جمال دملج عن «البوتينية ـ أسّس العقيدة السياسية الروسية الحديثة»: غنى في المعلومات ومبالغة في الانحياز لسيد الكرملين 

حجم الخط
0

 

كتاب «البوتينية، أسّس العقيدة السياسية الروسية الحديثة» للصحافي اللبناني جمال دملج، الصادر عن «دار سائر المشرق» في لبنان، مفيد في المعلومات الواردة فيه عن توجهات وسياسات وخلفيات رئيس الجمهورية الروسية فلاديمير بوتين في هذه المرحلة من تاريخ منطقة الشرق الأوسط، وخصوصاً عن دوره العسكري الأخير في سوريا، ولكن تساؤلات قد تُطرح حول تعاطف الكاتب المتزايد مع السياسات الروسية الحالية وتوقيت صدوره.
فالقارئ قد يعترف بخبرة الكاتب دملج الواسعة في تغطية الأحداث الإقليمية والدولية المهمة على مدى 38 عاما، وتنقله كمراسل وإعلامي بين بلدان عديدة في الشرق الأوسط وآسيا وأوروبا قبل أن يتخصص في الشؤون الروسية في أواخر عام 1999 وبالتزامن مع تسلم فلاديمير بوتين مقاليد الحكم في روسيا خلفاً للرئيس بوريس يلتسين، ولكن المعلومات التفصيلية الواردة في الكتاب عن مواضيع سياسية وعسكرية دقيقة، وعلى الرغم من إفادتها الكبيرة للقارئ، فإنها في الوقت عينه تشعره أن كمّاً كبيراً منها ربما تم توفيرها له وتزويده بها من قبل جهات رسمية روسية ربما للترويج لسياسات روسيا في ظل حكم بوتين، لتأكيد صواب خياراته بالمقارنة مع خيارات قادة الدول الغربية والدول الأخرى التي لا تشاركه الرأي حولها. بيد ان هذا الأمر لا يفقد المعلومات الواردة في الكتاب قيمتها.
إن تسمية الكاتب سياسات بوتين «العقيدة السياسية الروسية الحديثة» ووصفه بوتين بـ«المحطة الأكثر إشراقاً في التاريخ الروسي الحديث» التي ترغب في بناء عالم متعدد الأقطاب، بالمقارنة مع رغبة أمريكا وحلفائها في بناء عالم أحادي التوجه ذي قطب واحد، فيه قدر من المبالغة واعتباره أن صعود نجم بوتين في روسيا كان «ضرورة عالمية» فيما كان الأمريكيون (يهددون) استقرار العالم ومعظم دوله، بما فيها روسيا أمر مبالغ فيه أيضا.
في تمهيده للكتاب يقول دملج أنه نذر نفسه مؤخراً للتخصص في نقل الصوت الروسي على حقيقته، أملاً في إيصاله إلى العالم العربي، كما هو، بعيداً عن محاولات التشويه التي يتعرض لها من قبل منظومة إعلامية غربية.
يكرس الفصل الأول لانتقاد الإعلام الدولي والإقليمي المنحاز ضد بوتين والذي قد يمول بعضه مَن يسميهم الرأسماليين الأوليغارشيين الروس الذين جمعوا ثروات ضخمة جداً خلال رئاسة بوريس يلتسين لروسيا.
ويقول في هذا المجال: «لقد تمكن الليبراليون المزيفون خلال مرحلة حكم بوريس يلتسين من خلق نظام يقوم على الرأسمالية الأوليغارشية، وهي الرأسمالية الأسوأ في العالم، حيث شمل الفساد خلال انتشارها جميع نشاطات الإنسان تقريباً وأصبح نمطاً للحياة.. الأمر الذي أدى إلى اتساع الهوة بين فئة قليلة من السكان الذين اغتنوا كثيراً وبين الجماهير الواسعة من الناس البسطاء.. وإحدى فضائل بوتين أنه أوقف نهائيا انزلاق البلاد إلى الهاوية وعرض على الأغنياء ممارسة أعمالهم ودفع الضرائب، ولكنهم رفضوا فاتخذ العقوبات ضدهم واعتقل كبار رموزهم ودفع كثيرين منهم إلى الهجرة».
ويَذكُر في هذا المجال «الأوليغارشيين» بوريس بيروزدوفسكي وميخائيل خودوروكوفسكي وفاليري مالكين وغيرهم، الذين كانوا، حسب قوله، جادين في السعي إلى توريط فلاديمير بوتين عسكرياً على الجبهة الشيشانية أملاً في إنهاكه سياسياً داخل موسكو وفرض شروطهم عليه مما يضمن لهم الاستمرار في المحافظة على امتيازاتهم السياسية الاقتصادية و»المافياوية» في البلاد.
ويشير الكاتب إلى أن معظم هؤلاء كانوا من اليهود المؤيدين لإسرائيل، وخصوصا بوريس بيروزوفسكي الذي كان مسؤولاً في المؤتمر اليهودي الروسي وكان يمول بسخاء القائدين الشيشانيين المتشددين شامل باساييف وابن الخطّاب اللذين اشتهرا بعمليات اختطاف وقتل واحتجاز صحافيين أجانب، علما بأن بيروزوفسكي عاش فترة في بريطانيا ونظم عمليات ضد بوتين قبل أن يُعثر عليه مشنوقاً في شقته في العاصمة البريطانية.
يسرد الفصل الأول من الكتاب معلومات مفيدة عن خلفيات فلاديمير بوتين الشخصية والمهنية، فيقول انه ولد عام 1952 في سانت بطرسبورغ (ليننغراد) وكانت والدته شديدة التدين وعمدته سراً على يد أسقف أرثوذكسي مع أن قوانين الاتحاد السوفييتي الشيوعية آنذاك كانت تحظّر تعميد الأهل لأبنائهم كنسياً. ودرس بوتين في كلية الحقوق في جامعة ليننغراد وحصل على شهادة الدكتوراه في الاقتصاد وخلال شبابه اهتم كثيراً بفنون الدفاع عن النفس. وعقب تخرجه من الجامعة عام 1975، تم تكليفه بالعمل في لجنة أمن الدولة (الكي.جي.بي) (0). وبعد ذلك خدم حتى عام 1990 في جمهورية ألمانيا (الشرقية) الديمقراطية السابقة. وبعد عودته إلى روسيا عمل في الحقل الجامعي وفي مكتب عمدة ليننغراد، وبعد ذلك انتقل إلى الكرملين مساعداً ليلتسين متخصصاً في السياسات الإقليمية.
وعام 1998، أصدر يلتسين قراراً بتعيينه مديراً لجهاز الأمن الفيدرالي الذي خلف جهاز (الكي.جي.بي). وعام 1999 أصبح أميناً عاماً لمجلس أمن الدولة ثم رئيساً لمجلس الوزراء. وعندها قال يلتسين أن بوتين هو خليفته المختار، وهكذا كان.
ويربط الكاتب مواقف بوتين الحالية في سوريا بحربه مع المجموعات الإسلامية الشيشانية العسكرية التي يشير إلى ارتباطها بسياسات الدول الغربية الساعية إلى اضعاف الرئيس الروسي والتي هي، حسب قول الكاتب، منتشرة بكثافة في بعض مجموعات المعارضة السورية المسلحة.
وهنا يورد تفاصيل وأسماء قد يكون حصل عليها من مسؤولين عسكريين وأمنيين روس يحتلون مناصب عالية مطلعة على معظم الأمور، إذ يصعب على صحافي عادي الحصول عليها. وبالتالي، فهي مفيدة للقارئ الذي لا تتوافر لديه مثل هذه المعلومات الدقيقة برغم الأسئلة التي قد تُطرح حول مصادرها.
ويبرر دملج رفض الجانب الروسي الرسمي لمبادرة السلام التي قدمها الرئيس الشيشاني أصلان ماسخادوف لوضع نهاية للحرب الشيشانية بأن موسكو شككت في قدرة ماسخادوف على إحلال السلام نظراً لأنه كان يسيطر على عشرين في المئة فقط من المقاتلين الشيشانيين مقابل ثمانين في المئة يمثلون تيار شامل باساييف وابن الخطاب. وهؤلاء، يقول الكاتب في الفصل الثاني من الكتاب بعنوان «الاستحقاق الشيشاني» يشكلون في الوقت الحالي السيف المسلط على رقبة القيادة الروسية في سلاح الحرب الشيشانية، ويخشى بوتين من تصاعد نفوذهم وعملياتهم في مناطق نفوذ روسيا في آسيا الوسطى والشرق الأوسط والعالم الإسلامي عموما.
وفي الفصل الثالث من الكتاب بعنوان «لعبة الكر والفر» يتحدث بالتفصيل عن أزمة أوكرانيا ودور روسيا هناك بعد المواجهة مع قيادة جمهورية جورجيا السابقة المؤيدة للغرب. والجزء الشديد الأهمية في هذا الفصل كان في المقاطع التي تناولت ترابط مصالح روسيا الاقتصادية، وخصوصا في قطاعي الغاز والنفط، مع الدور العسكري الذي تقوم به موسكو حاليا في المنطقة، فيعتبر دملج ان نشوء «حزب العدالة والتنمية» بقيادة رجب طيب اردوغان وعبد الله غول في تركيا على حساب الزعيم الإسلامي التوجه نجم الدين أربكان تم بدعم أمريكي بهدف إرباك القيادة الروسية في ملفات دولية ساخنة في منطقة الشرق الأوسط. ووعدت أمريكا القيادة التركية آنذاك بتحويل تركيا إلى أحد أهم ممرات ترانزيت خطوط نقل الغاز في العالم في ظلّ فشل جميع المحاولات الساعية للحيلولة دون استمرار تدفق الغاز الروسي إلى الأسواق الأوروبية. ويربط الكاتب هذا المشروع بمشروع أمريكا المسمى «الشرق الأوسط الجديد» حيث كانت ستساهم تركيا بقيادة «حزب العدالة والتنمية» في العمل على تقسيم مصر وسوريا والخليج العربي إلى دويلات عرقية ومذهبية على ان تلتزم أمريكا بترك النفوذ في الدويلات السنية للأتراك، شريطة أن يحوّل اردوغان بلاده إلى عقدة غاز عالمية يكون النفوذ الأساسي فيها لواشنطن.
كما يربط الكاتب تدمير العراق ضمن خطة وضع اليد على مصادر الطاقة العالمية بما فيها النفط والغاز والسيطرة على ما يسمى «قوس النفط الكبير» الذي يبدأ طرفه الشمالي في آسيا الوسطى وبحر قزوين ليمتد طرفه الجنوبي إلى الخليج العربي. ويعتبر أن عنصر الغاز في مصالح أمريكا والغرب ربما أصبح يطغى بأهميته على النفط، وخصوصاً في ظل ظهور المؤشرات على تنامي قدرات شركة «غازبروم» الروسية في الأسواق العالمية ما استوجب إعادة تفعيل دور الحلف الأطلسي في المنطقة.
نظرية المؤامرة هذه التي يوردها الكاتب في الفصل الثالث، قادته إلى تفسير معظم ما حدث في الشرق الأوسط في السنوات العشرين الأخيرة بسعي أمريكا إلى منافسة الغاز الروسي وإيجاد بدائل لعدم وجود إمكانية لمد خط أنابيب الغاز من الخليج إلى أوروبا.
كما يطور نظريته هذه قائلا إن أمريكا سعت إلى منافسة روسيا على الغاز في أماكن أخرى من العالم ككازاخستان وتركمانستان وأذربيجان ومصر وإيران بالإضافة إلى الحقول المكتشفة على ساحل البحر الأبيض المتوسط ما بين إسرائيل ولبنان وقبرص. ويصل إلى خلاصة هي أن أمريكا تسعى لان تصبح روسيا عاجزة عن شراء الغاز من وسط آسيا برمته، الأمر الذي سيُرغم قادة دول تلك المنطقة على الدخول في النفق الأمريكي من أجل تسويق إنتاجهم، وسيشكل بالتالي ضربة موجعة لطموحات شركة «غازبروم» الروسية. ويربط هذه النظرية برغبة أمريكا في إنشاء دويلات طائفية في الدول المحيطة بالبحر المتوسط وتقسيمها إلى تكتلات طائفية تديرها إسرائيل، بما يضمن تصفية القضية الفلسطينية والقضاء على المقاومة اللبنانية والسيطرة على منابع الغاز في المنطقة وبالتالي، يمكن الاستخلاص مما ورد أن روسيا تتدخل عسكريا في المنطقة حالياً، وتزيد عدد قواعدها العسكرية من أجل منع تحقيق هذه الأهداف الأمريكية والغربية المنشأ.
الفصل الرابع عن روسيا و»ربيع العرب» يندرج أيضا في نظرية المؤامرة التي تهيمن على الكتاب عموماً وتبدأ في الفصل الثالث والرابع وتستمر بعدهما.
ويتحدث الكاتب في الفصل الرابع تحت عنوان «روسيا وربيع العرب» عن محاولات سعودية لاستمالة روسيا لمواقفها، وعن وجود دراسات أشارت للمرة الأولى إلى اكتشاف «حقل قارة» في سوريا يمكن أن يوفر أكثر من أربعمئة ألف متر مكعب من الغاز يومياً، الأمر الذي يحسم مسألة ثراء هذه الدولة ويؤهلها لكي تحتل مركزاً متقدماً في الترتيب العالمي لإنتاج الغاز في المستقبل القريب.
وينوه الكاتب بإنفتاح سياسات بوتين إزاء المبادرات لحل الأزمة السورية سياسياً واستعداده للحوار مع القيادة السعودية الجديدة ودعوته لعدم التصلب في حل أزمة رئاسة الجمهورية اللبنانية، ويعتقد دملج باختصار ان نيات بوتين حسنة في كل ما يفعله، ومواقفه في مجملها صائبة!
جمال دملج: «البوتينية أسّس العقيدة السياسية الروسية الحديثة»
دار «سائر المشرق»، بيروت 2016
261 صفحة

سمير ناصيف

إشترك في قائمتنا البريدية