الطيور هي الزائر الوحيد.
والكاتب في مجتمعات لم تتضح أو تتبلور فيها حتى الآن مهنة الكتابة يجد نفسه مضطرا لإنفاق ثلاثة أرباع وقته وطاقته دفاعا عن حقه في الربع الباقي، لهذا يصبح الانعزال قدرا لا فكاك منه وليس مجرد رغبة في الإصغاء إلى الصّمت، سواء كان منبعثا من الذات أو راشحا من الحجر.
إنها ثلاث عزلات إن شئنا حصرها، الأولى تعبير عن انطوائية أو أعراض مرض نفسي، ونتركها لذوي الاختصاص. والثانية طوعية تستهدف التناغم مع الذات والابتعاد عن صخب الواقع ثم الانصراف إلى هوايات أو انهماكات قد تكون معرفية أو غير ذلك، والثالثة هي ما عبّر عنه برديائيف، إالى حد ما البير كامو، وهي عالية ومضاءة بسخاء، لا يكون فيها الفرد وحيدا، بل يكون مسكونا بالبشرية وشجونها لكن على طريقته، والانعزال الطوعي في هذه الحالة لا يحرم صاحبه من رؤية ما يجري، بل يراه كما يجب أن يُرى، وهنا لا بد من التفريق بين عزلة المبدع الباحث عن مسافة تتيح له أن يرى، وبين عزلة الزاهد الذي ينقطع عن البشر بحثا عن المطلق، فالمبدع يحول عزلته إلى عناق مع هموم أرضية، أما الثاني فإن مملكته وبالتالي عزلته ليست من هذه الأرض. المبدع يذهب بعيدا كي يعود والزاهد يذهب كي لا يعود.
ربما لهذا السبب امتدح بعض الحكماء والشعراء الطريق إلى الهدف، وفضلوا الإقامة في المسافة أي في الحلم كي لا يتبدد مثلما فعل كفافي في قصيدة «الطريق إلى إيثاكا» وبرخت عندما تحدث عن مدينة بيلارس التي لا وجود لها في الجغرافيا لأنها من صنع الخيال والحاجة فقط.
وهناك التباس آخر نتوقف عنده قدر تعلّقه بالعزلة، هو التعامل الاجتماعي مع العزلة، كما لو أنها مرادف للمنفى، لهذا يقال إن هناك هجرة اخرى إلى الداخل، مقابل الهجرة إلى الخارج، والمهاجرون إلى دواخلهم هم أنصار أنفسهم وليسوا غرباء يبحثون عن ملاذ لأنهم الملاذ ذاته.
أذكر أنني تحاورت مع أستاذنا وصديقنا الراحل إحسان عباس حول تسمية مذكراته «غربة الراعي»، فالراعي نادرا ما يلتقي الناس لأنه منصرف إلى قطيعه والناي الشجيّ الذي يتسع لزفراته.
قال إحسان، ثمة فارق بين العزلة والغربة، فالعزلة قرار بالانفصال، أما الغربة فهي مكابدة واحتمال للآخرين، والغربة في عقر الدار والوطن أنكى من النفي، لأنها عناق غير حميم ووصال لا يوقف نزيف الحنين.
ومن عانوا من هذا النمط من الغربة، نزفوا من الخاصرتين، وكان لصمتهم صخب لا تقوى الأذن على احتماله… وحين قال البياتي : يا لها من بنت كلبة، كان يشكو من غربة زمانية تصبح فيها اللغة وسيلة لتعميق سوء التفاهم وليس العكس، كما أراد يوجين يونسكو أن يقول من خلال مسرحية «المغنية الصلعاء»، ولا أظن أن هناك من يخدع نفسه بحيث يضع باروكة على رأس لغة يرطن بها أهلها ولا يفهم أحد منهم أحدا!
كاتب أردني
خيري منصور
السلام عليكم دكتور خيري .
مقالكم اليوم رائع كما العادة فيه من الابداع ما يغني حول مفهور العزلة اشكرك كثيرا/ من خالد المعبضل/-من المغرب-متابع لما تكتب
السلام عليكم دكتور خيري .
مقالكم اليوم رائع كما العادة فيه من الابداع ما يغني حول مفهوم العزلة اشكرك كثيرا/ من خالد المعبضل/-من المغرب-متابع لما تكتب
الأخ خيري منصور،
كما قلتُ في تعقيبي على مقال الأخ صبحي حديدي «إسطنبول باموق: بوظة وملحمة»، من أشهر الكتاب الذين دعوا إلى العزلة، بمفهومها الثالث حسب برديائيف على أقل تقدير، هو الكاتب الإيرلندي الدبلني جيمس جويس الذي لم يكن يكتبُ كتابًا معيَّنًا إلا لكي يكون «كتابًا مقدَّسًا» للبشرية جمعاء، إن صح التعبير. إذ كان هذا الكاتب المتمرد على كلٍّ من اللغة والقومية والدين، يقضي يومًا بأكملهِ من أجلِ كتابةِ جملةٍ وحيدة، أو حتى عبارةٍ وحيدة، ليس غير، إذا كانت هذه الجملة، أو هذه العبارة، تُرضيهِ من كلِّ الجهاتِ. وفي هذا يلتقي جيمس جويس مع أولئك الكتَّاب الآخرين الذين كانوا يفرضون على أنفسهم تلك العزلةَ حتى في الكهوف، وذلك تشبُّهًا بالأنبياء والفلاسفة القدامى، من أمثال الروائي اليوناني نيكوس كازنتزاكي والروائي الإنكليزي د. هـ. لورنس، وغيرهما.
وهنا يحضرني ما كتبه صديقٌ حميم في نصٍّ شعري حواري حول مسألة العزلة، نصٍّ يعكس تنَاصًّا فنِّيًّا مَعَ كلٍّ من الروائية الإنكليزية ڤِيرْجِينْيَا وُولْفْ والروائي الفرنسي أُونُورِيهْ بَالْزَاكْ. فقد جاء هذا النصُّ الشعري الحواري على النحو التالي:
قَالَتْ لَهُ:
«إِنَّ أَجْمَلَ شَيْءٍ عَلى هٰذِهِ الأَرْضِ،
أَنْ تَتَعَلَّمَ فَنَّ الرَّحِيلِ عَنِ الذَّاتِ،
كَيْمَا تُذَوِّتَ ذَاتَكَ في وَاحَةِ الاِنْتِمَاءْ.
وَهٰذَا التَّعَلُّمُ لا يَتَأَقْلَمُ إِلاَّ شَهِيدًا صَهِيدًا،
بِأَتُّونِ عُزْلَتِكَ المُسْبَكِرَّةِ عَنْكَ،
وَعَنْ هَاجِسٍ بِالأُفُولِ سَوَاءً سَوَاءْ».
قَالَ لَهَا:
«إِنَّ العُزْلَةَ رَائِعَةٌ، حَقًّا.
في حَضْرَتِهَا نُرْهِفُ أَسْمَاعَ المَرْئِيِّ إِلَيْنَاْ،
وَإِلى مَا تَنْبِسُ أَفْوَاهُ اللَّامَرْئيِّ بِهِ، أَيْضًا،
مِنْ مَبْنىً أَوْ مَعْنَىْ.
لٰكِنَّكِ تَحْتَاجِينَ إِلى إِنْسٍ لِيَقُولَ مِرَارًا:
إِنَّ العُزْلَةَ رَائِعَةٌ، حَقًّا».